وما كانت آلامي لتعزب عن شعورها، فأراها لا تستطيع مقاومة إشفاقها على ما أبدي من مجالدة وحزم، فكانت كل حركاتها وسكناتها أمامي تنم عن لينها، فإنها كانت تشهد العراك القائم بين جنبي فتبدو فخورة بإطاعتي لها، غير أن شحوب وجهي كان يثير في قلبها ما انطوى عليه من إشفاق الممرضات، فكانت تبدو أمامي في بعض الأحيان مضطربة إلى حد الدلال، فتقول بلهجة مداعبة: لن أكون هنا غدا، أو تعين يوما تمنعني الحضور فيه، وإذا كانت تراني مستغرقا في الحزن تتلطف قائلة: لا أعلم، على كل حال تعال، أو تزيد في رقتها وتذهب لتشيعني حتى الحاجز، فتزودني بنظرة تترقرق العذوبة في حزنها.
وكنت أقول لها: ثقي أن العناية قادتني إليك، ولو أنني ما عرفتك لكنت عدت إلى ضلالاتي. لقد أرسلك الله ملاك أنوار رفعني من اللجة المظلمة، فما رسالتك إلا سبيل الخير، ومن يدري إذا حكم علي بالابتعاد عنك إلى أية المهاوي تطرحني أحزاني وما اختبرته من الحياة في أوائل صباي، وما سيفعل بي تضجري وملالي.
وكان لهذه الفكرة التي أعبر عنها بإخلاص شديد التأثير على امرأة لها مثل هذه التقوى ومثل هذه الروح المضطرمة في عقيدتها.
وكنت أستعد يوما للذهاب إليها، فإذا بالباب يقرع، وبمركانسون يدخل علي - وهو الكاهن الذي كنت رأيته من قبل في حديقتها - فبادرني باعتذارات أثقل من شخصيته عن إقدامه على زيارتي دون سابق معرفة، فقلت له: إنني أعرفه وأعرف عمه كاهن القرية، وسألته عما يريد.
فظهرت عليه الحيرة، وبدأ يقلب عينيه يمينا وشمالا ويداعب الأوراق الموجودة على الخوان أمامه كمن يفتش على ما سيقول، وأخيرا وفق إلى القول: إن مدام بيارسون مريضة، وإنها كلفته أن يبلغني عدم إمكانها مقابلتي في ذلك اليوم.
فقلت: أمريضة هي؟ وكيف ذلك وقد فارقتها أمس في ساعة متأخرة وهي على أحسن حال.
وانحنى الكاهن مسلما فاستوقفته قائلا: هب أنها مريضة، فهل من موجب لإرسال من يبلغني ذلك؟ وهل بيتها بعيد عني لتقصد توفير العناء بوصولي إليه؟
وبقي صامتا وبقيت مستغربا، فقلت له أخيرا: لا بأس! سأراها غدا فتطلعني على جلية الأمر.
وعاد إلى حيرته فقال: إن مدام بيارسون قد عهدت إليه أيضا بإبلاغي أنها جد مريضة، ولا يمكنها أن تستقبلني إلى أسبوع.
وانحنى مسلما وولى.
Неизвестная страница