فقال بصوت طغى التأثر على هدوء نبراته: أعدك بألا أدخر جهدا في هذا السبيل، ولكن الرسائل التي تلقيتها لا تدع لي أملا كبيرا، فإذا ما حبطت مساعي فلا تتهميني بالقصور، وعلى كل لا تتوقعي ورود أخبار تسرك في القريب العاجل. ثقي بي؛ فإني مخلص لك.
وبعد أن وجه سميث إلينا بعض كلمات من قبيل المجاملة تحول نحو الباب، فسبقته إليه وخرجت لأدع له مجالا لخلوة أخيرة، ودفعت الباب، ورأى كأنني أبتعد، ثم عدت فألصقت أذني بفتحة المزلاج.
وحدق سميث فيها قائلا: متى أراك؟
فقالت: لن تراني بعد. الوداع يا هنري.
ومدت إليه يدها، فرفعها إلى شفتيه وخرج، ولو لم أندفع بسرعة إلى الوراء لكان اصطدم بي.
وعندما خلوت ببريجيت وهي حاملة دثارها تنتظر إشارتي - وقد بدا التأثر بجلاء على ملامحها - شعرت بانقباض في حشاشتي. وكانت قد وجدت مفتاح مكتبها؛ إذ رأيت أدراجها مكشوفة، فارتميت على المقعد قرب الموقد وقلت لها وأنا لا أجسر على التحديق في عينيها: اصغي إلي يا بريجيت. لقد أسأت إليك كثيرا، وقد حق علي أن أتحمل آلامي فلا أشكو إلى أحد. لقد طرأ على حالك من التبدل ما ضعضعني، فاضطررت إلى دعوتك لجلاء أمرك، ولكنني أعدل اليوم عن الاستفسار، وأصرح لك بأنني راض بالبقاء هنا إذا كان يصعب عليك الرحيل.
فقالت: هيا بنا؛ فلنرحل. - لك ما تشائين، ولكنني أقتضي الصراحة منك، فأنا مهيأ لاقتبال أي سهم يسدد إلي دون أن أسأل عن مصدره، فلا أتململ ولا أشكو، وإذا كان قضي علي بأن أفقدك، فما أطلب منك إلا حجب الأمل عني كيلا أتعثر بأذياله فأموت.
فحدقت في قائلة: حدثني عن حبك ولا تذكر أوجاعك.
فقلت: أحبك أكثر من الحياة، وما أوجاعي إلا أوهام تجاه هذا الغرام. تعالي لنذهب إلى آخر الدنيا؛ فأحيا بك أو أموت من أجلك.
وتقدمت نحوها فإذا بالاصفرار يعلو وجهها، وإذا بها تتراجع إلى الوراء مرغمة وهي تكره شفتيها المتقلصتين على الابتسام، وذهبت إلى مكتبها قائلة: أنلني هنيهة من الزمن؛ إذ علي أن أحرق بعض أوراق، وأبرزت رسائل أقاربها أمامي ثم مزقتها وألقت بها إلى النار، وعادت فأخرجت أوراقا أخرى طالعتها ووضعتها على الخوان، وما كانت هذه الأوراق إلا قوائم حسابات لبعض موردي حوائجها، وبينها ما لم تكن دفعت ثمنه بعد، وطفقت تتكلم وهي تدقق في هذه الحسابات، راجية عفوي عنها لاحتفاظها بالصمت طوال المدة الأخيرة، مبدية نحوي أشد العطف، مستسلمة لإرادتي، فرأيت فيها مجسم الحب أو مجسم مظاهره، وذهب مرحها المصطنع يحز في قلبي؛ إذ رأيت فيه ألما يجحد نفسه، فيتكلف سرورا أفجع من النواح، واستسلاما قرارته أمر عتاب، وقد كان خيرا لي لو أنها ظهرت جامدة ولم تلجأ إلى هذا الهياج المكذوب للتغلب على نفسها.
Неизвестная страница