وكلما اقتربت من العقل دخل فيها التركيب ودخلت فيها «الفردية» تبعا للتركيب.
والفرق بين أدنى الأحياء وأعلاها هو الفرق في درجات «الفردية» أو في درجات الوعي الفردي الذي يقابل الوجود كله بالإدراك والاستيعاب.
فالنبات قليل الفردية لأن الشجرة فيه قليلة التميز من شجرات نوعها، والحيوان أرقى منها لأن التعميم فيه أقل من التخصيص، والإنسان أرقى من النبات والحيوان لأن الفرد فيه يتخصص كلما ارتفع بعقله حتى يكون له وعي مميز بالاستقلال عن جميع العوارض الأخرى، أو عن جميع العموميات.
هذا الارتقاء في الفردية هو الاقتراب من الوحدانية، أو من الواحد الأحد الذي ليس له شريك، وهذا هو المعنى الذي يسوغ لنا أن نقول إن الإنسان مخلوق على صورة الله.
ومتى ارتفع الوعي إلى هذا الأوج فتلك هي مرتبة الكمال وتليها مرتبة الاتصال التي يسميها المتصوفة بالفناء في الله.
وهذا ارتقاء مطرد لا فجوة فيه من مصدر التعميم إلى أعلى التخصيص، ومن شعاع النور إلى الوحدانية التي ليس لها شريك وهي غاية الغايات، ومن نور محدود إلى نور ليس له انتهاء.
وقد يفسر لنا هذا الرأي خطوات التاريخ التي ترتقي فيها «الحرية الفردية» على اطراد لا نكوص فيه، ويفسر لنا ما اعتقدناه من أن الحرية هي الجمال لأنها لا تكون إلا مع النظام والتميز بين الأشياء، ويفسر لنا ارتقاء العبادات بارتقاء الحرية من التعديد إلى التوحيد.
وعلى هذا المعنى لا نفهم لماذا يمتنع التأثير من المعقولات في الماديات؟ ولماذا تنعزل المادة والعقل كأنهما من خلق إلهين متناقضين أو كأنهما في كونين منفصلين؟
ولا بد في المسائل الأبدية من وقفة واحدة في النهاية، نقف عندها ونقول: إلى هنا انتهى سبح العقول.
وذلك أول ما يؤمن به العقل في هذا الموضوع؛ لأن الإحاطة إنما تكون إحاطة بالمحدود الذي يقبل إقامة الحدود والتفريقات. أما السرمد الذي لا أول له ولا آخر فلن يقاس على شيء ولن يقاس شيء عليه، ولا بد من وقفة في النهاية لديه.
Неизвестная страница