(246) وربما لم يجمع السائل بين المتناقضين إما للاختصار وإما للإخفاء. وربما لم يستعمل حرف " هل " ولكن يستعمل حرف التقرير - وهو " أليس " - فيما يظن أن المجيب لا يمنع من تسليمه، وذلك في المشهورات. ولكن للمجيب أن لا يسلم ذلك الذي ظن السائل أنه يسلمه وله أن يسلمه نقيضه. لأن صناعة الجدل هي الارتياض والتخرج في وجود قياس كل واحد من المتناقضين وارتياض فيما ينبغي أن يفحص عنه وتعقب لكل واحد مما يقال فيوضع. فلذلك لا يبالي المرتاض بصدق ما يرتاض فيه ولا كذبه. فلذلك إذا سألت " هل كذا موجود كذا " إنما تستعمل " الموجود " رابطا للمحمول بالموضوع في الإيجاب و" غير الموجود " رابطا في السلب من غير أن تعني به شيئا آخر غير ذلك. وقولنا " هل الإنسان موجود " إنما نعني به هل ما يعقل منه هو وهم صادق أو كاذب. فلذلك أدخله الإسكندر الأفروديسي في مطلوبات العرض، إذ كان الصدق والكذب عارضين للأمر. وقوم أدخلوه في مطلوبات الجنس وآخرون أدخلوه في مطلوبات الحدود، إذ كان قد يفهم من قولنا هل الإنسان موجود " هل له ماهية بها قوامه أم لا.
(247) غير أن الجدل ليس يرتفع في معاني الموجود عن ما هو المشهور من معانيه. فلذلك ينبغي أن يفهم من قولنا " هل الإنسان موجود " معنى هل الإنسان أحد الموجودات التي في العالم، مثال ما يقال في السماء " إنها موجودة " وفي الأرض " إنها موجودة " ، وهي كلها راجعة إلى أنها صادقة. فإنهم إنما يسمون " غير الموجود " ما كان قد يتوهم في النفس توهما فقط من غير أن يكون خارج النفس. وإلى هذا المقدار يبلغ الجدل من معاني الموجود. أما في قولنا " هل كذا موجود كذا " فإنمانستعمل الموجود رابطا يربط المحمول بالموضوع. وأما في مثل قولنا " هل الخلاء موجود " فعلى معنى هل ما يفهم من معاني الخلاء وهم كاذب أو هو مثال لشيء خارج النفس. أما عند تأملنا هذه الأشياء التي فيها نرتاض في الجدل عند فلسفتنا فيها لنصادف الحق اليقين فيها، فإنا نأخذ المقدار الذي يفهمه الجمهور منه والذي يفهمه أهل الجدل فنتأمله، فإن لزم عنه محال أزلنا موضع المحال منه ونكون قد وقفنا منه على شيء زائد نتأمل ما صادقه منه. فإن لزم منه أيضا محال أو كان هناك قياس أبطله، أزلنا الموضع الذي لزم عنه المحال ونكون قد وقفنا منه على شيء آخر أيضا. ولا نزال هكذا حتى لا يبقى فيه موضع معارضة ولا موضع يلزم منه محال. وهذا ليس بارتياض ولكن ابتداء من المعرفة الناقصة بالشيء وتدرج في معرفته قليلا قليلا إلى أن نبلغ إلى أقصاه أو إلى أكمل ما يمكن أن نعرف به الشيء.
(248) وأما السوفسطائية فإنها تستعمل السؤال بحرف " هل " في ثلاثة أمكنة. أحدها عند التشكيك السوفسطائي، قإنه يسأل بالمتقابلين وبما هو في الظاهر والمغالطة متقابلين، ويلتمس إلزام المحال من كل واحد منهما. والثاني عندما تتشبه بصناعة الجدل أو تغالط وتوهم أن صناعتها هي صناعة الارتياض. فيستعمل السؤال بحرف " هل " عند تسلم الوضع ويستعمله أيضا عندما يلتمس تسلم المقدمات التي يبطل بها على المجيب الوضع الذي تضمن حفظه. غير أن ما تفعله صناعة الجدل فيما هو في الحقيقة مشهور تفعله السوفسطائية فيما هو في الظن والظاهر والتمويه أنه مشهور من غير أن يكون في الحقيقة كذلك. والثالث عندما تتشبه بالفلسفة وتوهم أنها هي صناعة الفلسفة. وكل موضع تستعمل فيه الفلسفة فيه السؤال بحرف " هل " وتطلب به الحق اليقين من المطلوب بحرف " هل " فإن السوفسطائية تطلب فيه بحرف " هل " ما هو في الظن والتمويه والمغالطة حق يقين لا في الحقيقة.
Страница 79