(220) وليس هي صناعة تصحح الآراء ولا تعطي اليقين كما يفعل ذلك التعاليم وسائر علوم الفلسفة. ولو استعملت في تصحيح الآراء لم تحصل عنها إلا الظنون وإنرفعت اختلافا بين أهل النظر في الأشياء الفلسفية، على ما كان عليه الأمر في القديم قبل أن تحصل القوانين المنطقية في صناعة. فإنه ليس يستفاد من صناعة الجدل إلا القدرة على الفحص والتنقير وتعقب ما يخطر بالبال وكل ما يقوله قائل أو يضعه واضع من الأشياء النظرية والعلمية الكلية، وليس نقتصر على شيء منها دون شيء. إلا أننا إنما نحتاج له ونرى الأفضل له أن يجعل ارتياضه بالفعل في ذلك في مسائل بأعيانها على صفات محدودة - وقد وضعت في كتاب " الجدل " كيف ينبغي أن تكون المسائل حتى إذا استفاد القوة على التنقير والفحص والتعقب في تلك المسائل استعمل تلك القوة في باقي المسائل. كما أن الذي يرتاض بالفروسية أولا إنما يتخير له أولا من الأفراس على صفات ما، ثم ينتقل إلى أفراس أخر بارتياضه، حتى إذا استفاد القوة على تلك الأفراس يكون قد استفاد الصناعة. فحينئذ يستعمل بقوته تلك أي فرس شاء فيقوى. وإذا أراد أن يحفظ قوة الفروسية على نفسه بعد أن تحصل عنده كان ارتياضه في الميادين لاستبقائها عنده على أفراس بأعيانها، لا لأ ن الفروسية هي قوة على استعمال أفراس بصفات ما محدودة فقط يقتصر عليها فقط وإن كان ارتياضه عند تعلمهلها وارتياضه ليحفظها على نفسه في أفراس محدودة موصوفة بصفات ما ويقتصر عليها فقط. كذلك الجدل ارتياض في مسائل محدودة موصوفة بصفات ما ويقتصر عليها فقط من غير أن يكون صاحبه قد وقف على الصادق من كل متقابلين وتعقبه واطرح المقابل الآخر. وما يشتمل عليه ذلك العلم فكلها حاصلة بالفعل في ذهن الذي يتعاطاه محفوظة لديه وينطق عنها أي وقت شاء.
(221) فمتى استعمل ذلك في علم من العلوم وأديمت فيه المراجعة والتعقب واستقصي إلى أن لا يبقى فيه للفحص موضع وامتحن بقوانين البرهان اليقينية وحصل ما حصل منه بتصحيح قوانين البرهان، صار علما برهانيا واستغني فيه عن صناعة الجدل. وأنت يتبين لك ذلك من التعاليم، فليس يحتاج فيها إلى الفحص، لأنها إنما صارت صناعة يقينية بعد أن فحص عنها وتعقب إلى أن بلغ بها اليقين، فلم يبق فيها بعد ذلك للفحص موضع، ولذلك صارت المخاطبة فيها تعليما وتعلما. فسؤال المتعلم للمعلم ليس بفحص ولا تنقير ولا تعقب لما يقوله المعلم بل إنما يسأله إما لتصور وتفهم معنى شيء ما في الصناعة، وإما للتيقن بوجود ذلك الشيء، أو مع ذلك سبب وجوده ليحصل له البرهان على الشيء الذي عنه يسأل - فالأول بحرف " ما " ، والثاني بحرف " هل " وما جرى مجراه، والثالث بحرف " لم " وما جرى مجراه أوبحرف قوته قوة " هل " و" لم " معا إن كان يوجد ذلك في لسان ما. ولما كان التعليم على ترتيب، لم يكن لسؤال المتعلم للمعلم على طريق التشكيك موضع أصلا. فالمتعلم إذ يسأل " هل كل مثلث فزواياه الثلاث مساوية لقائمتين، أو مثلث واحد كذلك " يسأل وقد تقدمت معرفته بما قبله من الأشكال، فيخبره المعلم بأن كل مثلث كذلك ويردف ذلك بأن يتلو عليه برهانهالمؤلف عن مقدمات قد تبرهنت عند المتعلم قبل ذلك، فلا يبقى له بعد ذلك موضع لسؤال.
Страница 72