فإذا اتخذت الدولة منهم حامية، أو ألفت منهم كتيبة، عجزوا عن سد ثغورها، وشلت أيديهم من قبل أن يشدوا بعضدها.
وإن أردت مثلا يثبت فؤادك ويؤيد شهادة العيان، فاعتبر بما قصه الله تعالى عن قوم موسى عليه السلام، لما أمرهم بالدخول للأرض المقدسة وملكها، كيف قعد بهم الخوف عن الطاعة والامتثال، وقالوا: إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها. فمتى جئت تسأل عن الأمر الذي طبع في قلوبهم الجبن، وتطوح بهم في العصيان والمنازعة إلى قولهم:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، وجدته خلق الانقياد المتمكن في نفوسهم من يوم كانت الأقباط ماسكة بنواصيهم وتذيقهم من سوء الاستعباد عذابا أليما.
والأمة مفتقرة إلى الكاتب والشاعر والخطيب، والاستبداد يعقد ألسنتهم على ما في طيها من الفصاحة، وينفث فيها لكنة وعيا، فتلتحق لغتهم بأصوات الحيوانات، ولا يكادون يفقهون قولا.
وإذا أضاءت على الأمة شموس الحرية، وضربت بأشعتها في كل واد، اتسعت آمالهم، وكبرت هممهم، وتربت في نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة، ومن لوازمها اتساع دائرة المعارف بينهم، فتتفتق القرائح فهما، وترتوي العقول علما، وتأخذ الأنظار فسحة ترمي فيها إلى غايات بعيدة، فتصير دوائر الحكومة مشحونة برجال يعرفون وجوه مصالحها الحقيقية، ولا يتحرفون عن طرق سياستها العادلة.
والحرية تؤسس في النفوس مبادئ العزة والشهامة، فإذا نظمت الحكومة منهم جندا، استماتوا تحت رايتها مدافعة، ولا يرون القتل سبة إذا ما رآه الناكسو رءوسهم تحت راية الاستبداد.
ثم إن الحرية تعلم اللسان بيانا، وتمد اليراعة بالبراعة، فتزدحم الناس على طريق الأدب الرفيع، وتتنور المجامع بفنون الفصاحة وآيات البلاغة؛ هذا خطيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك شاعر يستعين بأفكاره الخيالية في نصرة الحقيقة، ويحرك العواطف ويستنهض الهمم لنشر الفضيلة، وآخر كاتب، وعلى صناعة الكتابة مدار سياسة الدولة.
ولم تكن ينابيع الشعر في عهد الخلفاء الراشدين فاغرة أفواهها بفن المديح والإطراء، وإنما ترشح به رشحا، وتمسح به مسحا، لا يظهر من فضيلة الحرية فتيلا، وما انفلت وكاؤها وتدفقت بالمدائح المتغالية إلا في الأعصر العريقة في الاستبداد.
ولما وقر في صدر عمر بن عبد العزيز من تنظيم أمر الخلافة على هيئته الأولى، لم يواجه الشعراء بحفاوة وترحاب، وقال: ما لي وللشعراء. وقال مرة: إني عن الشعر لفي شغل. انتجعه جرير بأبيات، فأذن له بإنشادها، وقال له: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقا. وعندما استوفاها واصله بشيء من حر ماله، فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. ثم أنشد يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
Неизвестная страница