الحرية
المشورة
المساواة
الحرية في الأموال
الحرية في الأعراض
الحرية في الدماء
الحرية في الدين
الحرية في خطاب الأمراء
الحرية
المشورة
Неизвестная страница
المساواة
الحرية في الأموال
الحرية في الأعراض
الحرية في الدماء
الحرية في الدين
الحرية في خطاب الأمراء
الحرية في الإسلام
الحرية في الإسلام
تأليف
محمد الخضر حسين
Неизвестная страница
هذه مسامرة الشيخ السيد محمد الخضر بن الحسين، أحد المدرسين بجامع الزيتونة الأعظم، والمدرس بالقسم الخامس من المدرسة الصادقية، ألقاها بنادي جمعية قدماء تلامذة الصادقية مساء يوم السبت 17 في ربيع الثاني سنة 1324 وهو يومئذ القاضي بمدينة بنزرت.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، الحمد لله الذي خلق فسوى، وجعل التمايز في مقام الكرامة بالتقوى، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أنقذنا من ذلة الشقاء، وخلع علينا لباس العزة عند اللقاء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أيها الفضلاء: إن لكل شيء سببا، ولكل غرض باعثة، والذي أخذ بيدي إلى هذا المنتدى الأدبي، وبعث عزيمتي إلى تحرير ما سنلقي عليكم بيانه أن صديقنا السيد خير الله - رئيس هذه الجمعية (جمعية قدماء تلامذة الصادقية) - خيل له ظنه الجميل أني صاحب مكانة في انتخاب جواهر الأسمار وتآليفها، على وجه يكون أقرب إلى القبول وأدعى إلى التأثير، فخاطبني على أن أضع مسامرة تنطبق على الخطة التي رسمتها الجمعية لنفسها، وأقدمها هدية إلى مسامعكم الزكية بلسان عربي وأسلوب حكيم.
تلقيت ذلك الخطاب بواسطة صحيفة من صديقي النحرير الشيخ السيد محمد الطاهر بن عاشور - رئيس هذه الحفلة الجامعة - أرسل بها إلي، حيث طوحت بي طوائح القضاء المحتوم، فاستوقفت له خاطري وقفة المتردد، واستلفت له نظري لفتة المتروي لما يرد على فكري من القضايا التي لم تبق لي مثقال ذرة من الوقت شاغرا، والشواغل التي من شأنها إذا لبست فكرة ذهبت بها في جانب يبعد عن ناحية هذا الغرض بمراحل واسعة؛ فمتى قلبته في هذا الميدان أخشى أن تقيده حبسة أو يثنيه جماح، ولا سيما حين يلج به الغوص في بعض المواضيع التي يبعد شأوها ويعلو مرتقاها.
لبثت في هذا التردد أمدا غير بعيد، فإذا أمنية تنازعني في نفسي، ولطالما نظرت إليها بعين المشوق المستهام، إن هي إلا ابتغاء الدخول في صف فتية من إخواني الأدباء كنت أسايرهم إذا أعنقوا في الآداب، وأشد كفي بعرى مرافقتهم التي ألفتها قديما، ولبثت فيها من عمري سنين، فأكره شديدا أن أسل يدي من رابطتهم، وأحجم عن مجاراتهم ما اهتديت لذلك سبيلا.
تحركت هذه الأمنية وقويت داعيتها، فأرتني الأمر قريب المأخذ، سهل التناول، حتى تخيلته موضوعا على طرف الثمام، فانقلب ذلك التردد من حينه حادي سمع ومطاوعة. وعند التفاهم مع الرئيس في موضوع المسامرة وقع الاختيار على مبحث الحرية في الإسلام. سنحت لي من بين الشواغل فرصة فانتهزتها، وأقبلت ببصري على سماء الإسلامية أقلبه في مطالعها يمينا ويسارا، وأطالع من دلائلها الصادقة ظواهر وأسرارا، حتى استضاء لي من نجومها هدى، وتنفس لي من مشارقها صباح مبين. ثم قصدت إلى سيرة الخلفاء الراشدين، وقبضت من أثرها قبضة أضفت إليها قوادح أنظار هي في الحقيقة خادمة لها، ومساعدة على إبرازها في هيئة تشملها نظرة واحدة، وإليكم مساق حديثها.
لا يمتري أحد فيما تناجيه به حاسة وجدانه من الميل إلى هذه الحياة، والحرص على استطالة أمدها؛ ومن ها هنا اشتدت به الحاجة إلى السعي في مطالبها، والتعلق بأسبابها من الغذاء والكساء والمسكن وما شاكلها، فيقتحم الإنسان المصاعب، ويعاني الشدائد في طلبها، ولا يثبطه عنها ما هو موضوع في طبيعته من الميل إلى الكسل والراحة.
وقد يجري على مخيلته اشتباه: هل الولوع بالحياة الدنيا يكون للذاتها وطبيعتها؟ أو للغايات التي يحرزها في مضمارها، والمآرب التي يتصيدها بحبالتها؟ فيدعوه هذا الالتباس إلى حركة فكرية يستنتج من وراء تدافعها أن النفوس الناطقة إنما أولعت بحب هذه الحياة، وشغفت بلذة عيشها من جهة اعتبارها مسرحا للأماني وموطنا للمساعي التي تجتني من غايتها ثمرا لذيذا، لا بالنظر لحقيقتها التي تشاركها فيها سائر الحيوانات، وهي الصفة التي تقتضي الحس والحركة.
ولا تظهر صحة هذا الاستنتاج جليا إلا بمشاهدة آثار النفوس العالية، ووضعها على محك النظر والاعتبار، فإن مدافعتها في صيانة أعراضها وحماية أموالها أو القانون الكافل بحقوقها لا تقصر عن درجة الدفاع للفوز بحياتها؛ وما ذاك إلا لما ينطوي في عقيدتها من أن كل هذه الحقائق سلاح تجاهد به في سبيل ترقياتها المدنية وسعادتها الخالصة.
Неизвестная страница
وقد يجادل الرجل عن ناموس دينه وعرضه وماله بالتي هي أبلغ وأشد نظرا، إلا أن فناءه والتحافه بالتراب أكمل حالا من بقائه أعزل من الوسائل التي يدرك بها مقاما محمودا وشرفا مؤثلا، وكثيرا ما يستوحش من عصر شبابه إذا حبط سعيه سدى، وفاجأه الحرمان من اجتناء فائدة علق عليها أملا حريصا.
وربما آثر انصرام أجله إذا حاق به بلاء زرر عليه الفضاء، أو اشتدت به أزمة يبيت من أجلها متوسدا لذراع الهم والمتربة، وقد يلذ له كأس المنون إذا أرهقته علة فاقرة خدرت إحساسه، واستحال لها الماء الفرات في ذوقه ملحا أجاجا، إنما استلذ مرارة حتفه لمكان الإياس الذي ربط على قلبه، وكسر من جناحي رجائه دون البلوغ إلى الغاية، كما يسأم من حياته إذا دب في ساعده الفشل، وخالط عظامه الوهن عن القيام بواجباتها، ومن تأول قول الشاعر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
على مثل هذا الوجه لم يكن مخطئا؛ فالرغبة في الحياة تضاهي كراهتها في رجوعها إلى أمر خارج عن حقيقتها، ولكنه يرد من ناحيتها، وينال بواسطتها.
وإذا علمت نفس طاب عنصرها وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية وحياة وراء حياتها الطبيعية لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها وكساء يسترها ومسكن تأوي إليه، بل لا تستفيق جهدها، ويطمئن بها قرارها، إلا إذا بلغت مجدا شامخا يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء، قال امرؤ القيس:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة
كفاني، ولم أطلب، قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
Неизвестная страница
فقوله: ولم أطلب، جملة اعترض بها بين الفعل وفاعله، وفائدتها تحقير شأن المعيشة ، وتبرئة سعيه من أن ينضي الطلب إلى ما هو أدنى، فإنها مما يحصل بغير طلب ولا عناء، وإنما الذي يحتاج إلى الطلب هو المجد المؤثل، ولا يدركه إلا العظماء من الناس.
وقد يسلب من الساعي اختياره، وينزع عزيمته عن العمل سلطة قاهرة، تسند هذه السلطة تارة إلى القدر المحتوم، والبحث عنها في هذا المقام لا يلتئم بالغرض الذي نرمي إليه، وتسند آونة إلى أفراد لم تصبغ أخلاقهم بتربية صحيحة، شأن الأمم المتوحشة، يستهوي بها حب الاستئثار بالمنافع والنفيس من الفوائد إلى أن ينال أولو القوة منها نحو أموال الذين استضعفوا ويصولوا عليها صيال الوحوش الضارية، ثم ينصرفوا بها إلى مساكنهم غير متحرجين من أوزارها، كأنما انصرفوا بتراث آبائهم وأمهاتهم، أو خصهم الله بما خلق في الأرض جميعا، كانت الفوضى بين الأمة العربية سائدة والأمن في بلادهم قبل الإسلام مختلا إذا استشاط أشداؤها غيظا، ونفخت في صدورهم البغضاء والشحناء لا يطفئونها إلا بدم مهراق، ولا يهاب الرجل منهم أن يقذف آخر بمسبة مسمومة السهام، أو يغمد سيفه مثلا في عنق رجل عظيم اعتدى على ناقة نزيل عنده، أو حليف له احتمى بجواره.
الفرد يفرغ جهده في الفرد، والجماعة تضع كلاكلها على الجماعة، ويعدون ذلك كله أثر نخوة أصابوا به المحز من معنى الحرية، أرأيت كيف قال شاعرهم يفتخر بما يأخذه من حمية الجاهلية:
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم
على القوم لم أنصر أخي حين يظلم
أما قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كما في الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما.» فغير مراد منه المعنى الذي قصده الشاعر من الاغتصاب مطلقا حقا أو باطلا. ولقد كشف عليه الصلاة والسلام عن حقيقة مراده بنفسه حين قالوا له: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ فقال: «تأخذ فوق يده.» والمعنى تحجزه وتقيم صدره عن الظلم؛ لأنك إذا أبقيته مكبا على ظلمه واعتدائه، ولم تقبض على يده أفضى به الأمر إلى أن يعاقب بمثل ما اعتدى، فإذا منعته من الظلم وثنيت عطفه عن البغي، فقد استنقذته من عقوبة القصاص، ولا جرم أن وقايته من العقوبات نوع من النصر والإعانة. ثم إن هذه الجملة: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» أول من تكلم بها جندب بن العنبر، وأراد بها ما اعتادوه من الحمية حمية الجاهلية، فأقرها عليه الصلاة والسلام، ولكن نقلها عن موردها الأول، وحملها على معنى يطابق بها الحكمة الصحيحة، ويحشرها في زمرة الإرشادات الإسلامية.
وقد امتد بالعرب في الجاهلية حب الاستقلال الشخصي، والتجرد عن كل ما فيه ضغط وحجر إلى إبايتهم وتعاصيهم عن الدخول تحت نظام ملكي يرد شكيمتهم، ويكبح من جماحهم، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا
Неизвестная страница
أبينا أن نقر الذل فينا
ومن أجل ذلك كانوا لا يألفون الحواضر، ويفرون من الإقامة داخلها فرار الصحيح من المجذم يوجسون في أنفسهم أنها ذريعة للمسكنة، وسبيل للرغم من أنف العزة والعظمة، وجرى على هذا أبو العلاء المعري حين قال:
الموقدون بنجد نار بادية
لا يحضرون، وفقد العز في الحضر
وقال ابن الرومي:
هذا أبو الصقر فردا في محاسنه
من نسل شيبان بين الضال والسلم
والضال والسلم شجرتان بالبادية، وكنى بذلك عن إقامتهم بالبادية، وعدم نزولهم عنها إلى السكنى بالحاضرة، لينتقل من هذا إلى العلم بأنهم لم ينخلوا من ثوب عزهم، ويدخلوا تحت سيطرة الأحكام الملكية.
وما مثل العرب في حال عتوهم أزمنة الجاهلية إلا كمثل شجر أضغاث نشأ بمفازة مجهولة من الأرض، فاستغلظ والتوى قويه على ضعيفه يقطعه من أطرافه، ويقتل ما فيه من القوى النامية. ولولا الحكمة البالغة والأسلوب اللطيف الذي ساسهم به الإسلام إلى شريعته مع ما أودعه الله في طباعهم من سلامة الذوق ورقة الشعور ما كادوا يدخلون في دينه أفواجا، ويتقلدون عقائده وتكاليفه برغبة حريصة واختيار من تلقاء أنفسهم.
وأحيانا تسند تلك السلطة إلى هيئة حكومة، كما مر في الأزمنة الغابرة على أقوام مثل الجرمان، وهم على حالة قبائل بدوية وحكومة كل منهم في قبضة رئيس يدير شئونهم كيف يريد ويسخرهم كما تسخر الأنعام إلى حيث تشاء أغراضه الذاتية، ولما امتدت ولاية الرومانيين على كثير من أوروبا ضمت تحت جوانحها أولئك الطوائف، فازداد خناق الاستعباد في أعناقهم ضيقا وارتباطا، ومن أثر ذلك أن الحكومة لم تساو بينهم وبين أبناء جنسها فيما تمنحهم من الحقوق والامتيازات إلى أن عانقوا الديانة المسيحية بواسطة انتشارها بين الرومانيين.
Неизвестная страница
فالأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها أو بحكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية.
الحرية
تنبئ هذه الكلمة بسائر تصاريفها في اللسان العربي على معان فاضلة ترجع إلى معنى الخلوص، يقال: حر يحر كظل يظل حرارا بالفتح، بمعنى عتق، والاسم الحرية، والحر خلاف العبد، والخيار من كل شيء، والفرس العتيق، والفعل الحسن، والحر من الطين والرمل والطيب، والحرة ضد الأمة، والحرة من السحاب الكثيرة المطر، وتطلق على الكريمة من النساء، ووردت صفة للنفس في كثير من أشعارهم، قال سحيم عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما
أو أسود اللون إني أبيض الخلق
وجاء لمعنى استقلال الإرادة وعدم الخضوع لسلطان الهوى:
وترانا يوم الكريهة أحرا
را وفي السلم للغواني عبيدا
وعليه بنى الصوفية اصطلاحهم في إطلاق اسم الحر على من خلع عن نفسه أمارة الشهوات، ومزق سلطتها بسيوف المخالفة كل ممزق، قال الإمام الجنيد فيما روي عنه: لو صحت الصلاة بغير القرآن لصحت بقول الشاعر:
أتمنى على الزمان محالا
Неизвестная страница
أن ترى مقلتاي طلعة حر
وقد دارت هذه الكلمة - كلمة الحرية - على أفواه الخطباء، ولهجت بها أقلام الكاتبين ينشدون ضالتها عند أبواب الحكومات، ويقفون للبحث عن مكانها وتمكين الراحة من مصافحتها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه.
ينصرف هذا اللقب الشريف في مجاري خطابنا اليوم إلى معنى يقارب معنى استقلال الإرادة، ويشابه معنى العتق الذي هو فك الرقبة من الاسترقاق، وهو أن تعيش الأمة عيشة راضية تحت ظل ثابت من الأمن على قرار مكين من الاطمئنان، ومن لوازم ذلك أن يعين لكل واحد من أفرادها حد لا يتجاوزه، وتقرر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة؛ فإن في تعدي الإنسان الحد الذي قضت عليه أصول الاجتماع بالوقوف عنده ضربا من الإفراط، ويقابله في الطرف الآخر حرمانه من التمتع بحقوقه ليستأثر غيره بمنفعتها، وكلا الطرفين شعبة من شعب الرذائل، والحرية وسط بينهما على ما هي العادة في سائر الفضائل، ومن كشف عن حقيقتها المفصلة ستار الإجمال، أشرف على أربع خصال مندمجة في ضمنها:
أحدها:
معرفة الإنسان ما له وما عليه؛ فإن الشخص الذي يجهل حقوق الهيئة الاجتماعية ونواميسها لا يبرح في مضيق الحجر مقيد السواعد عن التصرف حسب إرادته واختياره، حتى يستضيء بها خبرة، ويقتلها علما، إذ لا يأمن أن تطيش أفعاله عن رسوم الحكمة والسداد، فيقع في خطيئة تحدث في نظام تلك الهيئة علة وفسادا، ولا يخالط الضمائر من هذا أن الحرية مقصورة على علماء الأمة العارفين بواجباتها؛ إذ للأميين منها مخلص فسيح، وهو باب الاستفتاء والاسترشاد، قال تعالى:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
ثانيها:
شرف نفس يزكي طويتها، ويطهر نواياها من قصد الاعتداء على ما ليس بحق لها، فلا ترمي بهمتها إلا في موضع تشير إليه العفة ببنانها.
ثالثها:
إذعان يدخل به تحت نظر القوانين المقامة على قواعد الإنصاف، ويستنزله ريثما تحرر ذمته من المطالب التي توجه إليها باستحقاق.
Неизвестная страница
رابعها:
عزة جانب وشهامة خاطر يشق بها عصا الطاعة للباطل، ويدمغ بها في قوة من يسوم عنقه بسوء الضيم والاضطهاد.
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
نستنتج من هذا البيان أن الأساس الذي ترفع عليه الحرية قواعدها ليس سوى التربية والتعليم، فيتأكد على الحكومة التي تنظر إلى فضيلة الحرية بعين الاحترام أن تسعى جهدها في تهذيب أخلاق الأمة وتنوير عقولهم بالتعليمات الصحيحة، قبل كل حساب؛ قال تعالى:
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
يخال بعض الناشئة أن الحرية حق يبيح لصاحبه أن يجهر بكل ما يقدح في فكره من الآراء، وينشر في مقاله كل ما يؤلفه من الهجاء والأوصاف الشائنة، كما يفعل الشاعر الحطيئة، وهذا المعنى بضعة من الحرية، ولكن بعد سبكه وإفراغه في قالب أصل من الأصول التي سنتلوها عليكم في مبحث الحرية في الأعراض.
وتطرف فريق من الناس ففسروا الحرية بأسوأ تفسير، وتأولوها على معنى امتثال داعية الهوى بإطلاق وتنفيذ الإرادة، وإن مس غيره بأذى، أو حجزه عن حق ثابت لا يعترضه فيه نزاع. وترى كثيرا منهم لا يتصور لها معنى سوى حمل السلاح تحت لواء القوة وإعماله في سبيل الاغتصاب. ولا يصح في نظر أي عقل كان أن يعنون على أثر من آثار سوء الضمير ودناءة الطمع باسم فضيلة يدرك بها المحكوم شأو الحاكم، ويترشح بها لمشاركته في اللقب كما شاركه في استقلال الإرادة، قال تعالى:
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين
فتسمية بني إسرائيل جميعهم في ذلك العهد ملوكا انجر لهم من الحرية التي نالوها بعد مغادرة أوطان الذلة والتملص من سوء العذاب والاستعباد الذي سامهم به آل فرعون، ووضعوه في أعناقهم سلاسل وأغلالا.
Неизвестная страница
يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين؛ هما المشورة والمساواة، بالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطرد نفاذها، وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها وسواها.
المشورة
قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام وتصريف الأوامر والزواجر لا تستقل وحدها بردع الخليقة وقيادتهم إلى سابلة العدالة؛ فكثير من الناس من يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع الطبيعي وتغلبه على الوازع الشرعي؛ كرد شهادة العدو على عدوه، وعدم قبول شهادة الرجل لابنه أو لأبيه وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف أو وارث قريب؛ فلا بد إذا من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة، وإن كره المبطلون، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة القضاء لأبي موسى الأشعري: «وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.» وتسمى هذه السلطة بالسلطة القضائية، وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي
صلى الله عليه وسلم
يتولى الحكومة على الجاني، ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية أو استئنافها لدى غيره، وما كانوا يرون قضاءه إلا حكما مسمطا، يتلقونه بأذن واعية وصدر رحيب؛ لعلمهم يقينا كعمود الصبح أنه حكم الله الذي لا يقابل بغير التسليم، قال تعالى:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ، وقال تعالى:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . وإن تعجب فلا عجب لهذا؛ فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن يصير بمنزلة الطبيعي أو أقوى داعيا. وسهل انقياد العرب على ما كانوا عليه من الأنفة وصعوبة المراس، وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملا ومفصلا من جهة أن الدين معدود من وجدانات القلوب؛ فالانقياد لأحكامه من قبيل الانقياد إلى ما يدعو إليه الوجدان. وليست الشرائع الوضعية بهذه الدرجة، فإن الناس إنما يساقون إليها بسوط القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاء للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية من أنفسهم، إلا إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل.
وإنما ورد من فصل قضائه
صلى الله عليه وسلم
قدر يسير بالنسبة إلى مدة حياته، لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة والتئام العواطف القاضية بأن تكون معاملاتهم خالية من الدسائس خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة فيخفت ضجيج الضارعين وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيسا. وضم
Неизвестная страница
صلى الله عليه وسلم
إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطة التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم، كإشهار الحرب وإبرام الصلح وتلافي أمر الهجوم، ولم يكن مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته، وتفاني مهجهم في محبته لينفرد عنهم بتدابير هذه السلطة، بل يطرحها على بساط المحاورة، ويجاذبهم أطرافها على وجه الاستشارة عملا بقوله تعالى:
وشاورهم في الأمر ، وقد يترجح بعض الآراء بوحي سماوي، كما نزل قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
مؤيدا لرأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسارى بدر.
أذن له
صلى الله عليه وسلم
بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييبا لنفوس أصحابه، وتقريرا لسنة المشاورة للأمة من بعده، أخرج البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها - أي المشورة - ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا.»
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من العلم بقوانين الشريعة والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا يطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكما في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصا صريحا ينطبق على الحادثة، قال: «الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا.»
Неизвестная страница
وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين والأنصار؛ مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأسيد بن حضير وسعيد بن زيد وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شورى بينهم كما صنع الخليفة الثاني، أو يتركه لآراء المسلمين عامة، كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم
اعتمادا على ما تفرسه في عمر من الكفاءة والمقدرة، وحذرا من أن تتنازعها ذوو الأهلية، فتثور ثائرة الفتنة ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين.
ونحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الجادة شبرا بشبر وذراعا بذراع، قال من خطبة أرسلها في هذا الغرض: «كذلك يحق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم .» ثم قال: «ومن قام بهذا الأمر فإنه تبع لأولي رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم.» وهذا إيماء إلى الحكم النيابي، ويدل له من كتاب الله قوله تعالى:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون . وضع الإسلام أساسه، وبنى عليه الخلفاء سياستهم، ثم انتقض بناؤه في دولة بني مروان، ومذ شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة.
وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة من كبراء الصحابة؛ ليختاروا رجلا منهم، وقال لهم: «ويحضركم عبد الله بن عمر مشيرا، وليس له من الأمر شيء.» وضمه عبد الله بن عمر إلى الستة وتشريكه لهم في الرأي وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى من جعل نظامها مؤلفا من العدد الفرد؛ ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف، ويلوح إلى هذا بطرف خفي قوله تعالى:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، فذكر العدد الفرد صراحة والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس المؤلفة للمناجاة.
هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج، ويعتبر أحد أفراد اللجنة بمنزلة رجلين اثنين ويسمى رئيسا لها، فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند التساوي، والدليل على صحته شرعا قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري: «إن الله قد أعز بكم الأنصار، فاختر خمسين رجلا من الأنصار، وكن مع هؤلاء حتى يختاروا رجلا منهم.» ثم قال له: «وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.»
والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس حين دعاها وقومها رسول الله سليمان عليه السلام أن لا يعلوا عليه ويأتوه مسلمين قال الله تعالى:
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ، ووردت الشورى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه، قال الله تعالى:
Неизвестная страница
قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ، لكن قاعدة الشورى بين فرعون وملئه لم تطرد على أساس صحيح بدليل ما سام به بني إسرائيل من العذاب المبين.
وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه، وأبرم في النازلة حكمه؛ لأنه فوض إليهم ذلك بقوله:
فماذا تأمرون ، وليس له من الأمر شيء سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ، فلم يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين قالوا:
نحن أولو قوة وأولو بأس شديد
يشيرون إلى اختيار الحرب، ثم وكلوا الأمر إليها بقولهم:
والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ؛ لأنها لم تفوض إليهم الحكم في القضية، وإنما طلبت منهم أن يصرحوا بآرائهم ويبوحوا بأفكارهم فقط؛ بدليل قولها:
ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ، أي إلا بمحضركم، وقولها:
أفتوني في أمري
أي اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت رأيهم وأشعرتهم بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان عليه السلام حدودهم، فيسرع إلى إفساد ما يصادمه من أموالهم وعماراتهم، فقالت:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها .
Неизвестная страница
لا تكون قاعدة الشورى من نواصر الحرية وأعوانها، إلا إذا وضع حجرها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها، ولا سيما رأي من لا يطاع، فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد.
وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء، وذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتى؛ قال بعضهم:
إذا عن أمر فاستشر فيه صاحبا
وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها
وتدرك ما قد حل في موضع الشهب
وقال غيره:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
فالحق لا يخفى على إثنين
والمرء مرآة تريه وجهه
Неизвестная страница
ويرى قفاه بجمع مرءاتين
وقال آخر:
الرأي كالليل مسود جوانبه
والليل لا ينجلي إلا بمصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى
مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
ولا يدخل في وهم امرئ سمع قولهم: «إنما العاجز من لا يستبد» أن اقتداءه بسنة الشورى يشعر الناس بعجزه وحاجته إليهم، فتسقط جلالته من أعينهم ويفوته الفخر بالاستغناء عنهم؛ فإن الناصح الأمين لا تجده يجعل الفخار محورا يدير عليه سياسته، فيلقي له بالا، وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها أو مفاسد يدرؤها، ومن كان يريد التمجيد والثناء، فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره وأشرف لسياسته من وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار:
والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم
أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وروي أن هذا دأبهم من قبل الإسلام، ولعله هذا هو الوجه في مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده، حيث أورد في جملة اسمية للدلالة على الثبوت والاستمرار.
ومن فوائدها استطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها، فإن الرأي يمثل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.
Неизвестная страница
المساواة
خلق الله الناس بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتهم أحرارا متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية ينزع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، وقد جمع هذه الأطوار الثلاثة قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم
فقوله:
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
رمز إلى فطرتهم الأولى، وقوله:
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إيماء إلى نشأتهم الاجتماعية، وقوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
تلويح إلى طور التمايز والتفاضل، وإيذان منه تعالى بالوسيلة التي نبتغيها إلى مقام الكرامة عنده وهي التقوى.
Неизвестная страница
وقد روعي في الإسلامية فطرة الله التي فطر الناس عليها، فوضعت تكاليفها على شكل التكافؤ ، وأديرت سياستها على قطب المساواة، فلا فضل فيها لشريف على وضيع، ولا امتياز لملك على سوقي، والعقوبة الموضوعة على صعلوك الأمة هي المحمولة على سيدها بدون فارقة، فلو ادعى أبو بكر الصديق أو عمر بن الخطاب على أدنى الناس وأفسقهم درهما واحدا، لم يقض له باستحقاقه إلا بشهادة عادلة، وهذا المعنى عام في جملة الشريعة وتفاصيلها، ولا يبعد استفادته من الآية التي كنا بصددها؛ فإن قوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
وضع جميع الامتيازات وطرحها عن محل العناية والاعتبار ما عدا التقوى. والتقوى نفسها لم يجعل الشارع لها أثرا في تغيير الحدود أو الاختصاص بحظ زائد من الحقوق، ضرورة أن التقوى عبارة عن العمل طبق أحكام الشريعة بنية وإخلاص؛ فالشريعة سابقة على العمل، والعمل تابع لها، ولم يخرج عن هذا الأصل إلا بضعة أحكام خص بها النبي
صلى الله عليه وسلم
أفرادا من الصحابة بأعيانهم، كجعل شهادة خزيمة بشهادتين؛ فإنه أسرع دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
بأنه قد بايع الأعرابي، واستند في شهادته إلى البراهين الدالة على وجوب تصديقه
صلى الله عليه وسلم
في كل ما يخبر به، لا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره، فتفطنه لأخذ حكم هذه القضية من الأدلة العامة مزية استحق بها هذه الخصوصية.
ونظرا إلى قاعدة المساواة قال علماء الأصول: خطاب الشارع لواحد إن لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم يعم جميع الأمة. ولكن تنازعوا في طريق العموم، قالت الحنابلة: يتناولها بنفس الصيغة. وقال غيرهم: يتناولها بالدليل المرشد إلى تساوي الأمة واشتراكها في الأحكام.
Неизвестная страница
ومن أدلة المساواة قوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
أخذت هذه الآية بعضد المستضعفين من الناس، وأوقفتهم في مرتقى أولي القوة جنبا لجنب؛ إذ المعروف في الإخوة اتحادهم في النسب، وهو يقتضي عدم تفاضلهم وتمايزهم في الحقوق؛ فالآية وإن دلت على التوادد والتراحم من جهة لا تخلو من الدلالة على المساواة من جهة ثانية.
وسار أبو بكر الصديق بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
بسيرة القرآن، فلم تشغله مقاليد الخلافة في يده أن يقوم خطيبا على ملأ من المسلمين بقوله: «أيها الناس، قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى.» ثم قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» فعين بهاته الخطبة للحكومة الإسلامية مركزا ثابتا تدير عليه أمور سلطتها؛ وذلك قوله: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» وفتح في وجوه الرعية فرجا يرددون منها أنفاس الحرية مع أولي الأمر، وأمر بالإنكار والمعارضة عندما تنحرف تلك السلطة عن مركزها يمينا أو شمالا؛ وذلك قوله: «وإن أسأت فقوموني.» وجعل بيدهم عقدة عزل الأمير وتركه غير مأسوف عليه إن لم يقوم اعوجاجه، ويرجع بسلطته إلى دائرتها المرسومة لها شرعا، وذلك قوله: «فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.» وقوله: «والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق.» من دلائل المساواة.
وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف يخاطب رعيته بقوله في بعض خطبه:
إن كان بيني وبين من هو منكم شيء من أحكامكم، أن أمشي معه إلى من أحبه منكم، فينظر فيما بيني وبينه.
وهذا نهاية ما يحتج به للمساواة؛ لما فيه من التصريح بأن كل واحد من الرعية محكوم من وجه حاكم من وجه آخر، فلا يسوغ للحاكم أن يقضي لنفسه، كما لا يجوز له القضاء بشهادته لغيره، بل يرفع الخصومة إلى غيره من الحكام، وإن لم يكن معه حاكم، رفع ذلك إلى رجل من رعيته، كما فعل عمر - وهو خليفة - حين قاضى رجلا إلى أبي بن كعب، وأبي بن كعب ليس بذي سلطان.
وكتب عمر في رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
Неизвестная страница
آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا ييئس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك.
ولم يقتصر على التعاليم القولية حتى عززها وشد نطاقها بمثلها من الأعمال المطابقة، كقصته مع جبلة بن الأيهم - ملك غسان - وما شاكلها.
الحرية في الأموال
هي إطلاق التصرف لأصحابها يذهبون في اكتسابها والتمتع بها على الطريق الوسط، دون أن تلم بها فاجعة اغتصاب، أو تتخطفها خائنة كيد واحتيال، فاقتضى هذا البيان إجراء البحث في أربعة مطالب: اكتساب الأموال، طريقها الوسط، التمتع بها، الاعتداء عليها.
اكتسابها
لما كان المال معونة على الدين ومادة لنشأة الحياة الطبيعية، حتمت الإسلامية السعي خلف اكتسابه، وأذنت في الاسترزاق بكل عمل لا يتبع صاحبه بأذى، ولا يلحق بغيره ضررا، قال تعالى:
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله
الآية، وقال تعالى:
وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله
إلى غير ذلك من الآيات، وإنما لم يؤكد الطلب في هذا الموضع، ولا أجري مجرى الواجبات وكثير من المطالب في اقترانها بمؤكد الترغيب والترهيب؛ اكتفاء وحوالة على ما طبعت عليه نفوس البشر من الحرص في جمع الأموال وقوة الرغبة في اكتسابها؛ لما فيها من الحظ العاجل واللذة الحاضرة، بل غالب ما سيق في هذا الغرض جاء على صورة الإباحة ونفي الحرج، كقوله تعالى:
Неизвестная страница
وأحل الله البيع ، وقوله:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم .
فلا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، وقد ذكر الله تعالى التجارة في معرض الحط من شأنها؛ حيث شغلت عن طاعة في قوله تعالى:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ، ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها ذكرها ولم يهضم من حقها شيئا، فقال تعالى:
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فأثبت لهؤلاء الكمل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية، أما ما يقوله بعضهم من أنه نفى كونهم تجارا وباعة، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر هنا أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات، وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات.
وعد المحققون في العلم الحرف والصناعات، وما به قوام المعاش كالبيع والشراء والحراثة، وسائر ما تمس الحاجة إليه، حتى الحجامة والكنس من فروض الكفاية يجب أن يقوم بكل صنف منها طائفة وإلا أثمت الأمة تماما، وبذلك فسر حديث: «اختلاف أمتي رحمة.» على فرض صحته، فالأمة لا تنهض من وهدة ضعفها إلى مستوى قوتها، إلا بتحمل كل طائفة منها حظا عظيما من وسائل حياتها ولوازمها البدنية والعقلية، وسد كل خلة من الحاجات ما تزايدت، وينقسم الناس في ذلك إلى أربع طبقات؛ الأولى: طائفة تدبر أمور الرعية. الثانية: طائفة تتميز بنشر المعارف سواء في ذلك علم الحلال والحرام ووسائله كعلوم العربية والحساب والهندسة، أو العلوم التي تعود بتحسين حال الثروة كمعرفة الصنائع. الثالثة: طائفة تمسك بزمام التجارة أخذا وعطاء. الرابعة: طائفة عظيمة تقبل على الاشتغال بالصنائع، ومن جملتها الفلاحة التي هي أقدمها وأجداها نفعا. بيد أن الشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه حال عمله مطويا على سراج من التوكل والتفويض؛ فإن اعتماد القلب على قدرة الله وكرمه يستأصل جراثيم اليأس ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
الطريق الوسط
لم تغادر هذه الشريعة صغيرة ولا كبيرة من وجوه التصرفات في الأموال إلا أحصتها، وعلقت عليها حكما عادلا، وتألفت أحكام هذه الوجوه في سلك المناسبة مرتبة على أبواب.
المملوكات إما أعيان أو منافع، ويدور الكلام فيها على ثلاثة أنظار:
النظر الأول:
Неизвестная страница