وما كان بنا أن نطيل القول في ذلك، لولا ما نعرفه ونؤمن به من أنه لا يصح الحكم على شعر شاعر، أو نثر ناثر، إلا بعد الوقوف على دقات قلبه، وخطرات فؤاده، وقد علمنا مما سلف مبلغ ابن أبي ربيعة من الحب، ونصيبه من الصبابة، ولم يبق إلا أن نذكر ما يجب أن يكون لشعره من ميزة، ولأسلوبه من طابع؛ وفقا لحالته النفسية، وميوله الشخصية، وأن نبين أثر تلونه في حبه، وتلاعبه في عشقه، وكيف كان ذلك داعيا إلى أن يكون لشعره صفة تميزه عن غيره، وتفضله عما عداه.
غير أني لم أشأ أن أكشف الغطاء عن ذلك، وأميط اللثام عنه، إلا بعد أن أبين لكم كيف فهمه الناس من قبلنا، وكيف كان حكمهم على شعره وتقديرهم لأدبه؟ فإني إذا فعلت ذلك فبينت بعدهم من الصواب، وانحرافهم عن الجادة، كنت جديرا بأن أقول: إني عملت عملا جديدا، وأحدثت أثرا جميلا، وابتدعت بدعة حسنة، وسلكت في فهم ابن أبي ربيعة سبيلا لم يسلكه الناس من قبل. نعم، وكنت جديرا بأن أخطئ من يقول: لا جديد تحت الشمس، وأن أكون نصيرا للداعين إلى الجديد تتميما للقديم.
أعمل ذلك وأسعى إليه، وأنا أحترم أدب الأسلاف وفكرهم، مع اعتقادي أن كل شيء في الكون قابل للتهذيب، مفتقر إلى التكميل، وأن السبعين صحيفة التي كتبها صاحب «الأغاني » عن ابن أبي ربيعة لم تكن لتفهمنا حقيقته، وتعرفنا شخصه؛ إذ كانت موضوعة على غير نظام مبنية على غير أساس، وأن بنوتنا لأسلافنا وتبعيتنا لهم لا يحولان بيننا وبين تكميل ما لم يكملوه، وتهذيب ما لم يهذبوه، فإن للولد - وإن يكن سر أبيه - قلبا يفقه به، وعينا يبصر بها، غير قلب أبيه وعينه، وليس للوالد مهما عظم أمره، وجل قدره، أن يضطر ابنه إلى الحكم على الأشياء كما يحكم هو عليها. كما لا ينبغي للولد مهما أخلص في بنوته، وصدق في بره، أن يعق الطبيعة فيما أهدته من نظر ومنحته من تدبير. •••
أيها السادة: قد علمت أن ابن عباس سمع شعر ابن أبي ربيعة واستحسنه، وأن قائلا قال له: الله الله يا بن عباس! فإنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الدين فتعرض؛ ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفها فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفها! فعلمت من ذلك أن ابن أبي ربيعة شاعر مستجاد الشعر، غير أن الشعراء كثير، فمن هو من بينهم؟ وما سبيله التي سلكها؟ وما هو الإبداع الذي عرف به؟
وبلغني أن الفرزدق سمع شيئا من تشبيب ابن أبي ربيعة، فقال: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه. فلم أفهم من هذا شيئا، ولم أدر ما الذي يدل عليه اسم الإشارة في قوله: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته؟
وبلغني أيضا أنه كان بالكوفة رجل من الفقهاء يجتمع الناس إليه فيتذاكرون العلم، وأنه ذكر يوما شعر ابن أبي ربيعة في مجلسه فهجنه، فقالوا له: بمن ترضى حكما؟ ومر بهم حماد الراوية، فقال: قد رضيت هذا، فقالوا لحماد: ما تقول فيمن يزعم أن عمر بن أبي ربيعة لم يحسن شيئا؟ فقال: أين هذا؟ اذهبوا بنا إليه، قالوا: نصنع به ماذا؟ فقال: ننزو على أمه لعلها تأتي بمن هو أمثل من عمر! فعلمت أن ابن أبي ربيعة شاعر اختلف الناس في تقديره، وأن بعض أعدائه اعتمدوا في النيل منه على الفحش والسباب .
وسمعت أيضا أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا الشعر؛ فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها شيئا، فلم أفهم من هذا أيضا إلا أنه شاعر مجيد، رفع من شأن قومه، وأكمل مجد آبائه.
وربما سمعت من طريق آخر أنه محب، فأقول: ومن هو في المحبين، فإن الحب درجات؟ أو ناسب متغزل، فأقول: ومن هو في المشببين، فإن للنسيب مذاهب؟ •••
وكذلك ما زلت أسمع من أخبار ابن أبي ربيعة، وأقرأ من وصف الناس له، ما يبعدني عن فهمه، والحكم على شعره، حتى رأيت حديثا مسهبا لبعض العلماء المتقدمين فيما ابتكره ابن أبي ربيعة من نادر المعاني، وابتدعه من جديد الأغراض، حديث علمي، أراد به كاتبه - عفا الله عنه - أن يعلم الناس كيف يعتسفون في فهم الأدب، ويضلون في تقدير الشعراء: حديث طويل بيد أنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، حديث خادع، ظن صاحب «الأغاني» أنه يكرم الأدب بذكره، ويمتع الأدباء بنقله، فلم يغفل منه كلمة، ولم يغادر منه حرفا.
وقد رأيت أن أنقل لكم ذلك الحديث وأناقشه؛ حتى تعلموا أي ضرر يعود على قارئ تلك الكتب، إن لم يكن من أهل الحكم، وممن يميز الخبيث من الطيب، وحتى تعرفوا خطأ أولئك الذين يدرسون الأدب في بيوتهم، وبعد الفراغ من أعمالهم، ظنا منهم أنه علم كمالي بسيط، يكفي في فهمه ودركه أن يكون للمرء مكتبة يرجع إليها، ويروض الفكر فيها، ثم يبيحون لأنفسهم بعد ذلك أن يؤلفوا في الأدب، وأن ينقدوا الكتاب والشعراء!
Неизвестная страница