دب الصمت، كفت الأصابع عن الدق، ودار الكرسي حول نفسه ثم توقف، لم يسمع إلا صوت لهاث. - أن ماذا؟ - أن يتبدل وينقلب إلى النقيض بحركة مفاجئة، فينثني ملتويا مستسلما كأنما يحمل من فوقه ثقلا كبيرا. - شيء مفزع. - أجل، لا شك أنك ترتعش أمام هذا العنق. - وماذا عن بقية جسمها؟ - أجل، هذا أيضا مفزع. - كيف؟ - جسمها تراه موجودا أمامك لا شك، هذا الحضور اللامتناهي لوجودها، الذي يتلاشى فجأة فيصبح غيابا كأنما إلى الأبد.
وانقطعت كل الأصوات تماما، لم تسمع حتى أنفاسهم الثلاثة، وربما توقفت المروحة أيضا أو انقطع التيار فجأة، واللمبة انطفأت، والذبابة طارت أو احترقت، ولم يبق إلا رذاذ المطر يدق أذنيها مع إيقاع الدقات في شريان العنق، وصفير الريح من بعيد يشبه صمت الليل.
ثم جاءتها الضحكة عبر الظلمة، لم تعرف من من الرجال كان يضحك، ضحكة غريبة متقطعة كالنشيج، عالية النبرة تشبه صوت رجل يقهقه، يهتز جسمه مع اهتزاز رأسه بالضحك.
من وراء الكثبان وعرض البركة جاءتها القهقهة، تشبه قرقعة الهواء، ترتطم بالجدران مثل رذاذ مطر متجمد، تتسرب من تحت عقب الباب مع السرسوب الأسود، كان وجهها للحائط ورأسها ملفوف بالمنديل، بحركة من عنقها على شكل نصف دائرة أصبح وجهها ناحية الباب، كان الرجل واقفا مشمرا جلبابه، رأسه مبلل كأنما أغرقه المطر، نفض شعره وانتفض مثل ضفدعة تخرج من البركة، التقت عيناها بعينيه فإذا به يدير بياض عينيه بحركة الهواء ينقلب السطح ليكشف عن القاع. - صاحية؟
نبرته رقيقة محكومة، تحمل حنو الرجل حين يفقد السيطرة على امرأته، خلع ملابسه بحركة من يحاول أن يخلع الإهانة، كان طويلا وجلده مبللا ومشدودا كأنما مصنوع من جلد حقيقي، يلمع في الظلمة مثل حذاء ممسوح في المطر، تقدم نحوها بخطوة من يريد إثبات أنه يمتلك شيئا لا يملكه. ••• - الرجال آلات لإخفاء الحقيقة، يتصورون في أعماقهم أنهم يملكون الحقيقة. - أيكونون هم الآلهة؟!
إنه صوت امرأة تتحدث إلى النسوة، يشبه صوتها حين كانت شابة، تهز كل واحدة منهن رأسها علامة الفهم. - هذا مفهوم يا أختي، لكن رءوس البصل لا تزال هناك في المطبخ، لم تلمسها يد، ويوشك موعد الأكل أن يأتي، ويصيح الرجل، هذا واضح، هل فهمت؟ - نعم، فهمت يا أختي، لكن الضفدعات تطورت وخرجت من قاع البركة إلى الضوء، وأنتن النسوة عاجزات عن الحركة.
دب الصمت حين عاد الرجل، صاح كعادته طالبا الأكل، ثم رقد في الفراش عاريا، مد ذراعه في الظلمة تحت الغطاء، كأنما يمد يده تحت الماء، عبثا حاولت أصابعه أن تصل إلى يدها، أخيرا وصلت إليها عبر المسافة البعيدة، كان وجهها للحائط، أحست قبضة يده خشنة مبللة بعرق أسود، حملتها الدوامة إلى بطن الأرض، صدره متجمد مثل صدر مومياء، أجوف من الداخل، يملؤه فراغ العالم، ولا مفر، عليها أن تضع رأسها فوق هذا الصدر الحجري، كأنما هو صدر الإله إخناتون بعد أن أزالوا عنه النهدين. - ماذا تقولين يا أختي؟ - أدركت بعد فوات الوقت أن كل شيء حقيقي، أعني الزواج، وربما أيضا البحث عن الإلهات، وكل شيء آخر في الحياة، بما في ذلك الموت. - والحب! - لا، لم أحبه، وإن فعلت ذلك فسوف يغرق العالم في الوهم.
كان جسدها عاريا على تماس مع العالم العاري، بكل حقيقته مثل اللحم، وكان يمكن أن تنزلق من الفراش وتهرب، لكن الخروج من ذلك البئر كان مستحيلا، أو ربما بدا لها النفط أفضل من أي شيء آخر.
طوت ذراعها في المكان الضيق، اختنقت بالدخان والغبار الأسود، بدا لها الموت نوعا من الخلود، والهروب من الموت ليس إلا الغباء. أجل، الموت هو عبقرية الكائن الحي حين يصبح خالدا مثل الآلهة.
تظاهرت بالموت وهي راقدة، سقط جسدها في العمق دون أن تطوي ذراعها الثانية، كانت العتمة تشبه العين السوداء الضخمة، عين لا تكف عن النظر إليها، عين مقدسة لا تنام، لا بد أنها عين إلهة الموت سخمت، أو ربما هي عين الست الطاهرة، تنظر إليها وتذكرها بالرسالة. •••
Неизвестная страница