كان الرجل واقفا على العتبة، لم تفتح فمها وتقل شيئا، إن قالت فلم يكن بمقدوره أن يفهم، وإن فهم فإن القدر يتدخل حتما ليفرق بينهما، كانا يعيشان داخل نظام يحكمه القدر، والقدر لا يدرك من الحب إلا نوعا واحدا، تلك العاطفة الجياشة للأرض وصاحب الجلالة، ربما كان ذلك بسبب الحدود التي يفرضها النفط، قوة المد والجذر المختبئ في المياه السوداء، قصف الريح وحركة الموج مع تدفق الشلال، كانت على يقين أن الرجل الواقف أمامها ليس هو رجل أحلامها، كلاهما كان قادما من نقطتين متعارضتين ليلتقيا صدفة، كأنما لم يكن يجمعهما شيء إلا القدر. ••• - وكانت أيضا لا تجيد الطهي، امرأة بلا قيمة تحاول أن تستقي قيمتها من قيمة الإلهات.
إنه صوت زوجها أو ربما رئيسها في العمل، يدلي بأوصافها لرجل البوليس، في طريقها إلى العمل قد تمر بالصدفة أمام مطبخ، تلمح رءوس البصل متدلية، يصيبها المنظر كأنما بطعنة خنجر، تشتهي أن تموت قبل أن تلمس شعرة من تلك الرءوس، كانت هذه الشعرات الصفراء تظهر لها في الحلم كأسنان كماشة، تقبض على عنقها من الخلف، وتلقي بها إلى ما وراء الموت. - ربما كانت في حاجة إلى إجازة.
لم يكن للمرأة أن تخرج في إجازة، كأنما الباب إذا انفتح وخرجت فلن تعود، جاءتها فكرة الحب، حب كبير تستحق أن تموت من أجله امرأة لم تعرف الحب، نزيلة السجن الدائم، الهواء المعدوم، الدخان والذرات السوداء، الصمت وقرقعة أوراق الصحيفة، النصف الأسفل لرجل نائم، والمطبخ، أجل، قد تنبعث من المطبخ رائحة اللحم المشوي فإذا بالرجل يصحو، تستيقظ الشهوة وربما الحب، غير أن المكان هو أبدا لا يتغير، مدفوعة فيه بحكم غريزة البقاء، وجبات الأكل لا نهائية، لا تكفي لإرواء الغليل، أجل كانت هناك الورقة والآلة، دقت بأصابعها الطلب. - هل طلبت إجازة؟ - نعم. - هل حصلت على موافقة زوجها؟ - لا. - هل حصلت على موافقة رئيسها في العمل؟ - لا. - كيف خرجت في إجازة إذن؟!
يدب الصمت في غرفة التحقيق، يدور رجل البوليس حول نفسه داخل الكرسي، يشعل اللمبة الحمراء، يطرد الصحفيين، يدق بأصابعه فوق الآلة ثم يستدير، يحملق في وجه زوجها ورئيسها في العمل. - أتريد الصراحة؟ - نعم. - ألن يتسرب الخبر إلى الصحافة؟ - لا، بكل تأكيد! - أجل، كانت الحاجة إلى الخروج ضرورية. - كيف؟ - خرجت تبحث عن كبريائها الضائع، كان لها كبرياء حيوان انتصب فوق قدمين ولم يعد يزحف فوق أربعة قوائم، أجل، لم تكن هي امرأة مطبخ ولا سرير، لا تحفظ الألحان التي تغنيها النسوة في الحمام، ولا تعرف الحب الذي ينبعث في قلب زوجها حين يراها تحشو الكرنب، وأكثر من ذلك لم تكن رموشها تهتز حين ينظر إليها رئيسها في العمل أو صاحب الجلالة.
تتجمد أصابع رجل البوليس فوق الآلة، يمسح كلمة صاحب الجلالة، ويواصل الدق بيد واحدة، ويده الثانية تمسح العرق عن وجهه. - امرأة عيناها حجريتان مقطوعتان من جبل جليدي بارد.
إلى هنا توقفت أصابعه تماما وكف عن الكتابة، دار بجذعه عدة دورات داخل الكرسي ثم ثبت في مكانه، وجهه ناحية الحائط، لم يعرف تماما من الذي يتكلم، رئيسها في العمل أو زوجها، لم يحاول الاستدارة بالكرسي، ظل يحملق في الجدار، معطيا ظهره للرجلين. - ماذا تعني بهذا الجليد البارد؟! - أعني أنهما عينان. - أجل.
تبادل زوجها مع رئيسها في العمل النظرات، بدا كأنما كل منهما يحاول أن يتخيل شكل عينيها، نفث رئيسها في العمل الدخان كثيفا من الغليون، هز زوجها ركبتيه ثم أسدل جفونه. - أعني أنهما عينان لا مباليتان، لا تنظران إليك، وإن نظرت فهي نظرة تتجاوزك إلى نقطة فوق رأسك بعيدة في الأفق. - أكانت تتطلع إلى رجل آخر؟
استدار رجل البوليس ليواجه الرجلين بنظرة قاطعة كالسيف، تطلع أحدهما للآخر قبل الإجابة. - لا، لم تكن تتطلع إلى رجل آخر، أجل، لم تكن تتطلع إلى رجل آخر، ربما كانت عيناها لهذا السبب تستفزان الواحد منا، تود أن تصفعهما لتنظران إليك، أجل يمكن القول إنهما عينان وقحتان، عينان بالرغم من اللامبالاة بك فهما يباليان بكل شيء آخر وإن كان لا شيء، مجرد نقطة متناهية الصغر في الأفق.
دب الصمت طويلا في غرفة التحقيق، لم تسمع إلا أنفاس الرجل الثلاثة تعلو وتهبط، وأزيز المروحة تدور حول نفسها، وذبابة تطن وترتطم بضوء اللمبة، والذرات السوداء كرذاذ المطر تدق النافذة.
تسربت إليها الأصوات عبر المسافة البعيدة، ذابت كلها في صوت واحد بإيقاع منتظم، كان صمت رجل البوليس يدوي على نحو واضح، أدركت أنه يعرف كل شيء، وبدأت أصابعه تدق من جديد فوق الآلة. - أجل، ماذا عن شكل عنقها؟! - نعم عنقها، هذا أيضا غريب الشكل، أطول من أي عنق، كأنما هو خط الأفق، يرتفع كأنما عنق العنقاء، عنق لا يمكن الإمساك به لخنقه مثلا، عنق يثير شهوتك، ذلك أنه لا يمكنك السيطرة عليه، عنق يوشك أن ...
Неизвестная страница