فتحامى معناه جميع الشعراء، فلم يعرض له أحد منهم، ولقد عرض له بعض المحدثين، ممن كان يحسن القول، فبلغ من استكراهه لذلك المعنى، ومن اضطراره فيه إلى أن صار فيه دليلًا على سوء طبعه، مهجنًا ما تقدم من إحسانه" قال: "وذلك قول عنترة كامل:
وخلا الذبا ببها يغني وحده ... غردا كفعل الشارب المترنم
وذكر البيتين.
٩٧ قال أبو علي: أخبرني أبي، قال أخبرني أبو عمرو بن سعيد الكاتب، قال أخبرني أحمد بن يحيى عن السيري عن ابن عائشة قال: "لا أعلم أحدًا شبه رجلًا بريح عادٍ، إلا السيد الحميري، فإنه ابتدع من هذا المعنى ما لم يتقدمه أحد إليه، ولا تعرض له بعده معترض، فقال في علي بن أبي طالب ﵁ بسيط:
لكن أبو حسن والله أيده ... قد كان عند اللقا للطعن معتادًا
إذا رأى معشرًا حربًا أنامهم ... إنامة الريح في أبياتهم عادًا.
٩٨ قال أبو علي، وأنا أقول: إن من أحسن التشبيهات قول حميد بن ثور الهلالي طويل:
أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبًا فيها يهب ويهجع
دجا الليل واستن استنانًا رفيفه ... كما استن في الغاب الحريق المشعشع
سرى كاحتساء الطير والليل ضارب ... بأرواقه والصبح قد كان يسطع
وقول الشماخ وافر:
لليلى بالعنيزة ضوء نار ... تلوح كأنها الشعرى العبور
إذا ما قلت أخمدها زهاها ... سواد الليل والريح الدبور
وقول امرئ القيس طويل:
جمعت ردينيًا كأن سنانه ... سنا لهب لم يستعر بدخان
الفصل الثاني
أبدع حشو انتظمه بيت أورد لإقامة وزنه
٩٩- قال أبو علي: وهذا باب لطيف جدًا، لا يتيقظ له إلا من كان متوقد القريحة متباصر الآلة؛ طبًا بمجاري الكلام؛ عارفًا بأسرار الشعر؛ متصرفًا في معرفة أفانينه، ولا أعلم أحد أحسن فيه إحسان طرفة في قوله بسيط:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صواب الربيع وديمة تهمي
لأنه احترس للدار من تعفية آثارها؛ ومحو رسومها؛ بقوله "غير مفسدها" وسلم من التعلق على بيت ذي الرمة طويل:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى ... ولا زال منهلًا بجرعائك القطر
فإن جماعة من أصحابنا؛ تتبعوا قوله "لا زال منهلًا بجرعائك" قالوا وإذا كان الأمر كذلك؛ طمس معالمها؛ وعفى رسومها، ولعمري إن في ذلك بعض التعلق؛ ولكنه -الباين- قد احترس من هذا الاعتراض؛ احتراسًا قدمه في صدر البيت في قوله "اسلمي على البلى" فدعا لها بالسلامة على تعاقب الأحوال؛ وتصرفها؛ التي توجب بلى الدار؛ واندرس الآثار؛ ثم استسقى لها بأن قال "ولا زال منهلًا بجرعائك القطر" فتعلق المعنى الثاني بالأول؛ ودخل تحت الدعاء لها بالسلامة، وإنما ذهب في الدعاء لها بقوله: "ولا زال منهلًا بجرعائك القطر" إلى قول القائل "ما زلت آتيك" يريد أكثر من إتيانك؛ لا أنه أراد أن إتيانه لا ينقطع عنه، إلا أنه لا يقع تعاقب فيه، ألا ترى إلى قول كثير وافر:
وما زالت رقاك تسل ضغني ... وتخرج من مكامنها ضبابي
ويحويني لك الحاوون حتى ... أجابت حية تحت اللضاب
فقوله "وما زالت رقاك" غير دال على أنها دائمة الاتصال، غير منقطعة الانفصال، وإنما يذهب بهذه الكلمة مثل هذا الموضع وإضرابه إلى ما ذكر آنفًا دون غيره، من الملازمة، والمخالفة التي لا ينقطع بها انقطاع.
١٠٠-ومثل هذا في براعة الحشو، قول الأخطل بسيط: وأقسم المجد -حقًا- لا يحالفهم حتى يحالف بطن الراحة الشعر فقوله "حقًاط حشو أفاد أحسن معنى، ووقع أحسن موقع.
١٠١- ومن بارع هذا المعنى قول امرئ القيس طويل:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فلو قال: كأن عيون الوحش الجزع الذي لم يثقب، واستقام الوزن بذلك، لكان التشبيه تامًا واقعًا، فلما لم يقم الوزن، أورد في المعنى زيادة بارعة، رائعة، لأن قوله "حول خبائنا وأرحلنا" إخبار عن كثرته، وتمدح منه بأنه مرزوق في صيده.
١٠٢- وقال الفرزدق طويل:
وقد خفت حتى لو أرى الموت مقبلًا ... ليأخذوني، والموت يكره زائره
لكان من الحجاج أهون روعة ... إذا هو أغفى وهو سام نواظره
1 / 16