وكانت أسعد ليلة ابتسم فيها الصباح عن أحد بالغنى.
٩٣ قال أبو علي: وأخبرنا محمد بن عبد الواحد، عن أحمد بن يحيى، عن أبي نصر، عن الأصمعي قال: اجمع أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، ويونس -وهؤلاء أهل العلم بالشعر- أن التشبيهات العقم، التي انفرد بها أصحابها، ولم يشركهم فيها غيرهم ممن تقدم، ولا ممن تأخر أبيات معدوات:
أحدها-قول عنترة في تشبيه حنك الغراب بالجلمين كامل:
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع
حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
ثانيها- وقول عدي بن الرقاع في تشبيه قرن الظبي كامل:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
ثالثها- وقول الراعي يصف ناقصًا، جعد الرأس، دنس الثياب كامل:
فكأن فروة رأسه من شعره ... رعيت فأنبت جانباها فلفلًا
رابعًا وقول بشر بن أبي خازم بن عمرو الأسدي إذ حفر أصله الثور بأظلافه بالأعنة طويل:
يثير ويبدى عن عروق كأنها ... أعنة خراز تخط وتبشر
شبه عروق الأرطي بحمرة الأعنة، أي كأنها أعنة خراز بين جديد وبالٍ.
خامسها وقول الطرماح في وصف النعام بسيط:
مجتاب شملة برجد لسراته ... قدرًا، وأسلم ما سواه البرجد
سادسها وقول ذي الرمة في تشبيه الليل، ولم يقل أحد قبله، ولا بعده، في هذا المعنى مثله إلا إنهم قد شبهوا الليل بالطيلسان في خضرته وأمواج البحر وغير ذلك -طويل:
وليل كجلباب العروس أدرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
أحم علافي، وأبيض صارم ... وأعيس مهري، وأروع ما جد
سابعها وقول مضرس بن ربعي في صفه نعامة بسيط:
صفراء عارية الأكارع، رأسها ... مثل المدق، وأنفها كالمبرد
٩٤ قال الأصمعي: ومن هذه التشبيهات التي سبق إليها قائلوها، وقصر عنها طالبوها، بل لم يتعرض لها متعرض من الشعراء، قول النابغة في تشبيه النسور طويل:
تراهن خلف القوم خزرًا عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرئب
ولقد أحسنت أخت ذي الكلب في قولها بسيط:
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال: وقول عبد الله بن الزبير الأسدي في تشبيه رأس القطاة بالجوزة طويل:
تقلب للإصغاء رأسًا كأنها ... يتيمة جوز اعترتها المكاسر.
قال أبو علي: الزبير: البئر المطوية بالحجارة، والزبير الداهية، والزبير: الكتاب المكتوب، أخذ من المزبر وهو القلم وقوله أيضًا طويل:
جرى.. الحيات فيها كأنها ... مصانع.. لأن ارحل
مرت نطفة بين البراتي كأنها ... سقط من الجوانح.. مقبل
لأصهب صيفي مشته خطيم ... إذا حضرت تسديه حبة فلفل
تقلب رأسًا كال ... وو أنا ... نورد قطاة غلست ورد منهل
٩٥ قال أبو العباس، وأنا أقول: قول ذي الرمة في تشبيه الرمل بأوراك العذارى -وهذا من احتيال الشعراء-طويل:
ورمل كأوراك العذاراى قطعته ... إذا لبسته المظلمات الحنادس
وقول رجل من باهلة يشبه بغي رجل ذكره وافر:
وبغيك يا ابن جزء في تماد ... كسيل الأكم يبتدر الوهادا
وقول امرئ القيس طويل:
كأن عروسًا يوم جلوة أهلها ... عليها شنوف الدر هضبة أسلاف
وأخذه أبو ذؤيب فقال في صفة عقبة بسيط:
كأنها كاعب حسناء زينها ... حلي وأترفها طعم وإصلاح
٩٦ وقال أبو علي: أخبرني محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرني ابن ابي حية عن الجاحظ قال: "لا نعلم في الأرض شاعرًا تقدم في تشبيه مصيب تام، في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم، أو في معنى بديع مخترع، إلا وكل من جاء من الشعراء بعده، أو معه، إن هو لم يغر على لفظه فيسرق بعضه، أو يدعيه بأسره، فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكًا له فيه، أو كالمعنى الذي يتنازعه الشعراء بينهم، فتختلف ألفاظهم، وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، ولعله أن يجحد أن يكون سمع بذلك المعنى قط، وقال خطر على بالي من غير سماع، كما خطر على بال الأول، هذا، إذا قر بما به، إلا ما كان من قول عنترة في وصف الذباب، فإنه وصف فأجاد.
1 / 15