وأخيرا أقول: كل هذه وسائط مختلفة عرضا متفقة في الجوهر، والله الهادي إلى الصواب. ثم كيف لنا أن ننكر الواسطة ما زالوا يزعمون أن الوسيط يخاطب الأرواح، وأنه إذا كان ملكة جمال كان مستطيعا أكثر. وكان أقوى وأفعل لأن الله جميل ويحب الجمال.
ولولا الوسائط لم تكن عيال بأسرها، بل قرى ومدن وقصبات تستأثر بوظائف الدولة ومرافقها! أما من ليس لهم يد وواسطة، فلينتظروا.
لا يحولون ولا يزولون
قيل لي: أما أنا فما زرت أوروبا ولا غيرها. إنهم هناك يعينون في المخازن الكبرى مستخدما (برسم البهدلة) فكل تقصير مع الزبائن ينسب إليه ويصب عليه الخواجه جام غضبه حين يشكو إليه أحد إبطاء أو تأخيرا. وكذلك فعل بنو إسرائيل حين صبوا تمثالا سموه (تيس الخطية) فكانوا يتمسحون به ليحمل خطاياهم عنهم، ثم يذبحونه ليبرءوا من ذنوبهم. وهكذا نحن نعيب زماننا والعيب فينا، فلو تطهرنا من عنعناتنا عمليا لا قوليا، اختفت أعراض الطائفية التي هي كالعر - الجرب - يكمن حينا ثم ينتشر. إن وباء الطائفية منتشر اليوم أكثر منه في كل زمان، والطائفية عندنا.
كأهل النار إن نضجت جلود
أعيدت للشقاء لهم جلود
ندعي نحن أننا من أبناء عصر النور، وأن المرحومين جدودنا عاشوا في الظلمات، ولكننا إذا قسنا أنفسنا بهم رأينا أنهم كانوا أكثر تساهلا منا. كان جدي يتمون ويتبضع كل عام من طرابلس، ولم يكن يطيب له شراء مئونته وحوايج بيته إلا من عند الحاج مصطفى. فلا ينتصف شهر آب ويأتي عيد السيدة وهو ميزان الأسعار عند القدماء حتى يتحرك موكب الدواب ويركب الخوري بغلته ويسير في الطليعة، حتى إذا ما بلغ أبواب المدينة مشط لحيته ونفض عنه غبار الطريق، ثم يتوغل فيها حتى يحط الرحال بباب مخزن الحاج مصطفى، فتتشابك اللحى وتتهادى كالمراوح، ويموج القاووق والعمامة كهرمين صغيرين، ويرى من في السوق حاجا طرابلسيا وكاهنا مارونيا جبليا يتعانقان ويتصافحان بشوق. ولا يأتي المساء حتى يحل الخوري ضيفا مكرما في بيت الحاج. يصلي كلاهما صلاته في حينها، وصلوات الخوري الماروني خمس كصلاة المسلم. الصبح والظهر، والعصر والمساء، والليل. حتى إذا ما انتهت صلاتهما استأنفا الحديث. وبعد يومين ثلاثة يفرغ جدي من تعبئة المئونة وتمشي القافلة على خيرة الله طلوع النجمة، وتمسي في عبرين لتكون في الغد، عند انتشار النهار، في عين كفاع.
وفي إحدى السنوات افتقد جدي كيسه عند عودته من طرابلس فلم يجده، فضفقت الخورية كفا على كف، وصاحت يا خراب البيوت. اقطع الشك يا خوري حنا. فقلب الخوري جيوبه لها ونفض كمره فلم يعثر على شيء، فقعد كئيبا يفحص ضميره ويتذكر. المبلغ غير قليل، وهو الحيلة والفتيلة كما تقول العوام. وظلت الخورية واقفة واجمة، وأخيرا انفجرت فزجرها الخوري قائلا: المال الحلال لا يضيع.
ومر شهران والمال الحلال لم يرجع والليرات الذهبية ظلت في غربتها. وجاء موسم الزيتون فغدا الخوري ليقدس ويذهب إلى القطاف. وبينا كان يدور في الكأس رأى رأسا عليه لفة امتد من الباب وارتد، فخال أنه شبه له. وانتهى القداس وما خرج الخوري من الباب حتى رأى نفسه أمام مسلم يسلم عليه بوقار ودالة. وتعارفا أخيرا وقال الرسول لجدي: صاحبك الحاج مصطفى يسلم عليك، أرسلني حتى أسلمك هذه الأمانة.
وعاد الكيس والليرات واغتبطت الخورية: يسلم دين لحيتك يا حاج مصطفى! وأراد الخوري أن يكرم الرسول الذي يمشي ثلاثة أيام ذهابا وإيابا فأبى الرسول قائلا: أجرتي واصلة لي من الحاج، حرم علي أخذ بارة واحدة منك وهو يسلم عليك ويقول لك: ما وجد طريقة أمينة حتى يرسل إليك حلالك قبل الآن.
Неизвестная страница