إن هذه المناظر المخجلة حقرت في نظري طائفة من المتطفلين على الصحافة، ولكنها لم تحقر صناعة الصحافة، ولا نزلت بأعلامها النابهين إلى منزلة أولئك المتطفلين، ولست أعتقد أنني كنت مستطيعا أن أحتقر هذه الصناعة من أجل ذلك المنظر المخجل، ولو كنت من المستخفين بها والزاهدين فيها؛ لأن قوة الدعوة القلمية في تلك الفترة قد بلغت في القاهرة مبلغا لا يدانيه ما بلغته في عاصمة من عواصم المشرق والمغرب، ولا إخالها تبلغه اليوم ، على عظم الفارق بين صحافة اليوم وصحافة مصر والشرق قبل خمسين سنة ...
كانت القاهرة مركزا لكل دعوة تهتم بها دول العالم ذوات المطامع في الشرقين: الأدنى والأقصى، ومركزا لكل دعوة يديرها دعاة الجامعة الإسلامية، ودعاة الوحدة العربية ودعاة تركيا الفتاة، ودعاة الإصلاح في إيران وأواسط آسيا، ودعاة الحركات الوطنية في مصر نفسها، وفي سائر الأقطار الأفريقية من شمالها في بلاد المغرب إلى جنوبها في بلاد السواحل وزنجبار.
وكانت قوة هذه الدعوة تخيف الملوك والساسة على عروشهم، وعلى أرواحهم وأبدانهم، ولا تمهلهم أن يتجاهلوها أو يغفلوا طرفة عين عن أخطارها وعواقبها، وقد حدث أن حركة في القاهرة زلزلت عرش عبد الحميد في الآستانة، وأن رجلا شهرته دعوة القلم واللسان ذهب إلى إيران لإتمام هذه الدعوة، فطرده الشاه وأهانه اثنان من وزرائه، فقتل الثلاثة جميعا، وقال قاتلوهم: إنهم قضوا عليهم بالحق انتقاما لذلك الداعية الطريد: جمال الدين.
كانت هذه الحقيقة من وقائع الحال الغنية عن المقال، ومن طرائفها المروية أن السلطان عبد الحميد كان ينام في يلدز، وعيناه في شارع محمد علي بالقاهرة، واتفق يوما أن المويلحي الكبير - صاحب «مصباح الشرق» - دخل مكتب «المؤيد»، ووجد فيه نخبة من كتاب عصره وفضلائه، فتوقف عند الباب وقال وهو يرفع يديه إلى سقف الحجرة: قادر أنت يا رب أن تسقط هذا السقف على من تحته، فيستريح عبد الحميد! قال محمد عبده، وكان من زوار الحجرة: نعم ... لو تقدمت أنت خطوتين! وتلك نادرة من نوادر الفكاهة التي تخلقها الحقيقة الواقعة، وما يكون لها أن تخلقها لو كانت محض مزاح ...!
تهيأت القاهرة لاجتماع هذه القوة فيها؛ لامتيازها بين عواصم الشرق بمركزها التاريخي، ومركزها الحديث، ولم تتهيأ لها مدينة أخرى على مثالها من الآستانة عاصمة الخلافة إلى ما دونها من عواصم الولايات المتحدة والحكومات، ولم تكن القاهرة عاصمة الدعوة الكبرى مصادفة، ولا لعلة من العلل العارضة ...
فالآستانة هي عاصمة الخلافة، ومركزها بهذه الصفة أهم المراكز في العالم الإسلامي، وعالم السياسة الشرقية على إجماله ... ولكن قيام الدعوات القلمية أو اللسانية فيها أمر لا يخطر على بال الدعاة لشدة الحجر فيها على الأقلام والألسنة، وحظر الاجتماع فيها وتأليف الجماعات للمقاصد السياسية ...
وعواصم الشرق الأدنى مهمة بشهرتها وموقعها، ولكنها لم تكن قط مركزا يتلقى منه العالم الشرقي دعوة عامة على نطاق واسع، وحكمها حكم الآستانة في حرية الدعوة والاجتماع ...
أما القاهرة فقد كانت، منذ بنيت في أيام الفاطميين، مركز داعي الدعاة، أستاذ الأساتذة في فنون الدعوة بالقول والإشارة، أي: بالخطب والرسائل والرموز السرية والموالد والزفات!
ثم أصبحت مركز الإعلان الاقتصادي والسياسي في الحقبة التي اشتدت فيها المنافسة بين أصحاب التجارة من طريق البحر الأحمر، وأصحاب التجارة من طريق رأس الرجاء ...
ثم جعلها الخديو إسماعيل قطعة من أوروبا بمحاكمها المختلطة، وامتيازاتها الأجنبية، واشتباك المصالح المتعارضة فيها بين الدول، وتلاطم التيارات حولها من داخل البلاد العثمانية في شئون الحكم، أو شئون الثقافة ...
Неизвестная страница