ولست أنسى نظرة الكتبي العتيق إلي من تحت نظارته الملحومة في موضعين أو ثلاثة: «ماذا؟ تترك خدمة «الميري» وتشتغل بالغزازيط والجرانيل؟ إن كنت لا تدرك ما أنت مقدم عليه، فانتظر هنيهة لترى مائة من هؤلاء «الصائعين» الضائعين يتمنون التراب تحت قدميك في وظيفتك ولا يصلون إليه ... لا يا صاحبي ... لا ... إنني أراك أعقل من هذا يا بني ... فلا تخيب أملي فيك ...!»
ولم يقنعني كلامه؛ لأنني لم أسمع منه جديدا عن خدمة «الميري» وقداستها في عرف أبناء جيله، ولم يزحزحني تحذيره قيد شعرة عن نية المضي في الاستعداد والتنفيذ ...
وإنما زحزحني عن هذه النية قيد فرسخ - لا قيد شعرة وحسب - منظر أو منظران من المناظر التي كانت تتكرر في كل حلقة صحفية، ولا يستغربها أحد من المتفرجين؛ لأنها من أدوات المهنة المتفق عليها ومن أدوارها التي تعاد في كل قصة، فلا يجهلها إلا الذين يجهلون الصحف والصحفيين، أو الجرنالجية وجماعة الغزازيط، وتجار التجريس والتنبيط!
كانت بجوار المكتبة مطبعة صغيرة تطبع فيها الصحف الأسبوعية، وكان «مدير» إحدى الصحف يرجو صاحب المطبعة أن يعجل بإصدار العدد، ويأبى صاحب المطبعة أن يخرج العدد، ما لم يحصل على أجرته وأجرة العدد السابق الذي صدر قبل أسابيع، ووقف المدير ينتظر وكيلا له أرسله إلى المشتركين للتحصيل، وعاد الوكيل على صورة يقصر عنها أمل المتسول الذي يريد أن يبالغ في إثبات صناعة التسول، واستدرار شفقة المحسنين والمسيئين! فصاح به المدير: ما وراءك؟
فأخرج له الوكيل إيصالا معادا من أحد المشتركين، وقال: إن الاشتراك مسدد قبل الآن ...
فسأله المدير: وأين الإيصال الآخر؟
قال الوكيل: إن الرجل قطعه ورماه في خلقتي!
فهم المدير بضربه، وهو يقول مختنقا من الغيظ: رماه في خلقتك؟ مستحيل ... إن فضيحة بيته معروفة ويخشى من الإشارة إليها بكلمة، فلا تقل: إنه قطع الإيصال ورماه في خلقتك الشريفة، بل قل: إنك سكرت بالاشتراك كعادتك، وجئتنا برائحة الخمر تفوح من فمك ...
وكان هذا أول الأدوار التقليدية المحفوظة، ولم يكن آخرها ولا أقبحها، وفي واحد منها الكفاية للعدول على الأقل عن الخطوة الأولى، وقد عدلت عنها إلى الآن.
ولكن لم أحتقر الصحافة
Неизвестная страница