فقهقه راميرز وصاح: لقد رعبتني يا سيدتي روزالي، وأي حزن، وأي أسى في هذا الحادث؟ إنني أنا الذي وشى به إلى ابن جهور، وأنا الذي أرشده إلى مكان اختفائه.
فصرخت عائشة: أنت أيها الجاهل الغر الأحمق! ومدت ذراعيها إلى رقبته تريد أن تخنقه لما انتابها من الغيظ، فتراجع خطوات في دهشة وقال: ماذا بك يا سيدتي؟ إنني أعد القضاء على أبناء الخلائف من أشرف الغايات التي نعمل لها ونسعى إليها. إن الملك لن يعود إلينا، ولن تخفق راية الأسبان على البلاد مختالة عزيزة، إلا إذا قضينا على هؤلاء النفر واحدا واحدا، مرة بالكيد، ومرة في ميادين القتال. لقد سمعت ملك قشتالة يقول: إننا سننقض
3
بنيان هذه الدولة حجرا حجرا. فهل يريد إلا أن يطوي أمراءهم واحدا بعد واحد؟ - سمعته يقول ذلك يا غبي؟ - نعم سمعته، وأنا ألقن الناس بما يريد. - اجلس. قاتل الله الجهل! وقاتل الله الغرور! أتدري أيها المفتون بذكائه أنك بفعلتك هذه لم تهدم البناء، ولكنك وطدت أركانه، وشددت أواسيه، ليبقى أعواما وأعواما حصينا ممنعا ؟ فبهت راميرز وقال متخاذلا: كيف يا سيدتي؟ - كان تدبير مولاي الملك أن يظاهر ابن المرتضى على ابن جهور، ويجلسه بقوة جنده وسلاحه على عرش قرطبة، ثم يتخذه وسيلة لغزو الولايات الأخرى، ويجعل منه طعما لصيد دويلات العرب واحدة تلو واحدة. وكانت رسالتي من قشتالة إلى قرطبة لإنفاذ هذه الخطة. أفهمت أيها العبقري المأفون؟ أفهمت أنك بذكائك الخارق ولوذعيتك التي لا تدرك أضعت على الأسبان جميعا فرصة سانحة لن يجود الزمان بمثلها؟
فاصفر وجه راميرز وأكثر من بلع ريقه وقال في توسل: لم أكن أعرف كل هذا يا سيدتي، وإنما فعلت مجتهدا ما ظننت فيه الخير لدولة الأسبان، وإني لأخشى أن يصل خبر فعلتي هذه إلى مولاي الملك فأكون من الهالكين. - لا عليك يا ابن بترو فلن يعرف الخبر إلا أنا وأنت. والمثل الأسباني يقول: ما أضيع الحزن على زجاج تحطم. أعندك خبر عن ابن زيدون؟ - لا يزال سجينا يقاسي مر العذاب. - ليتني أستطيع زيارته. - هذا ممكن، فكبير السجانين صديقي، وهو يزور حانتي بين الفينة والفينة. - نترك هذا إلى حين.
الفصل الثاني عشر
كان ابن زيدون لا يزال في سجنه يقاسي ألم الوحدة وذل الإسار، ويبكي بعده عن ولادة، ويندب آماله التي طارت مع الرياح. فقضى في السجن أكثر من عام يخاطب الجدران، وينادم القضبان، ويشكو بثه إلى نفسه، وينتظر الفرج في كل لحظة، فيخيب أمله في كل لحظة، ويستقبل النهار المشرق بمثل ما يستقبل به الليل العابس. وإذا أظلمت نفس المرء فماذا يفيد الضياء؟ وسعادة الإنسان وشقاؤه من نفسه التي بين جنبيه، فقد تريه الأمن خوفا، وقد تريه البؤس نعيما.
كان يوالي إرسال قصائد الاعتذار إلى ابن جهور فما أجدى، وكان يكرر الاستنجاد بابنه أبي الوليد فلا يجد مجيبا، فالتجأ آخر الأمر إلى صديقه الوزير أبي حفص بن برد، وكانت له منزلة أثيرة عند ابن جهور فكتب إليه:
ما على ظني باس
يجرح الدهر وياسو
Неизвестная страница