فصاح كبيرهم وكان داهية في الملق: لقد كدت يا مولاتي أجرد سيفي وأسألك عما صنعت بسيدتنا. فهزت عائشة رأسها في حزن وقالت: لا، إنني لن أموت بسيف أسباني. - كلنا فداؤك يا سيدتي! - باركتكم العذراء؛ عودوا الآن إلى قشتالة واتركوني، فإني سأخوض حربا لا تعرفونها، ولي من الحيل سلاح تكل دونه أسلحتكم. إننا جميعا جنود لنصرة راية الأسبان واستعادة ما كان لها من ملك وسلطان، ولكن أسلحتنا تختلف، وقد ينال بالدهاء ما لا ينال بالسيف البتار. إنني أيها الأبطال من جنود الطليعة الذين يمهدون لكم الطريق، ويثبطون العزائم، ويبثون الفتن، فإذا جئتم بعدنا فحسبكم جولة صادقة لتكون البلاد تحت أقدامكم. اذهبوا وسوف نلتقي جميعا في قرطبة لنصلي صلاة الظفر والانتصار.
ثم انطلقت نحو المدينة في مشية متعثرة مكدودة، شأن القرويات اللائي آلمهن طول المشي ووعورة الطريق.
دخلت عائشة قرطبة تحمل جرتها، وما كادت تبلغ «حي المضرية» حتى رأت هرجا وسمعت صياحا، وشاهدت الناس يتسابقون نحو ميدان الفتح، كأن حادثا جللا هالهم، أو مشهدا رائعا اجتذبهم، فاقتربت من شيخ أثقلته السنون، يتزيا بزي العلماء، ويرتسم على وجهه التزمت والعبوس، وسألته في لهجة ريفية ساذجة: ماذا حدث يا مولانا؟
فهز الشيخ رأسه في حزن الساخط على الحياة وقال: نحن يا ابنتي في اضطراب لا ينتهي، وفتن لا تخمد نارها، ففي كل يوم ثائر، وفي كل يوم جاسوس، وفي كل يوم لصوص يغيرون، أما المنكر والافتنان في العبث والمجون فقد جاوز الحد، وتحدى ملائكة السماء. ويل لقرطبة من بنيها! ثم ويل لها من أعدائها! إن هذا من غضب الله على الناس. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فتنهدت عائشة وقالت: الإسلام بخير يا مولانا. - الإسلام بخير يا فتاة، ولكن أهله ليسوا بخير. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. - ولكن ما أسباب هذا الفزع وهذه الضجة يا مولانا؟ - هذا ابن المرتضى يا بنية، وهو بقية من ولد الناصر، عاد إلى قرطبة مستخفيا، والتفت حوله دعاة وأشياع يمهدون له سبيل الخلافة، فعقد ناصيته بالثريا، وأصبح من طماح همته في جهد، وقد اهتدى إلى مكانه جواسيس ابن جهور، فانقض عليه صاحب المدينة بجنده وأعوانه في داره بربض البرج، وهو الآن يقاد إلى عميد الجماعة بالسلاسل، أو يقاد إلى الموت بالسلاسل، فكلاهما عندي وعنده سواء.
ذهلت عائشة لهول الخبر حتى لكأن صاعقة انقضت عليها، أو كأن عاصفة اجترفتها وتركتها معلقة بين الأرض والسماء. وقفت ولم تدر أين وقفت. واضطربت ميزانها فسقطت الجرة وتناثر ما بها من ماء فأفاقت من غشيتها، ونظر إليها الشيخ في عجب وقال مترفقا: ماذا أصابك يا فتاة؟ - آلمني يا سيدي ما نحن فيه دائما من شغب وانقسام. - إن قرطبة لا ترضى عن حاكم ولا يرضى حاكم عنها، وهذا أصل الشر ومنبت البلاء، وإني لا أخشى على المسلمين من عدو مفاجئ بقدر خشيتي عليهم من أنفسهم. اذهبي إلى قريتك يا فتاة، وعيشي آمنة في سربك، فلن تري في هذه المدينة إلا صراعا وخصاما.
غادرته عائشة وهي حزينة مختبلة، تصور مشيتها ما في نفسها من قلق، وما في عقلها من وساوس وهموم، وكانت تهز رأسها واجمة وتقول: هذا أول بيت في القصيدة، كله رثاء وعويل وبكاء. هذه أول خطوة أمد بها رجلي في سبيل الانتقام من أعدائي، ليس فيها إلا تعثر وسقوط. ألهذا قضيت شهرا كاملا في الوصول إلى قرطبة أعاني عذاب السفر وأكابد قسوة الطريق؟ اليوم تلتقي كفا ابن جهور بعنق ابن المرتضى، وينتهي الأمر، ويفسد التدبير كله، ويبقى عدوي على عرشه عظيما مملكا رغم أنفي وأنف ملك قشتالة. يا للخذلان! ويا للخيبة! كأنما القدر انتظر بابن المرتضى، حتى إذا فكرنا في اتخاذه أحبولة اختطفه من أيدينا ليتركنا ساهمين حائرين. لقد كانت الخطة محكمة، وكان التدبير سليما، وكانت الغاية محققة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يلمح ما وراء الغيب؟ ومن الذي في يده أن يكف يد القدر؟ ثم ابتسمت ابتسامة المفجوع وقالت: القدر؟ هذه تكأة العاجزين. أفيقي يا عائشة، إن اللوذعي
2
إذا لم يستطع أن يوقف القدر، فإنه يستطيع أن يتخيل مجرى القدر، وأن يعد لكل شيء عدته.
ثم أخذت سمتها نحو دار راميرز، فأنكرها أول ما رآها، فلما عرفته بنفسها، وثب نحوها يعانقها في محبة وشوق ويقول في صوت خافت: - كيف جازفت بنفسك يا سيدتي عائشة؟ - اسمي روزالي. - روزالي؟ مرحبا بروزالي، وهناء لدولة الأسبان بأمثالها. كيف خاطرت بالمجيء إلى قرطبة يا روزالي، وأعداؤك هنا لا يحصون عددا؟ - إن روزالي ليس لها أعداء، وقد ذهبت عائشة بنت غالب إلى غير رجعة، ولن تستطيع العين الطلعة أن تنفذ إلى عائشة بعد أن سترتها روزالي بحجاب من التنكر كثيف. أسمعت بالحادث المحزن الجديد؟ فارتاع راميرز وارتجف وقال في تلعثم. - أي حادث يا سيدتي؟ - قبض ابن جهور على ابن المرتضى.
Неизвестная страница