قال لصديقي الباشا السيئ الحظ بصوت لم أسمع مثله جلالا؛ لأني لم أتشرف بعد بمخاطبة الملوك. - ألا تعرفني أيها العبد؟ .. لماذا لا تجثو ساجدا بين يدي؟
ولم أسمع للباشا صوتا، ولا استطاع بصري أن يتحول إليه، ولكني سمعت العظيم ذا الصوت العظيم يقول مرة أخرى: لم أشعر بقهر أسر الموت إلا حين شاهدت روحي هذه العجائب التي تحدث في الدنيا وأنا مقيد بأصفاد الأبدية لا أستطيع حراكا، ولم أقدر أن أذهب إليك لأن حياتي انتهت كما قضى أوزوريس .. ولكنك سعيت إلي بقدميك .. وإني لأعجب كيف سولت لك نفسك هذا الفعل الأحمق .. أبلغ بك البطر الجنون ؟ .. ألا تحمد الآلهة أن حالت بيني وبينك بالموت؟ ماذا جئت تفعل أيها العبد؟ ألم يقنعك أن تنهب أبنائي فأتيت تنهب قبري؟ .. تكلم أيها العبد.
ولكن أنى للمسكين أن يتكلم .. إنه لا يفقه شيئا .. ولا يبدي حراكا .. لقد دبت الحياة في المومياء .. وفارقت قلب الباشا الحي.
أما المومياء فعادت تقول: ما لك لا تتكلم؟ .. ألست حور؟ .. ألست عبدي شنق؟ .. ألا تذكر أني جئت بك من الشمال في إحدى الغزوات الظافرة؟ .. أتتجاهلني أيها العبد؟ .. إن جلدك الأبيض الذي يرمز إلى العبودية يفضحك مهما تنكرت .. ما هذه الملابس المضحكة التي ترتديها؟ .. وما هذه الأبهة الكاذبة التي تختفي وراءها؟
وظن حور أن الباشا لا يريد أن يتكلم، فانتفخت أوداجه، وتقطب جبينه، وصاح غاضبا: ما الذي دهاك؟ ما الذي دهى الأرض فجعل أعزتها أذلة وأذلتها أعزة، وخفض السادة عبيدا ورفع العبيد سادة؟ كيف تملك أيها العبد هذا القصر ويعمل أبنائي فيه خدما؟ أين التقاليد المتوارثة، والقوانين المقدسة؟ ما هذا العبث؟
واشتد الغضب بحور فاستحالت عيناه جمرتين يتطاير منهما الشرر، وصاح بصوت كالرعد: كيف تتجاسر على ابني أيها العبد؟ لقد سمته الذل بقساوة دلت على العبودية التي تنضح بها نفسك، ضربته بعصاك لأنه جائع، ودفعت إخوته إلى ضربه، أيجوع في مصر أبناؤها؟ الويل لك أيها العبد!
ولم يكد يتم كلامه حتي تقدم نحو الباشا مزمجرا كأسد هصور يهم بفريسته.
ولكن الباشا التعس لم ينتظره؛ لأنه كان قد فقد قوة الاحتمال، فسقط على الأرض لا حراك به، وكأن تهديد حور قد أشاع في الحجرة رعبا جديدا أتى على البقية الباقية من التماسك في النفوس، فما لبث الشيخ جاد الله أن سقط على وجهه وسقط معه المصباح، فانطفأ نوره وساد الظلام، وانكمشت بغتة كأني أتقي ضربة قاتلة لا أدري من أين تقع على رأسي، وحملقت في الظلام وأنا أنتفض فرقا وذعرا، ثم خارت قواي، وشاء حظي الحسن أن أفقد شعوري وأغيب عن العالمين. •••
سادتي .. إنه لتأتي علي أوقات يصيبني فيها ذهول وتخامرني شكوك، فأسائل نفسي مرتابا: هل كان حقا ما رأيت أم كان وهما؟ .. وربما ملت أحيانا إلى تكذيب نفسي، ولكن كلما أميل إلى الشك تصدمني حقائق لا قبل لي بها .. فما قولكم مثلا في شهادة الشيخ جاد الله وهو حي يرزق ويستطيع أن يعيد لكم ما حكيت .. وما قولكم في جنون الخادمين التعيسين .. ومقبرة حور .. والقصر المهجور؟ .. بل ما قولكم في حادثة موت المغفور له محمود باشا الأرنئوطي التي ما يزال يذكرها جميع قراء الصحف ويعجبون لها أشد العجب؟
كيدهن
Неизвестная страница