ما هذا؟ .. كيف فتح التابوت؟ .. هل أثرت في إقامتي الطويلة في الشرق فغدت عيني تتأثر إلى هذا الحد المضحك بأوهامه وسحره؟
ولكن أي سحر هناك؟! .. إني أري المومياء أمامي، ولست الوحيد الذي يراها؛ فها هو ذا الباشا قد تحول إلى تمثال، وها هم الرجال الثلاثة يكادون يموتون من فرط الهلع والذعر .. فأي وهم هذا؟!
والحق أنني أحس بالخجل كلما اضطرتني الظروف إلى سرد ما حدث بعد ذلك؛ لأني أحدث في العادة أناسا عقلاء مثقفين درسوا تيلور وليفي برول ودركيم، ولكن ما حيلتي؟ .. إن ديكارت نفسه لو كان في مكاني تلك الساعة ما أتته الشجاعة على الهزء بحواسه.
ماذا رأيت؟
رأيت المومياء تتحرك وتقعد في التابوت في حركة خفيفة لا يقدر عليها المخمور أو المثقل بالنوم فضلا عن المبعوث من عالم الأموات، ثم قفزت قفزة غاية في الرشاقة انتصبت قبالتنا أمام التابوت.
وكنت موليا ظهري الخادمين والشيخ جاد الله فلم أر ما حل بهم، ولكن ارتعاش النور الذي يضيء الحجرة دل على كهربة اليد التي تمسك به، وكنت في حالة يتعذر وصفها. وأعترف أن مفاصلي تفككت من الرعب الذي لا يوصف، وذعرت ذعرا لم أحس بمثله في حياتي على الإطلاق، ولا تكاد تذكر إلى جانبه أهوال الأيام الشديدة التي قضيتها في الجبهة الشرقية ومعركة المارن.
يا للعجب! .. ألم يكن حيال مومياء .. أو حيال جثة ردت إليها الحياة بطريقة خفية .. أو أمام قائد مصري كان يرتجف هولا وخشوعا إذا اجتاز عتبة القصر الفرعوني؟ ولكن هل كان من الممكن أن يخالج نفسي في تلك الساعة فكر من هذه الأفكار؟ .. بل هب أنه خالجها، فهل كان يستطيع أن يهدئ من رعبها شيئا؟ .. فزعت فزعا قاتلا .. على أن عيني استطاعتا أن تريا كما استطاعت ذاكرتي أن تحفظ ما رأت عيناي.
ولم أجد أمامي مومياء بل رجلا حيا كامل الرجولة والحياة، وكانت هيئته تذكر بتلك الصور التي ترى بكثرة على جدران المعابد، فكان يرتدي ثوبا أبيض ووزرة قصيرة، ويغطي رأسه الكبير بقلنسوة أنيقة، ويحلي صدره العريض بنياشين كثيرة زاهية، وكان مهيبا رهيبا متعاليا، ولكني بالرغم من جلاله خيل إلي أني رأيته من قبل، وذكرت بالفعل الصعيدي الذي ساقه الخدم إلى الباشا واتهموه بسرقة غذاء الكلب بيميش، كان شبها غريبا، ولكنه اقتصر على الطول واللون والقسمات دون الروح والحياة، ولولا ما كان يبدي الماثل أمامي من النبل والتعالي لربما خالجتني شكوك.
وكان يحدج الباشا بنظرة قاسية لا يحولها عنه كأنه لا يرى سواه.
ماذا أقول يا سادة؟ .. لقد سمعته يتكلم .. إي والله، لقد تكلم حور بعد أن صمت ثلاثة آلاف من السنين، وتكلم بتلك اللغة القديمة التي طواها الموت منذ آلاف السنين، وسوف أنسى كل شيء في دنياي قبل أن أنسى كلمة واحدة مما نطق به لسانه.
Неизвестная страница