Так я был создан: длинная история
هكذا خلقت: قصة طويلة
Жанры
واستأذنت محدثتي، وعدت إلى بهو الفندق، وجلست إلى مائدة في أحد جوانبه، وبعد قليل رأيت صديقتي قادمة من ناحية المصعد فقمت إليها، وتهادينا التحية، وجلسنا حول المائدة وعدنا إلى مثل حالنا منذ عام! وإنا لكذلك إذ جاء الألماني ووقف هنيهة يتحدث إلينا، ثم انصرف معتذرا بأن لديه موعدا لا فكاك له منه، قالت صديقتي: «خبريني، ماذا صنعت بهذا الرجل؟ إن الأقصري ليذكر أنه مجنون بك، وإنه يقول إنه يرى الله في السماء ويراك على الأرض.» فضحكت ضحكة ذات مغزى وقلت: «وهل تصدقين الأقصري؟ لعله يراني أضيق به أحيانا، وأني أجامل هذا الألماني، فدفعته الغيرة لأن يقول لك ما قال، إنني لم أر هذا الألماني في العام الماضي إلا معك، وكنت أراه معجبا بك، وما أحسب الأقصري يريد بكلامه لك وقيعة بيننا!» قالت صديقتي: «لا أظن بالأقصري هذا الظن، والألماني رجل مهذب رقيق، ألا ترين أنه كان يأبى إلا أن يرافقك إلى الفندق كل مرة يجالسنا فيها، فكان يدعنا وينصرف معك حتى لا يدعك تسيرين وحدك.» ولم أر أن أجيب فانصرفت بالحديث إلى موضوع آخر.
لست أنكر أني اغتبطت في دخيلة نفسي لما ذكرته صديقتي عن عواطف الألماني نحوي، لكني رأيت أن أقطع عني ألسنة المتقولين بالتزام جانب الحيطة والحكمة، فكنت إذا أردت الانصراف وهو في مجلسنا دعوت سيدة تقيم مثلى بفندق الأقصر، ولو كانت على مائدة غير مائدتنا؛ لنعود بعد ذلك إلى الفندق معا، فلا يفكر هو في مرافقتي، فإن فعل لم يكن لصديقتي، ولا للأقصري، ولا لغيرهما أن يقولوا شيئا.
ورأيت يوما زوج صديقة لي، كنت أعجب بمنطقه، وكنت أعلم أنه ينزل «ونتر بالاس»، فلما رآني جاء يحيينا فاستبقيته هنيهة، ثم قلت: «حان موعد ذهابي إلى فندقي»، وقلتها بلهجة فهم منها أني أريد مرافقته إياي، وكان ذلك بالفعل قصدي إبعادا لشبهة الألماني. وصحبني زوج الصديقة وهبطنا الدرج إلى الحديقة والوقت قد أمسى والظلام مد رواقه، وعثرت قدمه، فقال وكأنما يعتذر عن عثرته : «تبا لإدارة هذا الفندق، ما ضر لو بعثروا بين أشجار الحديقة بعض الثريات الكهربية؟» وبدر مني عن غير عمد أن قلت: «يا عبيط!» ولم ترضه كلمتي فلم يسكت عليها، بل قال: «لو لم تكوني زوجا لصديقي!» ولم أجب للحظتي، ولولا الظلام لبدت على وجهي حمرة الخجل، على أنني قلت بعد برهة: «ما لكم معشر الرجال تسرعون إلى سوء الظن حين لا يكون لسوء الظن موضع؟!» ولم يرد هو متابعة هذا الحديث، فأداره بذكاء إلى اتجاه آخر.
ويظهر أن الألماني فطن لحذري، وأراد التغلب عليه، فقد صادفته يوما ساعة نزولي من غرفتي لأذهب إلى موعد الشاي ب «ونتر بالاس»، فلما رآني تقدم إلي وحياني في لطف وأدب وقال: جئت أدعوك لقضاء النهار بعد غد في البر الغربي حتى تشهدي ما تجريه مصلحة الآثار في الدير البحري، وسنتناول طعام الغداء هناك، وبدت علي الحيرة، فلم يدع لي فرصة للاعتذار، بل قال: «وقد لاحظت ما بدا من حذرك هذا العام، فدعوت صاحبنا الأقصري ليكون معنا، وقد رجوته أن يقنع صديقتك بمرافقتنا كذلك.» قلت: إن كان الأمر كما تقول فأنعم بها من صحبة! قال وكأنما صفعته عبارتي: «لست أفهم يا سيدتي حذرك هذا، فهل بدر مني ما يوجب الريبة؟ وهل سمعت مني كلمة خدشت سمعك؟ أم أن ذنبي بل جريمتي أنني معجب بك إعجابا لا حد له، معجب بذكائك، وبروحك المضيئة، وبحديثك الساحر، وبكل شيء؟ ومتى كان الإعجاب جريمة يجزى مجترفها هذا الجزاء القاسي؟ هأنذا صارحتك بما يدور في نفسي نحوك من عاطفة، لن تزداد على الأيام إلا سموا، ولست أنا وحدي الذي ملكني الإعجاب بك، فكثيرون ممن رأوك أو استمعوا إليك يعجبون كيف يكون فندق الأقصر أو فندق «ونتر بالاس» مسكنا لملاك مثلك، ولو أن ذلك كان سائغا لشادوا لك قصرا يحجون إليه كلما نزلته، فأمثالك اللاتي وهبهن القدر ما وهبك يا سيدتي قليلات، فلا تسرفي في التواضع، ولا تجعلي من إعجابي بك جريمة تقتضي الحذر مني، والبعد عني! إنني لا أريد أن أسمع منك جوابا على ما قلت، فإلى بعد غد، بعد فطورك، إلى الملتقى.» وتركني وانصرف.
وتولتني إثر هذا الحديث الذي يكاد يشبه الاعتراف دهشة أذهلتني، فبقيت مستلقية في مقعدي مضطربة النفس، لا أدري ماذا عساي أفعل، فلما هدأت قمت متحاملة على نفسي إلى «ونتر بالاس»، وجلست مع صديقتي، وسرعان ما جاء الأقصري، وبعد هنيهة غمز بعينه وقال: «نحن إذن ضيوف الألماني بعد غد إلى الجانب الغربي؛ لنرى الدير البحري وما يجري فيه.»
وقالت صديقتي: «وقد ألح صاحبنا هذا علي لأقبل الدعوة برغم علمه بأنني شهدت من الآثار ما لا حاجة لي بعده أن أشهد جديدا.»
قلت في هدوء متكلف: «لقد كنت موشكة أن أعتذر لولا حرصي على صحبتكما، فإن شئتما اعتذرنا جميعا، ولا يزال في الوقت متسع.»
قال الأقصري متحمسا: «كلا يا سيدتي، إن اعتذارنا يسيء إلى رجل رقيق مهذب جاملنا بدعوته إيانا، ولم يسئ قط إلينا، وأنا موقن أننا سنقضي بعد غد يوما من الأيام التي لا تنسى.»
وقضينا بعد غد يوما بالفعل لا ينسى، كانت الشمس محسنة كعادتها، وكان الهواء ناعما رقيقا، وتخطينا النيل في زورق شراعي انساب على هون فوق مياهه الهادئة المطمئنة، ودرنا بين آثار «طيبة الأموات» وتماثيلها ومقابرها، حتى إذا انحدرت الشمس شيئا ما بعد الزوال تناولنا غداءنا في استراحة [الدوك]، وذهبنا بعد ذلك إلى الدير البحري، فتلقانا الفرنسي الذي يقوم بالأعمال هناك، ودار معنا في أرجاء الدير، وأرانا في مخزن إلى جانبه بعض ما عثر عليه في أثناء حفره وتنقيبه، وكان يشملنا طول نهارنا جو مودة أذهب عني الحذر، وجعلني أشكر الألماني من كل قلبي أن هيأ لنا فرصة هذا اليوم الممتع الظريف، وكان الأقصري يبتعد عنا أحيانا مع صديقتي فلا أضيق بذلك ولا أنكره، إن ما صبه الألماني في سمعي من آيات إعجابه قد صادف هوى في فؤادي وأرضى كبريائي، وهو اليوم سعيد بصحبتي، يريد أن يسمع مني أكثر مما يريد أن يتحدث إلي، وأنا ضنينة بالكلام وهو راض مع ذلك كل الرضا بما أقول ، ويرتد الأقصري مع صديقتي إلى ناحيتنا، فتتولاهما الدهشة لصمتنا؛ لأنهما لا يدركان المعنى الإنساني السامي الذي تنطوي عليه جوانحنا، والذي يقرب بين روحينا وعقلينا، وإن لم تضطرب بسببه ذرة من أعصابنا أو جسدنا.
وعدنا حين قاربت الشمس المغيب، فأقلنا الزورق إلى «ونتر بالاس»، ورافقني الألماني إلى فندق الأقصر بعدما اعتذرت لصديقتي بأنني متعبة شديدة الحاجة إلى الراحة، واحتوتني غرفتي فأزلت عني غبار النهار، واستلقيت على سريري أستعيد صور هذا اليوم الجميل السعيد، وبهذه الصورة اتصل الحديث الذي صبه الألماني في أذني أول أمس، فازددت غبطة وسرت في عروقي نشوة أشعرتني الرضا والنعيم، وتناولت طعام العشاء في غرفتي، وأويت من جديد إلى فراشي كأنما أريد أن أستعيد هذه الصورة المنعشة المسعدة، وارتسم خيال الألماني وراء هذه الصور كأنه يحركها، وأغمضت جفني لعلي أنام، فإذا النوم يجفوني، وإذا هذه الصور تزداد وضوحا أمامي، وإذا بي أشعر كأن هذه الصور تنحدر بي إلى لون من الحس يقشعر له بدني، ويضطرب به تفكيري، وطال ذلك بي إلى ساعة من الليل لم أدر ما هيه، وأخيرا غفوت، ويظهر أنني قد طالت غفوتي، فقد صحوت فإذا الأطفال هبطوا مع مربيتهم إلى الحديقة، ودعوت الخادم فأقبلت تسألني ما بي؟ ثم أحضرت لي طعام فطوري، ووقفت إلى جانبي تطمئن على صحتي، وهبطت إلى البهو، وطلبت زوجي بالقاهرة تليفونيا، ومكثت سويعة أنتظر دعوتي لمحادثته.
Неизвестная страница