فقال له: ويلك ما أنشدت؟ فقالت: والله ما أعلم، غير أن لساني نطق بما سمعت، فأعراض بوجهه وتطير من قولها، وعلمت الجارية بزلتها فاستطار عقلها، ولم تدر عليه الجمعة حتى حط ف قبره، فبكى الناس والمأمون، فما رئي أكثر باكيًا من ذلك اليوم، وهذان البيتان لموسى شهوات.
٣٣ - وحدث أبو نواس قال: جاء شاعر غث إلى زبيدة فامتدحها بقصيدة قل فيها:
أزبيدةُ ابنةَ جعفرٍ ... طوبى لزائركِ المثابِ
غطين منْ رجليكِ ما ... تغطى الأكفُ من الرِّغابِ
فهم الخدم به، فمنعتهم وقالت: إنما أراد الخير فأخطأ، ومن أراد الخير فأخطأ حب إلي ممن أراد الشر فأصاب، أعطوه ما أمل وتعرفوه ما جهل! قال أبو نواس: إنما أراد الشاعر أن يزيد على قول الآخر: "شمالك خيرٌ من يمين غيرك" فظن أنه إذا ذكر الرجلين كان أبلغ في المديح.
٣٤ - وقال دعبل بن علي: اجتمعنا ثلاثة من الشعراء في قرية تسمى (طهياثا) فشربنا يومنا ثم قلنا: ليقل كل واحدٍ منا بيتًا من الشعر في وصف يومنا، فقلت:
نلنا لذيذَ العيشِ في طهياثا
فقال الثاني:
لمّت حثثنا القدحَ استحثاثًا
فارتج على الثالث، وأعجلناه، فجاء على لسانه أن قال:
وامرأتي طالقةٌ ثلاثا!
ثم قعد يبكي وينتحب على تطلقه لزوجته، وقعدنا نضحك منه ونتعجب مما اتفق له.
٣٥ - ودخل أرطأة بن سهية المزني علي عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية، فرآه عبد الملك شيخًا كبيرًا، فاستنشده ما قاله في طول عمره:
رأيتُ المرءَ تأكلهُ الليالي ... كأكلِ الأرضِ ساقطةَ الحديدِ
وما تبغي المنيَّةُ حين تأتي ... على نفسِ ابن آدم منْ مزيدِ
واعلمُ أنَّها سكرُ حتَّى ... توفَّى نذرها بأبي الوليدِ
فارتاع عبد الملك، وظنَّ أنه عناه، وعلم ارطأة بسهوة وزلته فقال: يا أمير المؤمنين إني أكني بأبي الوليد، وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلًا.
٣٦ - ومن طريف الاتفاق أنَّ سليمان بن عبد الملك كان من أشدِّ الناس غيرةً وكانت له جارية تسمى بعوان يجد فيها، وهي برسم سفره لشدة محبته لها، واتفق أن خرج في بعض السنين غازيًا، فنزل بدير البلقاء وأقام هو وحرمه فيه، ترك العسكر وحواليه، وكان معه فارس يعرف بسنان الكلبي، أحسن الناس وجهًا وغناءً وشعرًا، فزار قومٌ من بني عمه فأطعمهم وسقاهم، فقالوا: يا سنان ما أتمت ضيافتك! فقال: وكيف؟ قالوا: لأنك لم تغننا فتطربنا، فغناهم:
محجوبةٌ سمعتْ صوتي فارقها ... من خر الليل لمّا طلَّها السَّحر
تثني على جيدها ثنتي معصفرةٍ ... والحلي منها على لبّاتها حصرُ
في ليلة البدرِ ما يدري مضاجعها ... أوجها عنده أضوا أم القمرُ
لم يحجب الصَّوت أحراسٌ ولا غلقٌ ... فدمعها لطروق الصوتِ منحدرُ
لو خليتْ لمشتْ نحوي على قدمٍ ... تكادُ من رقةٍ للمشي تنفطرُ
فتفهم سليمان الصوت وقام مرعوبًا نحو عوان، فلما أحسست به وقد كانت سمعت الشعر أنشأت تقول خوفًا من سليمان:
ألا ربَّ صوتٍ جائني من مشوهٍ ... قبيحِ المحيَّا ناقصِ الأبِ والجدِّ
قصير نجادِ السَّيفِ جعدٍ بنانه ... إلى أمةٍ يدعى معًا وإلى عبدٍ
فلما دخل عليها وجدها نائمة في القمر، قد انحسر إزار أحمر كان عليها عن صدرها، وحليها يلمع في القمر على صدرها ونحرها، فلما رآها على الحال التي وصفها الشاعر تغير وارتعد، وقال لها، يا عوان والله لكأنه يراك وينعتك في شعره! والله لأقطعنه قطعًا، كانًا من كان، وخرج وكان على رأسها خصي فقالت له: إن لحقت سنانًا وحذرته وأنجبته فلك رقبتك وديته! فمضي الخضي وقد سبقت رسل سليمان إلى سنان وأحضرته بين يديه مكتوفًا، فقال له: من أنت ويلك؟ قال: سان الكلبي فارسك يا أمير المؤمنين، فأنشأ سليمان يقول:
تثكُ في الثكلى سنانًا أمهُ ... كانَ لها ريحانةً تشمَّه
وخاله يثكله وعمه ... ذو سفيةٍ حياتهُ تغمهُ
فقال سنان:
استبقي إلى الصَّباح أعتذر ... إنَّ لساني بالشرابِ منكسرْ
فارسك الكلبيُّ في يومٍ يكرْ ... فإنْ يكنْ أذنبَ ذنبًا أو عثرْ
فالسيد العافي أحقُّ من غفرْ
1 / 8