٨ - وعزم المأمون عند دخوله إلى بغداد على العبور إلى زبيدة والدة الأمين، ليعزيها به، فقدم إليها، من أعلمها ذلك، وعبر إليها فعزاها وأكثر البكاء معها، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن دوائي وباب تسليتي في غدائك اليوم عندي، فأقام وتغدى، وأخرجت إليه من جواري الأمين من يغنيه، وسألته أن يأخذ منهن من يرتضيه، فأومى إلى واحدة إلى لتغني، فغنت وضرب الباقيات عليها:
همُ قتلوه كي يكونوا مكانهَ ... كما فعلت يومًا بكسرى مرازبهْ
فإلاَّ يكونوا قاتليه فإنّه ... سواءٌ عينا ممسكاهُ وضاربهْ
فوثب المأمون مغضبًا، فقالت له زبيدة: يا أمير المؤمنين حرمني الله أجره إن كنت علمتها أو دسست إليها به، فصدقها وعجب من ذلك.
٩ - وحدثني الرئيس الأجل أبو الحسين والدي قال: حدثني أبو إسحق إبراهيم بن هلال جدي قال: كنت بحضرة الملك عضد الدولة بن بويه بعد قتله عز الدولة أبا منصور بختيار ابن عمه، في مجلس أنس، وكانت مشعلة الثقيلة وظلوم الشهرامية قد حضرتاه، فابتدأت مشغلة، وكانت المقدمة عليها عنده فغنت:
أيا عمرو ولم أصبرْ ولي فيكَ حيلةٌ ... ولكن دعاني اليأسُ منكَ إلى الصبرِ
سأصبرُ محزونًا وإني لموجعٌ ... كما صبر العطشانُ في البلد القفرِ
فظن أنها عرضت بعز الدولة بختيار، فأعرض عنها، وغاظه ذاك منها، وأقل الحفلَ بغنائها مع أنها واحدةُ زمانها، وأخذتُ أطريها فلا يرعيني سمعًا فيها، ثم غنت ظلومُ بعدها:
سيسليك عما فات مقبلٍ ... أوائلهُ محمودةٌ أواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على الجود مذ شدت عليه مآزره
فتهلل وجهه، وطرب وشرب واستعاد الصوت، وقال لي: يا أبا إسحق، هذا الغناء، ولم يكن بين المرأتين تقارب، قال أبو إسحق: فما أدري كيف اتفق ذلك على مشغلة وأن غنت ظلوم بعدها ما غنت، فإن كان عن نية من ظلوم وعمدٍ فما قصرت، أو اتفاق فقد وفقت!
١٠ - وكان العلاء بن الفيروزان يومًا على طعامه، ومعه بعض الرؤساء، فقدم جدي، فأنشد العلاء:
من كان يعجب الجداءُ الرضعُ ... من غير حاصله فلم لا يصفعُ
فرفع الرجل يده ونهض، وقال: أما أنا فما يعجبني! فاعتذر العلاء إليه، وحلف أنه لم يقصد ما أنشد، وإما جرى لسانه بما لم يعلم، فتمم الرجل نهوضه ولم يعد، والحق العلاء من الخجل ما ترك الأكل معه ونهض.
١١ - وروي شقير الخادم أنه كان مع المأمون في بلاد الروم، قال: فصاح بي ليلة وقال لي: ويلك من هوذا يغني؟ فقلت: ما يغني يا مولاي أحدٌ، قال: امض وتحسس، فمضيت إلى دار الحرم، وتحسست فلم أسمع شيئًا، فعدت إليه فأعلمته، فقال لي: ويلك! بلى والله إنه ليغني بشيء قد حفظته وهو:
ألم تعجب لمنزلةٍ ودورِ ... خلتْ بين المشقر والحرور
كأنَّ بقيةَ الآثار فيها ... بقايا الخط! ِ من قلمٍ من قلم الزبور
واعتلَّ في اليوم الثالث من هذا ومات.
١٢ - وقال إبراهيم بن المهدي: رأيت في منامي كأن قليب جارية الرشيد على منبر رسول الله ﷺ وفي يدها عود وهي تغني:
سوف يأتي الرسولُ من بعد شهرٍ ... بنعي الخليفةٍ المأمونِ
فجاء نعيه بعد شهر!
١٣ - وحدث محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عن أخيه أحمد بن محمد قال: لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميادين الذي كان للعباسية، جلس فيه وجمع أه بيته وقومه وأصحابه ومواليه، وأمر الناس أن يلبسوا الديباج ويدخلوا عليه، وجعل سريره في أفيوان المنقوس بالفسافا الذي كان في صده العنقاء، فجلس على سرير مرصع بأنواه الجوهر، ووضع على رأسه التاج الذي فيه الدرة اليتيمة، وفي الديوان الأسرة عن يمينه وشماله من حد السرير إلى باب الإيوان فكلما دخل رجل رتبه وهو بنفسه في الموضع الذي يراه، فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم، فاستأذنه إسحق بن إبراهيم في النشيد فأذن له، فأنشد شعرًا ما سمع الناس أحن منه وفي صفته وصفة المجلس، إلا وأن أوله تشيب بالدار المتقدمة ونعته إياها، فكان البيت الأول منه:
يا دار غيرك البلى فمحاكِ ... يا ليتَ شعري ما الذي أبلاكِ
1 / 3