وجاءت أنسية رمضان وهو فريسة لمشاعر سوداوية طاحنة لا عهد له بها بمثل تلك القوة من قبل. قال إنه تائه في صحراء قاحلة تتلظى بالنيران، لم يفز بشيء ذي قيمة، الأمل طويل والعمر قصير، والماضي حقير، رغم العواطف الشخصية الحميمة فهو حقير، رمزه الحقيقي قبر الصدقة والسجن، والشهيد في أسرته، استشهد في جانب الظلم والبغي، وهو بلا صديق، انقطعت الصلة تماما بينه وبين أقران صباه، له زملاء يحترمونه ويحسدونه ولكن لا صديق له، الوحيد الذي يجالسه أحيانا في صفاء خادم في جامع الحسين، والهبة الرومانسية في حياته الجافة حجرة عارية وبغي نصف زنجية.
ما معنى هذه الحياة؟
وهو كرس نفسه حقا لطريق الله المجيد ولكنه يغوص في الآثام، ويتلوث ساعة بعد أخرى، ويبدو أنه لا يقاوم الموت بما فيه الكفاية من قوة. - كأنها لعبة خاسرة!
في الأتون المتقد، وهو يتلظى في جحيمه، وفدت على المحفوظات نسمة لطيفة ذات عبير جديد؛ جديد على المحفوظات والإدارة العامة بكل معنى الكلمة. كانت أول فتاة تلحق بالإدارة وبالمحفوظات بالذات. سمراء رشيقة متناسقة القسمات بسيطة الملبس. أثار منظرها ارتباكه ودهشته وعطفه وهي تقف أمام مكتبه مقدمة نفسها. دعاها للجلوس وهو يلمح رءوس الموظفين تبرز من بين صفوف دواليب شنن. إنهم يتعجبون ولا يصدقون. - أهلا بك .. - متشكرة، اسمي أنسية رمضان. - تشرفنا، يبدو أنك صغيرة جدا؟ - كلا، ثمانية عشر عاما! - عظيم .. عظيم .. وما شهادتك؟ - بكالوريا علمي .. - جميل، لم يا ترى لم تكملي تعليمك؟
وندم على ما فرط من سؤاله. عاودته ذكريات أول يوم في خدمته في حجرة حضرة صاحب السعادة المدير العام. أما الفتاة فأجابت بحياء: ظروف اضطرتني إلى الاكتفاء بذلك.
ولعن الظروف ولكنه تعزى باشتراكهما التاريخي في هم مخيف واحد. قال ملاطفا: إنك تذكرينني بنفسي، ولكن اعلمي بأنني أكملت تعليمي وأنا موظف، وأن الأبواب المغلقة خليقة بأن تفتح أمام الهمة العالية ..
فغامت عيناها برنوة حزن وقالت: ولكننا نعايش مجتمعا فظا سيئا ..
وجد الأفكار «الثورية» التي يجهلها ويتجاهلها تهدد بمطاردته كالعادة فقال بإصرار: الاعتماد على النفس خير من مهاجمة المجتمع، الله يأمرنا كأفراد ويحاسبنا كأفراد، وشق طريقك وسط الصخور خير من تسول صدقة من المجتمع، الظاهر أنك تهتمين بالسياسة وبما يسمونه بالأفكار الاجتماعية؟ - إني أومن بذلك .. - هذا يعني أنك لا تؤمنين بنفسك، أنا لا أعرف إلا عزيمتي وحكمة الله المجهولة!
فابتسمت ولم تعلق بحرف فابتسم أيضا وقال: سأعهد إليك بالوارد فهو أنسب عمل للموظف الجديد .. - شكرا يا سيدي .. - وسأنتظر منك دائما ما يجعلك أهلا للثقة .. - أرجو أن تجدني عند حسن ظنك .. - وإذا صادفتك مضايقات من الزملاء فلا تترددي عن إخباري. - أرجو ألا أحتاج لذلك.
وعهد بها إلى موظف ليمرنها على العمل قائلا باقتضاب: سركي الوارد ..
Неизвестная страница