حضرة المحترم
حضرة المحترم
حضرة المحترم
حضرة المحترم
تأليف
نجيب محفوظ
حضرة المحترم
1
انفتح الباب فتراءت الحجرة مترامية لانهائية. تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكانا محدودا منطويا في شتى التفاصيل. آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم؛ لذلك اشتعل وجدانه وغرق في انبهار سحري. فقد أول ما فقد تركيزه. نسي ما تاقت النفس لرؤيته، الأرض والجدران والسقف. حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه حبا جنونيا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود، وحرضه على الفداء، ولكنه سلك مع الآخرين سلوك التقوى والابتهال والطاعة والأمان. كالوليد عليه أن يذرف الدمع الغزير قبل أن يملي إرادته. وتلبية لإغراء لا يقاوم خطف نظرة من الإله القابع وراء المكتب، ثم خفض البصر متحليا بكل ما يملك من خشوع.
وكان حمزة السويفي مدير الإدارة يتقدم الموكب الصغير، فقال مخاطبا المدير العام: هؤلاء هم الموظفون الجدد يا صاحب السعادة ..
Неизвестная страница
مر ضوء عينيه على الوجوه، وعلى وجهه ضمنا، فجال بخاطره أنه دخل تاريخ الحكومة، وأنه يحظى بالمثول في الحضرة. وخيل إليه أنه يسمع همهمة من نوع عجيب، لعله يسمعها وحده، ولعله صوت القدر نفسه. ولما استوفت الفراسة امتحانها الوئيد تكلم صاحب السعادة. تكلم بصوت بطيء وهادئ ومنخفض فلم يكشف عن شيء يذكر من جوهره. قال متسائلا: جميعهم من حملة البكالوريا؟
فأجاب حمزة السويفي: بينهم اثنان من حملة التجارة المتوسطة.
فقال صاحب السعادة بنبرة مشجعة: العالم يتقدم، كل شيء يتغير، ها هي البكالوريا تحل محل الابتدائية.
اطمأنت القلوب ودارت فرحتها بمزيد من الخشوع، فقال الرجل: حققوا المأمول منكم بالاجتهاد والاستقامة.
وراح يراجع بيانا بالأسماء حتى سأل عن غير توقع: من منكم عثمان بيومي؟
دق قلبه دقة قوية جدا. وقع نطق الرجل لاسمه من نفسه موقعا مؤثرا عنيفا. تقدم خطوة مطرقا وهمس: أنا يا صاحب السعادة! - ترتيبك ممتاز في البكالوريا فلم لم تكمل تعليمك؟
صمت. اضطرب. لم يدر في الواقع ماذا يقول بالرغم من حضور الجواب في وعيه طيلة الوقت. وعنه أجاب مدير الإدارة كالمعتذر: لعلها ظروف يا صاحب السعادة!
سمع الهمهمة مرة أخرى، سمع صوت القدر. ولأول مرة شعر بأن ثمة زرقة تخضب الجو، وأن رائحة طيبة غريبة تجول في المكان. ولم يحزنه أن يشار إلى «ظروفه» المعوقة بعد أن تقدس شخصه بعطف صاحب السعادة وتقديره. وقال لنفسه إنه يستطيع أن يحارب جيشا بمفرده فينتصر عليه. والحق أنه ارتفع وارتفع حتى غاص رأسه في السحاب، وثمل لدرجة العربدة الوحشية. أما صاحب السعادة فنقر على حافة المكتب وقال مؤذنا بالختام: شكرا، ومع السلامة ..
وهو يغادر المكان قرأ في سره آية الكرسي.
2
Неизвестная страница
إني أشتعل يا ربي.
النار ترعى روحه من جذورها حتى هامتها المحلقة في الأحلام. وقد تراءت له الدنيا من خلال نظرة ملهمة واحدة، كموجة من نور باهر، فاحتواها بقلبه وشد عليها بجنون. كان دائما يحلم ويرغب ويريد ولكنه في هذه المرة اشتعل، وعلى ضوء النار المقدسة لمح معنى الحياة. أما على الأرض فقد تقرر إلحاقه بالمحفوظات. لم يهمه كيف يبدأ؛ فالحياة بدأت من خلية واحدة بل من دون ذلك. وهبط إلى مقره الجديد وجناحاه يرفرفان، يشق طريقه إلى بدروم الوزارة. طالعته قتامة، ورائحة أوراق قديمة، ورأى سطح الأرض في الخارج عند مستوى رأسه من خلال نافذة مصفحة. وامتد البهو أمامه، تتلاصق على جانبيه دواليب شنن، وصف طويل منها يشقه شقا طوليا. على حين استقرت مكاتب الموظفين في ثغرات بين الدواليب. ومضى وراء موظف إلى مكتب يستعرض تجويفا كالمحراب في الصدر جلس إليه رئيس المحفوظات. لم يكن أفاق من نفثة السحر المقدسة، حتى الغوص في البدروم لم يوقظه. سار وراء الموظف بتشتته وذهوله وانفعالاته وهو يقول لنفسه: اللانهاية هي ما ينشد الإنسان.
وقدمه الموظف إلى الرئيس: عثمان أفندي بيومي الموظف الجديد.
ثم قدم الرئيس إليه قائلا: رئيسنا سعفان أفندي بسيوني ..
رأى في الوجه قرابة طبيعية كأنما كان في الأصل من مواليد حارته. وأحب عظام وجهه البارزة وجلده الغامق المشدود وشعر رأسه الأبيض المشعث، وأحب أكثر نظرة عينيه الأليفة الطيبة النزاعة لعكس معنى الرياسة بلا جدوى. ابتسم الرجل كاشفا عن أقبح ما فيه، أسنان سود مثرمة، وقال: أهلا بموظفنا الجديد، اجلس ..
وراح يقلب في صور أوراق تعيينه ثم قال: أهلا .. أهلا .. الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين؛ استقبال ثم توديع ..
وقال عثمان في نفسه ولكنها رغم ذلك لانهائية. وهفت عليه ريح خفية مجهولة مليئة بجميع الاحتمالات، فقال إنها لانهائية ولكنها في حاجة إلى إرادة لانهائية كذلك. وأشار الرئيس إلى مكتب خال متآكل الجلدة منجرد اللون ملطخ ببقع حبر باهت وقال: مكتبك، تفحص الكرسي بعناية؛ فإن أحقر مسمار قد يهتك بدلة جديدة ..
فقال عثمان: بدلتي قديمة جدا والحمد لله ..
فواصل الرجل تحذيره: واقرأ الصمدية عندما تفتح دولابا من دواليب شنن؛ فقبيل العيد الماضي طلع علينا من أحد الدواليب ثعبان لا يقل طوله عن متر ..
وضحك حتى سعل ثم استدرك: ولكنه لم يكن من نوع سام ..
Неизвестная страница
فتساءل عثمان بقلق: وكيف نفرق بين السام وغير السام؟ - عندك فراش المحفوظات؛ فهو أصلا من أبو رواش وهي بلدة الثعابين ..
وتناسى ذلك واعتده مزاحا. وراح يلوم نفسه: كيف فاته أن يرى بكل عناية حجرة صاحب السعادة المدير العام! كيف فاته أن يملأ عينيه من وجهه وشخصه! كيف لم يحاول أن يقف على سر السحر الذي يخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه! هذه هي القوة المعبودة، وهي الجمال أيضا. هي سر من أسرار الكون. على الأرض تطرح أسرار إلهية لا حصر لها لمن له عين وبصيرة. إن الزمن قصير بين الاستقبال والتوديع، ولكنه لا نهائي أيضا. الويل للذي ينسى هذه الحقيقة. ثمة أناس لا يتحركون مثل سعفان أفندي بسيوني. الرجل الطيب التعس. إنه يترنم بحكمة لم يتعلم منها شيئا. كذلك كان أبوه عم بيومي. وليس كذلك من مست النار المقدسة قلوبهم. هناك طريق سعيدة تبدأ من الدرجة الثامنة وتنتهي متألقة عند صاحب السعادة المدير العام. هذا هو المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب، ولا مطمح لهم وراء ذلك. تلك هي سدرة المنتهى حيث تتجلى الرحمة الإلهية والكبرياء البشري. ثامنة .. سابعة .. سادسة .. خامسة .. رابعة .. ثالثة .. ثانية .. أولى .. مدير عام. معجزتها تتحقق في اثنين وثلاثين عاما، وربما تحققت في أكثر من ذلك. أما الساقطون في وسط الطريق فلا حصر لهم. إن النظام الفلكي لا يطبق على البشر وبخاصة الموظفون منهم .. والزمن يستكن بين يديه كطفل وديع ولكن لا يمكن التنبؤ بغده. إنه يشتعل، هذا كل ما هنالك. ويخيل إليه أن النار المتقدة في صدره هي التي تضيء النجوم في أفلاكها. نحن أسرار لا يطلع على خباياها إلا خالقها.
وقال له سعفان أفندي بسيوني: ستدرب أولا على الوارد؛ فهو أسهل ..
ثم وهو يضحك: على كاتب المحفوظات أن يخلع جاكتته وهو يعمل، أو أن تحيك لكوعه كمامة من القماش تقيه شر الغبار والإكلبسات.
كل ذلك يسير، أما العسير حقا فهو كيف نتعامل مع الزمن ..
3
في مسكنه - حجرة وحيدة ومرافق - يرى نفسه، يتجسد له معنى حياته. إنه يعيش متفتح الحواس مرهف الوعي ليتزود بكل سلاح. ومن نافذته الصغيرة يرى وطنه - حارة الحسيني - كأنها امتداد لروحه وجسده. حارة طويلة ذات منحنى حاد، مشهورة بموقف للكارو ومسقى للحمير. البيت الذي ولد ونشأ فيه تهدم. وقامت في موضعه باحة صغيرة لعربات اليد. قليل من مواليد الحارة من يبرحها بصفة نهائية إلا للقبر. يعملون في مواقع كثيرة، في المبيضة .. الدراسة .. السكة الجديدة .. أو فيما وراء ذلك، ولكنهم يرجعون إليها آخر النهار. ومن خواصها الحميمة أنها لا تعرف الهمس أو النجوى، أصواتها مرتفعة جدا، متوترة بين الحكمة والبدائية، ومن بينها صوت قريب قوي خشن لم يخلخله الكبر، صوت أم حسني صاحبة البيت. إن أحلام الأبدية جد مرهقة، ولكن ماذا كان بالأمس، وماذا يكون اليوم؟ خليق بمثله ألا يعرف المستحيل. وخليق به ألا يترك نفسه للتيار بلا خطة. وخطة محكمة. كثيرا ما يحلم أنه يبول ولكنه يستيقظ في اللحظة المناسبة، فما معنى ذلك؟ أم حسني كانت صديقة لأمه وزميلة ومرشدة، صديقة عمر طويل. كانت كلتاهما زوجة لسواق كارو، وعاملة كادحة، تكد بصبر النمل ودأبه سعيا وراء القرش، تسند به زوجها وترمم عشها. دلالة .. ماشطة .. خاطبة، وغير ذلك. ماتت أمه وهي تعمل، أما أم حسني فما زالت تعمل بهمة عالية. وكانت أم حسني أحسن حظا وأوفر رزقا فتجمع لديها من المال ما بنت به بيتها المكون من ثلاثة أدوار؛ مخزن أخشاب أرضي، وشقتين، تقيم هي في إحداهما وعثمان في الأخرى. وابنها حسني لم يخلف وراءه إلا اسمه أما شخصه فقد حملته أيام الحروب والمحن إلى بلاد نائية فاستقر فيها.
ألا يحق له أن يحلم؟ إنه يحلم بفضل الشعلة المقدسة التي تتقد في صدره، وبفضل حجرته الصغيرة يحلم أيضا. وألف أحلامه كما يألف الفراش والكنبة والسحارة والحصيرة، وكما ألف الأصوات الحادة والمنغومة التي تند عن حنجرته فتردد أصداءها الجدران الراسخة القاتمة.
ماذا كان بالأمس؟ أراد أبوه أن يجعل منه سواق كارو مثله ولكن شيخ الكتاب قال له: يا عم بيومي توكل على الله وأدخل الولد المدرسة الابتدائية ..
فذهل الرجل وتساءل: ألم يحفظ من القرآن ما يقيم به الصلاة؟
Неизвестная страница
فقال الشيخ: الولد ذكي وعاقل وربما رأيته يوما من رجال الحكومة ..
وقهقه عم بيومي غير مصدق فقال الشيخ: عليك بمدارس الأوقاف فربما قبل بالمجان.
وتردد عم بيومي زمنا ثم تمت المعجزة. ونجح عثمان في المدرسة نجاحا مذهلا حتى حصل على الابتدائية. تميز عن أقرانه الحفاة من أبناء الحارة ورأى بعينيه الحادتين أول شرارة مقدسة تنطلق من فؤاده النابض وأيقن أن الله يبارك خطاه ويفتح له أبواب اللانهاية. والتحق بالمدرسة الثانوية بالمجان كذلك فحقق من النجاح ما لم يصدقه أحد في حارة الحسيني. ومرض عم بيومي مرض الوفاة وابنه في السنة الثانية، فندم الرجل على ما «فعله» بابنه وقال له: ها أنا أتركك تلميذا لا حول له، فمن يسوق الكارو، ومن يحفظ البيت؟
وفاضت روح الرجل وهو حزين، وضاعفت الأم نشاطها مؤملة أن يجعل الله من ابنها كبيرا من الأكابر، أليس الله بقادر على كل شيء؟! ولولا وفاة الأم بغير توقع؛ لأكمل عثمان تعليمه في المدارس العليا. وقد اشتدت لذلك حسرته ، وضاعف من حدتها اكتمال وعيه بطموحه وبأحلامه المقدسة. ومقدسة عنده أيضا ذكرى والديه. وكل موسم يزور قبرهما - وهو من قبور الصدقة - الضائع بين القبور في العراء. وهو اليوم وحيد، مقطوع من شجرة. قتل أخوه الأكبر - كان شرطيا - في مظاهرة، وماتت أخته بالتيفود في مستشفى الحميات. وأخ آخر مات في السجن. إنه يتذكر أسرته فيشقى بالتذكر ويرثي لوالديه، ويقرن تلك الأحداث بدراما عليا يتطلع إليها باحترام ووجل؛ فالمصائر تتقرر في الحارة بفضل الإرادات المتصارعة والقوى المجهولة ثم تتقدس في الأبدية؛ لذلك فهو يؤمن بنفسه بلا حدود ولكنه يعتمد في النهاية على الله ذي الجلال؛ ولذلك أيضا فلا تفوته فريضة وبخاصة صلاة الجمعة في جامع الحسين. وكإيمان أهل حارته لم يكن يفرق بين الدين والدنيا، فالدين للدنيا والدنيا للدين، وجوهرة متألقة مثل درجة المدير العام ما هي إلا مقام مقدس في الطريق الإلهي اللانهائي. ولما كان يعيش بين زملائه بوعي يقظ لماح فقد التقط ما يهمه من المعاني والكلمات، ثم عكف على دراسة خطة دقيقة للمستقبل، ترجمها في ورقة عمل ليذاكرها كل صباح قبل انطلاقه إلى العمل:
شعار للعمل والحياة (1)
القيام بالواجب بدقة وأمانة. (2)
دراسة اللائحة المالية التي يشار إليها كأنها كتاب مقدس. (3)
الدرس للحصول على شهادة عليا ضمن الطلبة الذين يعملون من منازلهم. (4)
دراسة خاصة للغتين الإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلى العربية. (5)
التزود بالثقافة العامة وبخاصة الثقافة المفيدة للموظف. (6)
Неизвестная страница
الإعلان بكل وسيلة مهذبة عن تديني وخلقي واجتهادي في عملي. (7)
العمل على كسب ثقة الرؤساء ومحبتهم. (8)
الاستفادة من الفرص المفيدة مع الاحتفاظ بالكرامة؛ مثل مساعدة أدبية تقدم لذي شأن، صداقة مفيدة، زواج موفق من شأنه تمهيد الطريق للتقدم.
ولم يكن من النادر أن ينظر في مرآة صغيرة معلقة بمسمار بين النافذة والمشجب ليتفحص منظره، وليطمئن على نفسه. من هذه الناحية لن يكون منظره عائقا في سبيله على أي حال؛ فهو قوي الجسم كأبناء حارته، ووجهه أسمر طويل ذو جبهة عالية مشرقة وشعر حليق، وبصفة عامة سيجد في جسمه الصلاحية لملء أي مركز مهما جل شأنه.
وقال لنفسه مستمدا من طواياها القوة والتشجيع: بداية لا بأس بها، وطريق بلا نهاية ..
4
ساعة اللقاء عند أعتاب الخلاء مقدسة أيضا، وهو يهرع إليها بقلب مشغوف، وبمرح من يتخفف من حمل الأيام بثقلها العتيد. هناك عند مشارف الصحراء يقوم السبيل الأثري المهجور، على أدنى سلمه يجلسان جنبا إلى جنب في أحضان الأصيل اللامتناهية، تترامى الصحراء أمامهما حتى سفح الجبل، ويغني الصمت بلغته المجهولة. سمرتها الغامقة تشبه لون المساء المتحفز، سمرة موروثة عن أم مصرية وأب نوبي توفي وهي في السادسة. زمالتهما القديمة في الحارة تمتد أصولها في الماضي البعيد حتى تتلاشى في منبع الحياة نفسه. عندما ينظر في عينيها النجلاوين الواسعتين أو يرى جسمها الصغير المدمج الفائر بالحيوية فإنه يتلقى المثال المثير لفطرته الذي يبعث في غرائزه اليقظة والابتهال. إنها قرينة طفولته في الحارة وفوق السطح، وزميلته في الكتاب، وبالرغم من أنها لم تجاوز السادسة عشرة فهي معدودة ست بيت ماهرة، وهي يد أمها الوحيدة بعد أن تزوجت أخواتها السبع.
ابتسمت سيدة. وجهها بسام دائما، وعينها مشعة، وأطرافها تتناوبها حركة رشيقة دائمة ومتوترة، وخصلات شعرها المموج الخشن ترقص في تيار النسيم الجاف الهابط من الجبل. ومرقت من الصمت المعذب قائلة: فرحت أمي بدخولك الحكومة ..
سألها في دعابة: وأنت؟
فتمادت في ابتسامتها ولم تجب. أحاطها بذراعه ولثم بشفتيه الحادتين شفتيها المليئتين. لم يجر للحب ذكر بينهما ولكنهما يعربان عنه في كل خلوة بالأحضان والقبل. وهي تشبع من نفسه جانبها المنهوم بالحياة في بساطتها ومسراتها، ويحبها بعقله أيضا لأنه يقدر مزاياها وإخلاصها، ويشعر بتلقائية بأنها كفيلة بإسعاده. - أصبحت موظفا ..
Неизвестная страница
وشى صوتها بالإعجاب فقبلها مرة ثانية. - ولم يحظ أحد في حارتنا بذلك ..
جميع أقرانه يعملون في شتى الحرف. يرمقونه - إذا مر - بالإعجاب وأحيانا بالحسد. ما أجدره بأن يسر لولا شعوره الحاد القاسي بطول الطريق وعناده! - أنت الأفندي الوحيد!
فقال بهدوء: لا قيمة لذلك خارج حارتنا. - الخارج لا يهم، أما حارتنا فهي حارة الكارو!
فقبلها للمرة الثالثة وقال: لا تتكلمي عن الكارو إلا بالاحترام .. - صدقت، أنت شهم ..
وقد قبض على أبيها في المعركة التي قبض فيها على أخيه فدخل السجن ومات فيه بسببها، ولكن تلك الأحداث تعد من الأمجاد التي يطيب بها ذكر الحارة. ولكن سيدة تدور حول نقطة واحدة لغرض واضح، ولا جدوى من تجاهله؛ فها هي تسأل: وماذا بعد ذلك؟
إنه يدرك لهفتها على كلمة يطيب بها الفؤاد ويسعد. ويعلم أيضا أن سعادته لن تقل عن سعادتها بحال إن لم تزد. إنه يحب هذه الفتاة كما تحبه ولا غنى له عنها. ولكنه يخاف. عليه أن يفكر ألف مرة. وليراجع ورقة العمل المريرة. ليتمل طويلا الحياة التي تقف أمامه مرحبة ومتحدية معا. - ماذا تعنين يا سيدة؟ ..
فأجابت معاندة في خفة: لا شيء! - لا يجوز أن ننسى أننا صغيران .. - أنا؟!
قالتها باحتجاج عذب أشارت به إشارة مليحة إلى أنوثتها الصارخة.
فقال مداعبا: إنما قصدت نفسي .. - أطلق شاربك فهذا ما ينقصك.
أخذ مزاحها مأخذ الجد وفكر بأن ذلك قد ينفعه حقا في نضاله؛ فمن ذا الذي يتصور موظفا كبيرا بلا شارب؟!
Неизвестная страница
قال بهدوء: سأكمل تعليمي يا سيدة. - هل ما زال ينقصك تعليم؟ - الشهادة العليا. - لماذا؟ - مساعد لا بأس به للترقي. - وهل يلزمك وقت طويل؟ - أربعة أعوام على الأقل.
قرأ بتألم خفي الفتور في عينيها وربما الخجل وشيئا من الغضب! - وما ضرورة الترقي؟
ضحك. لثم شعرها. لم يجرؤ على تجاوز ذلك. ذكرته رائحة شعرها بملاعب الطفولة والصبا، وبلكمة أصابت ظهره عندما ضبطا وهما يلعبان لعبة العريس والعروس. لاحت ظلمات الليل فوق الجبل وترامى غناء من فونوغراف. - الظاهر أن الترقي مهم أكثر مما تصورت .. فتناول يدها بين يديه وغمغم: أحبك، إلى الأبد ..
نطق صدقا. وبقدر صدقه اغتم وتألم وسخط على نفسه، وقال إن تجربة الحياة عظيمة جليلة ولكنها مرهقة.
5
وقف على قبر والديه الضائع بين قبور لا حصر لها وقرأ الفاتحة، ثم قال: يرحمكما الله رحمة واسعة ..
ثم ناجاهما بامتنان قائلا: عثمان موظف محترم يخطو خطواته الأولى في طريق عسير ولكنه مصمم على السير حتى النهاية.
ثم انحنى قليلا وقال بابتهال: كل ما نلت من خير فبفضل الله وفضلكما ..
وتلا غلام ضرير بعضا من السور الصغيرة فنقده نصف قرش، ورغم تفاهة المبلغ لم يخل من الضيق الذي يركبه عند الدفع. ولما ذهب الغلام عاد إلى مخاطبة والديه قائلا: عهد الله أن أنقلكما إلى قبر جديد إذا حقق الله آمالي ..
ولم يكن لديه فكرة عما يبقى من الجثث في مجرى الزمن ولكنه تخيل أن يبقى شيء على أي حال. وتذكر وهو يعجب لذلك سيدة فوضحت صورتها الباسمة أمام عينيه، وخيل إليه أنها تتحفز لإطلاق ملاحظة حادة وصريحة وساخرة. انقبض قلبه وتوجع وهمس: اللهم اهدني سواء السبيل فكل ما أفعل من وحيك.
Неизвестная страница
وعاش من جديد الأيام الأخيرة لأبيه. هذا أمر لا مفر منه. كان المرض والكبر قد أقعداه فكانت نزهته أن يفترش فروة أمام البيت، لا يكاد يرى أو يسمع، يتأمل عجزه، يتأوه هاتفا: اللهم لطفك ورحمتك ..
كان في زمانه من رجال الحارة الأشداء، عاش حياة طويلة معتمدا على عضلات ذراعيه وساقيه، يعمل بلا انقطاع ويعاني على المدى شظف العيش والفقر. قوة مهدرة تتغذى على لا شيء ويقهقه في الملمات بلا معنى ولا سبب. ووجد ذات مساء ميتا حيث يجلس على الفروة فلم يدر أحد كيف حضره الموت ولا كيف تلقاه هو. أما أمه فكانت ميتتها أدعى للدهشة. كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست وراحت تصرخ من شدة الألم. وجاءت الإسعاف فحملتها إلى قصر العيني وتقرر إجراء جراحة في الأعور قتلت في أثنائها.
أسرته ضحية فريدة للموت. شيء قال له في باطنه إنه ربما بسبب ذلك سيعمر هو طويلا. واجتاحته موجة من الأسى. كل موت معقول بالقياس إلى موت أخيه الشرطي. رجل كالجمل يقتل بطوب الثوار. أي ميتة. لا يعرفهم ولا يعرفونه. إنه يقف من تلك الأحداث موقف المتفرج المتعجب. لا يفقه لها معنى على الإطلاق. أجل عرف الكثير من مطالعة التاريخ. عرف التاريخ من أقدم العصور حتى قبيل الحرب العظمى. عرف الثورات. ولكنه لم يعشها ولم يستجب لها. وقد رأى وسمع ولكنه انعزل وتعجب. لم يحظ بعاطفة عامة واحدة تشده إلى الميدان. ما أعجب اقتتال رجال الدولة الكبار وأتباعهم. لقد عاش حياته مطاردا بالفقر والجوع فلم يدع له ذلك وقتا لمد آفاق تفكيره إلى الخارج. انحصر في الحارة بهمومها المجهولة من الجميع، الوحشية، القاسية، المتلاحقة. واليوم يعرف لنفسه هدفا دنيويا وإلهيا في آن لا علاقة له في تصوره بالأحداث العجيبة التي تجري باسم السياسة. قال إن حياة الإنسان الحقيقية هي حياته الخاصة التي ينبض بها قلبه في كل لحظة، التي تستأديه الجهد والإخلاص والإبداع. إنها مقدسة ودينية. بها تتحقق ذاته في خدمة الجهاز المقدس المسمى بالحكومة أو الدولة. بها يتحقق جلال الإنسان على الأرض فتتحقق به كلمة الله العليا. إنهم يهتفون بغير ذلك أو بما يناقض ذلك ولكنهم مجانين مزيفون؛ ولذلك فإنه لم يغفر لنفسه أنه لم يملأ عينيه من حجرة المدير العام، ولا من شخصه المتفرد الذي يحرك الإدارة كلها من وراء برافان، في نظام دقيق وتتابع كامل يذكر الغافل بالنظام الفلكي، وبحكمة السماوات.
تنهد بعمق.
قرأ الفاتحة مرة أخرى. قال مودعا: ادع لي ربك يا أبي.
ودار حول القبر الذي سقط شاهداه وتشقق ركنه ثم قال: ادعي لي ربك يا أمي.
6
ما أعجب الفصول في تعاقبها! إنه يعايشها من خلال عمله المتواصل. الشتاء في الحارة فصل شديد القسوة ولكنه يحفز للعمل، الربيع بخماسينه لعنة، الصيف جحيم، الخريف بسمة غامضة متأملة. إنه يواصل العمل بإرادة صلبة وشهوة نارية. ها هي كتب القانون تصطف تحت الفراش وفوق منصة النافذة. لا ينام من الليل إلا أقله. يعانق الأفكار ويصارع الغموض، وحتى النجاح لا يريد أن يقنع به وحده. ويوم الجمعة يخصص عادة للثقافة العامة الجديرة بالمديرين ومن في خدمتهم. واهتم بالشعر خاصة، حفظ الكثير، بل حاول نظمه ولكنه فشل. قال إن الشعر كان وما زال خير وسيلة للتقرب من الكبراء، والتألق في الحفلات الرسمية. إنه لخسران فادح أن يفشل في نظمه. ولكنه على أي حال خير طريق لإتقان النثر، والخطابة لا تقل عن الشعر في النجاح المنشود. والأسلوب الجزل مطلوب، قلبه يحدثه بذلك. واللغات الأجنبية مثله وأكثر. جميع تلك المعارف مفيدة، ولها وقتها الذي ترتفع فيه قيمتها في بورصة المضاربات الديوانية، فليس بالتعليمات المالية وحدها يحيا الموظف. أجل عليه أن يتزود من كل شيء نافع بطرف، فمن يعلم؟ وكان يقول إن حياته تيار غير منقطع ماض في مجرى النور والعرفان، يتكاثف بكل طريف، ويتشعب في مجالات الفكر، تدفعه حرارة الإيمان والكبرياء البشري الشريف، ليصب في النهاية في الأعتاب الإلهية.
أما راحة النفس فيحظى بها على سلم السبيل الأثري. في عناق الحب المشبوب. بين يدي الفتاة الجملية المحبة. في حضنها العذري المشتعل. بلا تورط في فعل أو قول. لكنه يتعلق به تعلقه بالحياة نفسها. آه لو كانت الحياة تقنع بالحب والسعادة اليسيرة. ومن شدة قلق سيدة تجاوزت تحفظها الفطري. تمادت في الإفصاح عن عواطفها الصادقة. كشفت عن لهفتها المحمومة. قالت له مرة بورع: لا حياة لي بدونك.
ولكن بدا قولها فاترا بالقياس إلى ما تمنحه شفتاها المليئتان. وقالت له مرة أيضا: أنت كل شيء، ما مضى وما وهو آت ..
Неизвестная страница
وعيناها العسليتان تبعثان ألقا ناطقا بالوفاء والجزع والأشواق الصادقة. وفي غمار العناق الذائب في الأنفاس المحترقة قالت متنهدة: ينقصنا شيء ..
فقال ببلادة وأنانية: حبنا الكامل لا ينقصه شيء!
فرفعت منكبيها محتجة ولكن بحذر من يرغب عن إحراجه ويستعين عليه بالصبر والإصرار، ووجد أنه يعاني كبتا مرعبا سيرمي به مرة تحت رحمة المجهول. ذلك أذعن لإغراء زميل دعاه إلى زيارة لدرب البغاء الرسمي. وكابن من أبناء حارة الحسيني لم تعوزه الجرأة الكافية، انطلق في الدرب الذي يضيئه مصباحان غازيان متباعدان يغلفهما الغبار الراسخ فيغرق جنباته في شبه ظلام مثير للشهوات. وقلب عينيه القلقتين حتى استقر على صيد. ويعقب ذلك عادة إكباب على طلب الغفران، وعكوف طويل على الصلاة والعبادة. وهو ما يفعله عادة كلما واجه نواياه العميقة الخفية من ناحية سيدة. فإلى جانب عناء العمل المتواصل وجد عناء أشد من عذابات ضميره. وكان يختم لياليه الطويلة المرهقة في إعياء نفسي شديد، كالإغماء، وأحيانا تبتل جفونه وهو لا يكاد يدري.
وكان سعفان بسيوني رئيس المحفوظات يتابع نشاطه الرسمي بإعجاب وحذر. أعجب بجلده وحسن تصرفه وخلقه، ولم يرتح من بادئ الأمر إلى البكالوريا التي تميز بها وحده في المحفوظات ولا إلى طموحه إلى المزيد من التعلم الذي سيرفعه درجات جديدة من الامتياز عليه هو بشهادته اليتيمة «الابتدائية». وفطن عثمان إلى ذلك في حينه ولكنه طمع في طيبته الفطرية وضاعف من تودده إليه وإذعانه لتوجيهاته حتى اطمأن الرجل إليه تماما وفتح له قلبه في صفاء نادر. وفي أوقات الفراغ قربه إليه، وأفضى إليه بخواطره، حتى السياسة صرحه فيها برأيه وأهوائه. ولشدة حماس الرجل جفل عثمان من الإعراض عن اهتماماته أو معالنته بحياده البارد إزاءها، وقال بغموض وحذر: الحق أننا من مشرب واحد، ولا عجب في ذلك ..
فسر الكهل بقوله سرورا عظيما ذهل له عثمان. عجيب استغراق الرجل في هذه الشئون. وأعجب منه استغراق زملائه التعساء فيها. ماذا يشدهم إليها؟ أليس لديهم هموم صميمية تشغلهم عنها؟ ولكنه قال لنفسه بازدراء غير قليل: إنهم أناس لا يعرفون لأنفسهم هدفا محددا، وإيمانهم الديني إيمان سطحي، ولم يفكروا بما فيه الكفاية في معنى الحياة، ولا فيما خلقهم الله من أجله، وهكذا تتبدد أفكارهم وأعمارهم في لهو وسفسطة، وتهدر قواهم الحقيقية بلا عمل. تستغفلهم الأوهام، ويمضي الزمن وهم لا يعلمون ..
7
وقال له سعفان بسيوني بعد أن تلقى منه بريد الوارد: إني أدعوك إلى سهرة ممتعة في بيتي ..
دهش وانزعج ولكنه لم يفكر في التملص. قال الرجل: يوجد حفل زفاف في بيت الجيران، سنتعشى معا لحمة رأس، ونجلس في الشرفة نستمع للغناء ..
كان الرجل يقيم في شقة بالدور الثالث ببيت بعطفة البحر بباب الشعرية. وتبين له أنه كان المدعو الوحيد. طاب نفسا بالمكانة التي يؤثره بها رئيسه، وتناول معه عشاء لذيذا مكونا من المخ والجبهة واللسان والجوهرة وممبار وفتة بالتقلية غير الفجل والمخلل، وحلوى من الشمام، أكلة ممتازة ووفيرة وقد أكل حتى امتلأ. وجلسا في شرفة تطل على فناء البيت الذي قام فيه الفرح. تبدى الفناء غارقا في الأنوار تصب عليه من كلوبات كثيرة. وصفت به الأرائك والكراسي التي اكتظت بالمدعوين، واكتظت المماشي بالغلمان والأطفال، وأحدق عشرات وعشرات منهم بسور الفناء من الخارج. وشعت الأنوار في البيت من الداخل أيضا وتراءت النساء وهن يذهبن ويجئن. وهدر المكان بالأصوات من جميع الدرجات والأنواع، وارتفع الضحك والسعال والزغاريد. خفق قلب عثمان وهو يرنو إلى جو الفرح وانتقلت إلى فؤاده حرارته الفواحة بعطر الجنس والحب؛ لذلك تلقى دغدغات التخت الأولى بتأثر أشد مما توقع ومما ألف. فهو لا يعشق الغناء ولكن إذا جاءه بلا كلفة فلا بأس به ولو إلى حين قليل. حسن، الموسيقى لا بأس بها أحيانا، شيء طيب ومريح. الزواج علاقة باهرة وفرح ودين. وخالجه شعور شامل بالأسى. - لعلك في حاجة إلى الترفيه، هذا ما أقوله لنفسي كثيرا ..
قال سعفان ذلك وهو ينظر ناحيته بوجه تضيء أنوار الفرح أجزاء منه وتتواري أجزاء في الظلال. وقال أيضا: عمرك يجري في العمل والدراسة ولكن الحياة تطالبنا بأشياء كثيرة ..
Неизвестная страница
أصغى إليه باهتمام في الظاهر واستخفاف في الباطن. إنه يحتقر المواعظ التي تحث على الكسل ويعتدها تجديفا بذي الجلال، غير أنه تذكر سيدة في عذابها الطويل، وما عليه أن ينجزه ويحفظه ويراجعه، وشعر بأنه يبتسم ابتسامة لا معنى لها. وعاد سعفان يقول: لك همة عالية ولكن راحة البال جوهرة ثمينة أيضا ..
فقال له واستخفافه به يتصاعد: أنت رجل حكيم يا سعفان أفندي ..
وظهر في مدخل الشرفة شبح فتاة تحمل صينية تفوح منها رائحة الشاي المنعنع. انعكس الضوء الصاعد من الفرح على وجهها فوضحت بعض معالمه رغم ظلام الغرفة القابع وراءها، وجه مستدير، لونه قمحي، وثمة ملاحة ملحوظة مغلفة بغموض وأشواق. ساوره قلق. وهو يميل قليلا ليتناول قدح الشاي رأى عن قرب ساعدها السوية البضة وكأنها هي التي تنفث رائحة النعناع. وقفت دقيقة أو أقل ثم توارت في الظلام وهي تداري ابتسامة كادت تفلت منها حياء وارتباكا. وساد صمت كأنه الشعور بالإثم، وتشبع الجو بروح المؤامرة، وتضاعف قلقه. قال سعفان: ابنتي ..
هز رأسه إعرابا عن الاحترام .. - حصلت على الابتدائية قبل أن تنقطع عن المدرسة ..
واصل هز رأسه في تقدير وإعجاب. ترامت إليهما أصوات الجوقة وهي تغني التواشيح. ومضى سعفان قائلا: البيت هو المدرسة الحقيقية للبنت ..
لم يعلق؛ لم يجد ما يقوله، وضاق في الوقت نفسه بصمته. - ما رأيك في ذلك؟ - أوافقك كل الموافقة ..
ولكنه تذكر جهاد أمه الكادح في حياتها المريرة. شعر بأنه يدفع إلى مصيدة. بدأ الغناء بصوت الطرب هادئا وخافتا وناعما. وتمتم سعفان: ما أجمل الصوت! - نعم. - الحياة جميلة أيضا. - بلا شك. - ولكنها تطالبنا بالحكمة لتجود علينا بحلاوتها .. - أليست الحكمة ثمرة عسيرة؟ - كلا، هي هبة من الله سبحانه.
قال لنفسه: إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة. الرجل يحاصره وهو لن يستسلم، ولكن كيف يفوز بحريته ورضى رئيسه معا؟! لم يعد يسمع من الغناء شيئا. سعفان يتابع الغناء بأذنه ويده وقدمه وينظر إليه بين ذلك متفحصا مستطلعا. وحنق عليه كجلاد ماكر. ورأى أن عليه أن يرد الدعوة بأحسن منها دفاعا عن نفسه المهددة. آلمه ذلك ألما غير هين. إنه لا ينفق القرش بغير ضرورة ملحة. وفتح حسابا في دفتر توفير البريد مع أول مرتب قبضه؛ ولذلك لم يخطر له على بال أن يغير مسكنه أو حارته أو طعامه. وهو يؤمن بأن الادخار وسيلة هامة من وسائل جهاده الطويل وشعيرة من شعائر دينه، وأمان ضد الخوف في عالم مخيف. ولكن لا بد مما ليس منه بد. سيرد الدعوة بأحسن منها. وسيتم ذلك في مطعم لا في حجرته المكتظة بالكتب، الفقيرة في كل شيء عدا ذلك. وإذن فسوف ينفق مبلغا جسيما حقا. اللعنة على الحمقى. بات الغناء ضجيجا لا معنى له وتفتحت أبواب الجحيم. والكهل يهز رأسه طربا غير عالم بجريمته. والدنيا تطلق سخرية من سخرياتها.
8
وقبل مضي الشهر دعا الرجل للعشاء في مطعم الكاشف. تناولا سمكا شهيا وحليا بمهلبية. وكان الكهل من السعادة في غاية وخيل إليه أنه يتوقع نزول ملاك السعادة والرحمة. ولم يقنع بالعشاء فيما يبدو فاقترح قائلا: ما رأيك في سهرة في الفيشاوي؟
Неизвестная страница
وجب قلبه بألم عميق ولكنه تأبط ذراعه قائلا: يا لها من فكرة رائعة!
وجلسا في المقهى وهو يتذكر عيدا من أعياد الفطر تمزق فيه جلبابه الجديد في معركة بحارة الحسيني، ضربه أبوه، واضطر إلى استعمال الجلباب عاما كاملا بعد أن رقعته أمه. وأزعجه سرور الكهل وانشراحه. إنه يتوقع أن يسمع خبرا سارا بلا شك. وها هي فرحة قلقة في أعماق عينيه الشاحبتين، وها هو يجود بالرضى على كل شيء .. قال: أأنت سعيد بزملائك في المحفوظات؟ .. - أعتقد ذلك. - إنهم تعساء ولكنهم طيبون .. - إنهم طيبون حقا .. - أما أنت فشاب ممتاز، هل تعمل محاميا إذا انتهيت من دراستك؟ - كلا، ولكني أرجو تحسين حالتي. - فكرة طيبة. يعجبني طموحك الشريف!
وخرج عثمان من تردده مصمما على النجاة ولو بخنق آمال الرجل. قال: إن همومي أكبر مما تتصور ..
فرمقه الرجل متوجسا وسأله: لم؟ كفى الله الشر! - لا يهمني الطموح كما تظن، تهمني أشياء أقل من ذلك بكثير .. - حقا؟ - لولا الظروف القاسية لما فكرت إلا في أمر بسيط وطبيعي ومعقول وهو أن أكمل نصف ديني!
لم يفلح الكهل في مداراة الخيبة التي خنقته، وتساءل: أي ظروف يا ترى؟
فتنهد عثمان في أسى وقال: مسئوليات جسيمة؛ نحن أبناء الفقر، وهو يصر على مطاردتنا ..
وأطرق وهو يقول بصوت كئيب: كم كنت أود ...
وسكت كأنما غلبه الانفعال. تراجع الكهل عن ضوء المصباح فمضى في الظل. لا مفر من ذلك ولكن عليه أن يحافظ على صداقته ما وسعه الجهد والحيلة. وجاءه صوت الرجل من الظل: ومتى تستطيع الوقوف على قدميك؟
فأجاب بنبرة يائسة: في عنقي صغار وأرامل، ما أنا إلا ثور معصوب العينين يدور في ساقية ..
مات كل شيء. حتى مطارق قطع النرد لم تعد تسمع. عاد يتمتم: كم كنت أود ...
Неизвестная страница
فلم يعلق الكهل بكلمة. وأراد أن يدفع الحساب ولكن عثمان أبى عليه ذلك ودفعه من جيبه وهو يتمزق. تلاشت البهجة من الجلسة ولم ينفع في إحيائها الافتعال. وغادرا المقهى فمضيا مشيا على الأقدام حتى ميدان باب الشعرية، وهناك فارقه الرجل إلى مسكنه. وجد نفسه في حال تعيسة من التوتر والقلق. ودهمته موجة مجنونة من الاستهتار فدعته إلى التبذير اليائس كأسلوب من الانتحار.
وقصد بلا تردد الدرب ليدفن في أعماقه قلقه وأحزانه وعذابات ضميره. وقال لنفسه بحزن: حتى أخطاء الإنسان يجب أن تكون مقدسة ..
9
اعترضت أم حسني طريقه وهو نازل. إنها لا تفعل ذلك بلا سبب. نظر إلى وجهها المخدد بالتجاعيد وشعرها المصبوغ بالحناء وجسمها القوي رغم شيخوختها فتذكر أمه، صافحها وهو يبتسم فقالت: عندي خبر .. - خير إن شاء الله.
فقالت وهي تضيق عينها الوحيدة - فقدت الأخرى في معركة من معارك الحارة - قالت: لا خير فيه ..
نظر إليها جادا فقالت: عريس، وجد عريس في طريقك! - هه؟ - عريس تقدم لسيدة ..
اجتاحه حزن وذهول كأن ذلك لم يكن متوقعا. لم يجد ما يقوله. - ترزي بلدي ..
كان يعلم بأن ذلك آت لا ريب فيه. لا يحاول دفعه ولا أمل له في منعه كالموت. ولم ينبس فسحبته من يده إلى حجرتها وأجلسته على الكنبة إلى جانبها، وسألته: ألا يهمك الأمر؟
شعر بألم حاد في أعماق روحه. شعر بأن الدنيا تتلاشى. قال بغضب: لا تطرحي أسئلة لا معنى لها .. - هدئ خاطرك .. - يحسن بي أن أذهب. - ولكنك لن تتمكن من لقائها.
الدنيا تتلاشى أكثر وأكثر .. قالت: كان يجب أن تدرك ذلك من نفسك. - لم؟ - أمها تتشدد في منعها من الخروج، فرجل حقيقي خير من خيال ..
Неизвестная страница
وتمتم بلا وعي: رجل حقيقي خير من خيال. - أنت تحبها، أليس كذلك؟
فقال بأسى: إني أحبها. - حكاية محفوظة في حارتنا. - وهي حقيقية. - عظيم، ولم لم تتكلم؟
فقال بحدة: لا أستطيع. - اسمع، توسلت البنت إلي أن أبلغك ..
تنهد في يأس كامل. فقالت المرأة: اذهب من توك فاخطبها أو دعني أتولى ذلك عنك.
حادث نفسه بأصوات مبهمة كأنما يتكلم لغة مجهولة حتى ذهلت المرأة فقال مواصلا حديثه مع نفسه: ولن يغفر الله لي .. - أعوذ بالله، أتراها غير أهل لموظف مثلك؟ - لا تتقولي علي يا أم حسني .. - أطلعني على قلبك، أنا أمك ..
فقال متنهدا: لا أستطيع أن أتزوج الآن. - تنتظرك كما تشاء. - سيطول الانتظار .. - اربطها بكلمة، هذا يكفي الآن .. - كلا، لست أنانيا، إني أرفض حرصا على سعادتها.
وهمت بالاسترسال في الحديث ولكنه غادر الحجرة. سار ببطء في الحواري الضيقة. كان يتعذب بعمق ويسلم بمرارة بأنه لن يراها مرة أخرى. ورغم عذابه شعر بارتياح خفي يائس، وبقدر ارتياحه آمن بأن اللعنة حلت به. إنه يحبها ولن تملأ أخرى الفراغ الذي خلفته وراءها في نفسه. وهذا الحب لن يمحى بسهولة، وسيعلمه كيف يكره نفسه وطموحه، ولكنه سيصر على التعلق بهما بقوة الكراهية واليأس. إن ما يركبه جنون، ولكنه جنون مقدس يغلق باب السعادة باستهانة وكبرياء ويدفعه بقوة في طريق المجد الشاق المحفوف بالأشواك. إن السعادة تغريه بالتفكير في الانتحار أما الشقاء فهو الذي يحرضه على نشدان الحياة وعبادتها.
ولكن يا للخسارة يا سيدة! ..
10
وتقدم في كل شيء ولكن عذابه لم يكد يخف، ورسخت قدمه في عمله حتى شهد له سعفان بسيوني - رغم إخفاقه معه - بالمواظبة والكفاءة والاستقامة، وكان يقول عنه: إنه أول الحاضرين وآخر الذاهبين وفي أوقات الصلاة يؤم المصلين بمصلى الوزارة ..
Неизвестная страница
وهو يؤدي عمله، ويؤدي عن المتأخرين أعمالهم، فالكلام عن نجدته لا يقل عن الكلام عن قدرته. وسار في دراسته بعزم قوي يبشر بنجاح باهر. وأصبح من مدمني التردد على دار الكتب، يقرأ بنهم شتى الثقافات إلى جانب دراسته القانونية الشاقة. أصبح كذلك من الوجوه المعروفة التي ترى في جامع الحسين في صلاة الجمعة فعرف في الحي - كما عرف في الوزارة - بالتقوى والورع. ولكن عذابه لم يكد يخف، وظلت سيدة مسيطرة تماما على خياله ووعيه حتى قال لنفسه: إنها الجوهرة الوحيدة في حياتي ..
وفي مواعيد اللقاء يجلس على سلم السبيل الأثري فتلفحه حرارة الذكريات ويغوص فيها حتى تتجسد له حية ملموسة. في لحظات اشتداد الوجد يتوقع أن يسمع وقع قدميها الخفيفتين ويرى طلعتها المقبلة محفوفة بالشوق والحياء. وحديثها الطويل وعناقهما الحار وكل موضع ثمين غسله بقبلاته. ولكنها لا تأتي ولن تأتي. قطعته ولعلها نسيته. وإذا خطر ببالها لعنته بما يستحق. ويوما مر تحت نافذتها في ساعة العصاري فخيل إليه أن رأسها لاح لحظة وراء القلة المعرضة للهواء لتبترد، ولكنها لم تكن هناك أو لعلها تراجعت باشمئزاز وعجلة. وقال لنفسه: مقدس الإنسان في عذاباته ..
وقال أيضا: لا يخلو عمل للإنسان من عبادة ..
وصادفها صباح الجمعة في الخيمية بصحبة أمها. تلاقت عيناهما لحظة ثم حولتهما عنه في غير مبالاة. لم تلتفت وراءها. تجلى له معنى من معاني الموت، كما خرج أبوه من الجنة بإرادته. وكما يخوض العذاب بشموخ وكبرياء.
وكان يختلف إلى الدرب بحذر وانفعال ويأس. ووثقت الأيام علاقته بفتاة تماثله في السن تسمي نفسها قدرية. جذبته بسمرة غامضة - مثل سيدة - ولكنها أعمق في زنجيتها وبدانتها ولم تكن مغرقة في البدانة. ومنذ ساقته قدماه إليها - منذ زمن ليس بالقصير - لم ينحرف إلى سواها. وذكرته حجرتها بحجرته ولكنها أكثر بدائية بأرضها العارية وفراشها المرتفع والمرآة وكرسي وحيد يستعمل للجلوس وكمشجب، وطشت وإبريق؛ لذلك لم يكن يستطيع خلع بدلته في ليالي الشتاء. ومرت أعوام لم يبادلها سوى تحية القدوم وتحية الذهاب. ورغم تدينه العميق علمته الشراب، القدر القليل الضروري. وكان قدح نبيذ من نبيذ «السلسلة» الجهنمي - بنصف قرش - يكفي لطمس عقله وبعث الجنون في دمه حتى قال لها مرة في نشوة مضحكة: أنت سيدة الكون ..
وكان يتأمل الحجرة العارية، ويشم البخور، ويلمح الحشرات، ويتخيل الجراثيم المستكنة ويتساءل أليس هذا الركن الملعون المشتعل بنار الجحيم جزءا من مملكة الله؟! ومرة أمطرت السماء وجعجع الرعد فانحبس في الحجرة العارية. خلا الدرب وخفتت الأصوات وساد الظلام. تربعت قدرية فوق الفراش وجلس هو فوق الكرسي الخيزران، وأضاء الحجرة شمعة وحيدة. ولما طال الوقت تناول من جيبه مذكرة مدونا بها ملاحظات من دروسه وراح يقرؤها - كعادته - بصوت مسموع. وسألته قدرية: قرآن؟
فهز رأسه بالنفي وهو يبتسم. - مواعيد غرامية؟ - دروس! - تلميذ؟! .. ولماذا تربي شاربك؟ .. - موظف وتلميذ في مدرسة ليلية ..
وتذكر سيدة بحنين وأسى. وخطرت له فكرة استراح لها وهي أن المطر المنهمر يغسل الدرب ويجلو وجهه.
وعاد ذات يوم إلى الحارة فرأى الأرض مفروشة بالرمل أمام بيت سيدة والرايات تخفق على الجانبين. دق قلبه دقة النهاية. والتقى بأم حسني على السلم - ترى هل تعمدت أن تنتظره؟ - فحياها عابرا ومضى وصوتها يدعو له: ربنا يحقق مقاصدك ويسعدك ..
لم يستطع أن يركز عقله في دروسه. واقتحمت حجرته الصغيرة الأصوات، الزعاريد، تهليل الغلمان. موسيقى حسب الله، أجل .. ها هي سيدة تدخل مملكة رجل آخر، وتنطوي فترة من الشباب وتدفن. •••
Неизвестная страница
غادر البيت بتصميم جديد. قال إن الحياة أعظم من جميع آمالها. وإن الخيام أجمل حكمة من المعري. وإن القلب هو المرشد الوحيد. اقتحم الفرح حتى قالوا إنه مجنون. وأشار إلى سيدة وقال لها: «إني أدع لك الحكم.» استجابت رغم الصراخ والعويل؛ لأنه في اللحظات الحرجة التي تسبق الإعدام تتعرى الحقائق فتهزم الموت. ومضى بها مخترقا ثلاثة أزقة مارقا من باب النصر إلى مدينة الأموات وهما يترنحان من السعادة. •••
لم تسكت الأصوات والزغاريد والأغاني حتى مطلع الفجر. وكان ينظر إلى الكلمات ولا يفقه لها معنى. وشعر بالوحدة فتوغل في عالم مجدب خال من الأصوات والأمل. وثقلت عليه المعاناة في الطريق الشاق فتذكر معارك الأمم، ومعارك الجراثيم، ومعارك الصحة والعافية فهتف: سبحان الله العظيم!
11
حضرة صاحب السعادة المدير العام
أتشرف بإبلاغ سعادتكم بأنني حصلت على ليسانس الحقوق هذا العام - من منازلهم - استزادة من العلم واستكمالا للوسائل الضرورية للموظف، مستلهما الهمة من عبقرية سعادتكم، في ظل مولانا الملك المعظم حفظه الله وأدام ملكه.
رجاء التكرم بالعلم والأمر بحفظ الشهادة المرافقة بملف خدمتي.
وتفضلوا يا صاحب السعادة بقبول فائق الاحترام.
عثمان بيومي
كاتب الواردات بالمحفوظات
لقد أحرز نجاحا باهرا بالقياس إلى زملائه المتقدمين من منازلهم. وسيدور خطابه الموجه إلى حضرة صاحب السعادة دورة رائعة تعلن تفوقه على الملأ؛ فهو يعرض أولا على رئيسه المباشر سعفان بسيوني ليوقع عليه بالعرض على صاحب العزة مدير الإدارة حمزة السويفي؛ فهو يسرك في صادر المحفوظات ثم يسرك مرة أخرى في وارد الإدارة. بعد ذلك يعرض على حمزة السويفي ليوقع بعرضه على حضرة صاحب السعادة المدير العام، فيسرك في صادر الإدارة ثم يسرك في وارد مكتب المدير العام، ثم يقرؤه حضرة صاحب السعادة المدير العام، يقرؤه بعينيه ويتسلل إلى ذاكرته وربما هز عواطفه، ثم يوقع عليه بالتحويل إلى المستخدمين لإجراء اللازم، فيسرك في صادر مكتب المدير العام ووارد المستخدمين حيث تتخذ الإجراءات ثم ترسل صورة إلى المحفوظات التي صدر منها الخطاب للحفظ في ملف خدمته الإداري، بذلك تتم الدورة الفلكية ويعلم من لم يكن يعلم.
Неизвестная страница
وثمل بالسعادة يوما. وتتابعت الأيام. ماذا بعد ذلك؟ هل يبتلع الصمت كل شيء؟ لا شيء يحدث. النار المقدسة مشتعلة في صدره. ومقام الحسين يشهد مناجاته الطويلة. الطريق طويلة ولا خطوة واحدة تبشر بالضياء. وقد انتهى من الدراسة. أما اغترافه من بحر الثقافة فلا يتوقف أبدا. إنه يشبع بها أشواقه إلى المعرفة ويكمل بها ذاته لتكون أهلا للمركز الذي سيشغله يوما بإذن الله وفضله. ويتسلح بها في نضاله الطويل المرير في الغابة الرسمية التي يطالب فيها كل ذي شأن بقرابينه. إنه لا يملك سحر المال، ولا يتمتع بامتيازات الأسر الكبيرة. ولا قوة حزبية تسنده، وليس من الذين يرتضون أن يلعبوا دور البهلوان أو العبد أو القواد، إنه واحد من أبناء الشعب التعيس الذي عليه أن يتزود بكل سلاح، ويتحين كل فرصة، ويتوكل على الله، ويستلهم حكمته الأبدية التي قضت على الإنسان بالسقوط في الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرة أخرى إلى السماء.
ومن خلال تتابع الأيام في مجراها الأبدي خلت درجة سابعة بالمحفوظات بنقل شاغلها إلى وزارة أخرى. وقال له سعفان بسيوني: رشحتك للدرجة الخالية فلا يوجد في المحفوظات من هو أحق بها منك ..
فشد على يده بامتنان وهو يود أن يقبله فقال الكهل: سبعة أعوام مضت عليك في الثامنة، وقد حصلت في أثنائها على ليسانس الحقوق، وأثبت بجدارة كفاءة لا نظير لها ..
وضحك الكهل كاشفا عن أسنانه السود المثرمة وقال: وهي مضمونة لك إن شاء الله فلا رغبة لأهل الوساطات في وظيفة بإدارة تسكنها الثعابين والحشرات ..
وطال الانتظار ومضت الأيام. وقال لنفسه: ها هي سبعة أعوام تمر في درجة واحدة فيلزمني على هذا القياس أربعة وستون عاما حتى أبلغ الأمل المنشود. المدير العام الذي أشعل النار المقدسة في قلبه. لم تقع عليه عيناه منذ مثل بين يديه ضمن المستجدين. وإن متعة نفسه أن يقف في جانب من الميدان يراقب موكبه وهو يغادر الوزارة في أبهة الملك وقدسيته. هذا هو غاية الحياة ومعناها وجلالها.
واستفحل العمل في الإدارة أيام إعداد الميزانية فاحتاج مدير الإدارة إلى موظفين إضافيين في الأقسام التابعة له فندب عثمان للعمل عن المحفوظات. سر بذلك وقال إنها فرصته. وتوثب للعمل بهمة هائلة، عمل مع المراجعين كما عمل مع وكيلي الإدارة، وشهد اجتماعات مع مدير الإدارة نفسه. انفجر كبركان وكأنما كان ينتظر هذه الفرصة منذ اشتعل قلبه بالطموح المقدس. ولم يتردد فوضع نفسه تحت تصرف السادة الرؤساء من مطلع الصباح حتى منتصف الليل. في الظروف الدقيقة الحرجة ينسى كل شيء في الحكومة إلا الكفاءة الحقة. والميزانية عمل خطير يتصل بالمدير العام ووكيل الوزارة والوزير ومجلس الوزراء والبرلمان والصحافة، فلا مجال في أيامها المشحونة بالإرهاق لصاحب امتياز، ولكن يفرض الانتخاب الطبيعي نفسه ويتقدم الأكفاء ويعترف بالقيمة الذاتية حتى ولو لم يقدر لها حسن الجزاء. وقد لفت عثمان إليه الانتباه وحاز الثقة الكاملة، وتجلت قدرته الخارقة على العمل، كما تجلت درايته باللوائح والقانون. ولم يقنع بما أحرز من نجاح فتطوع سرا لكتابة مشروع بيان الميزانية الذي يكتبه عادة مدير الإدارة بنفسه. وهيأ له العمل فرصة الانفراد بمدير الإدارة حمزة السويفي فلما فرغ من عرض أوراقه قال له بأدبه الجم: سيدي المدير، اسمح لي أن أقدم لكم بعض الملاحظات التي قيدتها أثناء العمل لعلها تنفع عند النظر في تحرير بيان الميزانية!
فنظر إليه حمزة البسيوني باستخفاف مشوب بالعطف وقال: أنت شاب ممتاز كما يقال عنك .. - أستغفر الله يا افندم. - على فكرة، مبارك؛ فقد تمت اليوم الموافقة على ترقيتك إلى السابعة ..
تمتع عثمان بلحظة انتصار سعيدة فقال بامتنان: بفضل الله وفضلكم!
فقال مدير الإدارة مبتسما: مبارك، أما بيان الميزانية فشيء آخر!
فقال باستماتة: عظم الله قدرك، لا جرأة لي على الاقتراب من بيان الميزانية، ولكن عنت لي ملاحظات في أثناء العمل، ملاحظات مجتهد درس القانون والمالية، فطمع أن تكون في الخدمة عندما تحتشدون لوضع البيان الخطير.
Неизвестная страница
وتناول الرجل «الملاحظات» وراح يقرؤها والآخر يتابعه باهتمام مركز خيالي. لقد سيطرت عليه الملاحظات، هذا واضح. ثم قال بهدوء سطحي: أسلوبك جيد .. - شكرا يا سيدي .. - يخيل إلي أنك قارئ ممتاز. - أعتقد ذلك يا سيدي. - ماذا تقرأ؟ - الأدب، سير العظماء، الإنجليزية والفرنسية .. - هل لك قدرة على الترجمة؟ - إني أمضي أوقات فراغي في مطالعة القواميس.
فضحك حمزة السويفي وقال: شيء جميل، وفقك الله ..
وأذن له في الانصراف ولكنه استبقى «الملاحظات» عنده. وغادر عثمان حجرته ثملا بالأفراح، يؤمن بأنه نال من ثقته ما هو أثمن من الدرجة السابعة نفسها.
وعندما طبع مشروع الميزانية بعد ذلك بأشهر هرع عثمان إلى مقدمة الميزانية فقرأ البيان الذي كتبه بخط يده عدا تغيير طفيف لا يقدم ولا يؤخر. سعد بذلك سعادة كبيرة، امتلأ ثقة بنفسه وبمستقبله، واستوصى بذكائه فلم يفش سر البيان لأحد.
وما لبث أن صدر قرار بنقله من المحفوظات إلى إدارة الميزانية.
ليلتها وقف وراء نافذة حجرته ينظر إلى الحارة الغارقة في الظلام. ورفع عينيه إلى السماء فرأى النجوم الساهرة. مستقرة فيما يبدو ولكن لا شيء جامد في الكون. وقال إن الله خلق النجوم الجميلة ليحرضنا على النظر إلى أعلى. وإن المأساة أنها ستطل يوما من عليائها فلا تجد لنا من أثر. ولا يتحقق معنى لوجودنا إلا بالعرق والدم.
12
قال له سعفان بسيوني: سأحزن لغيابك عن المحفوظات بقدر ما أنا سعيد بك.
وذاب عثمان في الجو العاطفي بإخلاص وقتي فدمعت عيناه وتمتم: لن أنساك أبدا يا سعفان أفندي ولن أنسى عهد المحفوظات. - ولكني سعيد لأنك سعيد ..
فتنهد عثمان وقال: السعادة عمرها قصير جدا يا سعفان أفندي.
Неизвестная страница
ولم يفهم سعفان قوله ولكن الآخر كان يعيشه. كان يحمل الزمن على ظهره لحظة فلحظة ويعاني الصبر نقطة نقطة. وسرعان ما نسي تماما أنه رقي إلى السابعة أو أنه يعمل في إدارة الميزانية، كان يعمل بجنون في الوزارة، ويتبحر في المعرفة في حجرته الصغيرة. وبين هذا وذاك يقول بجزع: العمر يجري .. الشباب يجري .. الأيام لا تريد أن تستريح ..
وما زال في أول الطريق الطويل. وكان ولعه بالادخار يزداد مع الأيام، واستمساكه بمسكنه البدائي يقوى ويشتد. المال حصن، هكذا يشعر. وهو مهر عند الضرورة لعروس الأحلام. وعروس الأحلام هي التي تفتح مغالق الأبواب وتستنزل جوهرة المستقبل من معتصمها. وللموظفين في ذلك أقوال مأثورة وحكم وأمثال. العروس الجميلة إما أن تكون هدية مجد مبكر أو ذريعة إلى المجد المستعصي. والطريق يبدو شاقا وطويلا فهو في حاجة إلى إسعاف. وهم يقولون: سعادة المدير العام ارتقى إلى مركزه الفريد وهو شاب تقريبا بفضل السياسة والأسرة فتزوج من فتاة من أسرة تعد من ملكات الجمال.
ويقولون أيضا: أما الوكيل الأول للإدارة فترقى بفضل زوجته، أو أسرة زوجته وهو الأصح ..
وهو يزود نفسه بكل سلاح فلا عيب إذا استعان بعد ذلك بعروس كريمة، وإلا فكيف يقف ضد تيار الزمن المتدفق بلا رحمة؟! ولذلك راح يترجم للصحف والمجلات ليزيد من دخله ويزيد بالتالي من مدخراته. ونجح في ذلك نجاحا لا بأس به. ولم ينفق مليما جديدا للتخفيف من تقشفه. ولم يعرف من عالم اللهو إلا زيارته الأسبوعية لقدرية في الدرب وشرب قدح النبيذ الجهنمي بنصف قرش. قالت له مرة: أنت لا تغير هذه البدلة أبدا، هي هي صيفا وشتاء، أعرفها من سنوات كما أعرفك ..
فقطب ولم يعلق فقالت: لا تغضب، أنا أحب الضحك ..
فسألها بسذاجة: هل جمعت ما أعطيتك من نقود طيلة السنين الماضية؟
فقالت ساخرة: عشقت رجلا مرة فسرق مني مائتي جنيه، هل تعرف معنى مائتي جنيه؟
تخيل المصيبة فاستعاذ بالله وقال لنفسه إن كوارث الدنيا لا تعد ولا تحصى، وسألها: وماذا فعلت؟ - لا شيء، ربنا يحفظ صحتنا فهي الأهم ..
قال لنفسه إنها مجنونة بلا شك؛ ولذلك فهي بغي. ولكنها كانت الترفيه الوحيد في حياته الشاقة، ووهبته عزاء لا بأس به. وأحيانا كان يحن إلى الحب وأيامه وسحره الذي يغير مذاق الدنيا، ويتذكر سيدة وسلم السبيل المهجور والصحراء، ولكنه يستسلم في النهاية لدعابات الدنيا القاسية، ويرضى عن نفسه المعذبة لاختيارها الطريق العسير المكلل ببركة الله ومجده العالمي. وقالت له قدرية ذات ليلة: ألا تحب أن نمضي صباح الجمعة معا في نزهة؟
فدهش وقال: إني أجيئك كاللص متخفيا في الظلام .. - مم تخاف؟
Неизвестная страница
ماذا يقول؟ .. إنها لا تفهم شيئا. وقال معتذرا: لا يجوز أن يراني أحد .. - هل ترتكب جريمة؟ - الناس ..
فقالت هازئة: أنت الثور الذي يحمل الأرض على قرنيه.
إنه ذو دين وخلق وسمعة طيبة يجب المحافظة عليها. وقالت له بإغراء: ممكن أن تحتكرني ليلة كاملة، يمكن الاتفاق على ذلك ..
فسألها بحذر: والثمن؟ - خمسون قرشا ..
وفكر باهتمام. سيهبه ذلك راحة حقيقية ولكن الثمن فادح. إنه في حاجة إلى الراحة. قال: فكرة طيبة ولتكن مرة في الشهر .. - هل تكتفي بمرة واحدة في الشهر؟ .. - ربما أجيء غيرها ولكن بالطريقة العادية.
واعترف بأنه لا غنى له عنها. إنها تماثله في السن، ولكن يبدو أنها غافلة عن الزمن، وعن أثره السريع فيها. وهي تعيش بلا حب ولا مجد، وكأنها تؤاخي الشيطان في غضبها. وكم غاظه أن تعترف له مرة بأنها اشتركت في مظاهرة فهتف محتدا: مظاهرة! - ما لك! .. نعم مظاهرة .. حتى هذا الدرب أحب الوطن يوما ما ..
وقال إن الجنون منتشر أكثر مما تصور. الاهتمامات السياسية تثيره وتدهشه. وهو يصر على عدم الاكتراث بها. ويؤمن بأن للإنسان طريقا واحدة، وأن عليه أن يشقها وحيدا مصمما بلا أحزاب ولا مظاهرات، وأن الإنسان الوحيد هو الخليق بالشعور بربه وبما يطالبه به في هذه الحياة، وأن مجده يتحقق في تخبطه الواعي بين الخير والشر، ومقاومة الموت حتى اللحظة الأخيرة.
13
واطلع عثمان بيومي ذات يوم على إعلان له شأنه. أعلنت الوزارة عن حاجتها إلى مترجم للغتين الإنجليزية والفرنسية بمكافأة 35 ج. م، وحددت يوما لامتحان مسابقة. اشترك في المسابقة بلا تردد ولا تفكير شامل. وأسفرت النتيجة عن اختياره مما زاد ثقته بنفسه واعتزازه بمواهبه. واستدعاه حمزة السويفي إلى مكتبه - وكانت الوظيفة الجديدة في مكتبه - وقال له: أهنئك على نجاحك الذي يقطع بتعدد قدراتك.
فشكره عثمان بأدبه المعهود فقال الرجل: ولكنها وظيفة ذات مرتب ثابت وسوف تخرج بها من الكادر العام، فهل فكرت في ذلك؟
Неизвестная страница