7
ومصر والشام وآسيا الصغرى، واتفقا على أن الملك للسابق إلى القسطنطينية إذا قتل فوقاس، فكان السابق بالطبع هرقل، وذهب موفقا مظفرا منصورا إلى القسطنطينية، فانضمت إليه الأمة ومجلس أعيانها، بل ورجال كهنوتها الذين لم يكن لهم مبدأ ثابت في الأحوال السياسية نظرا لكثرة تزعزعهم في الأصول الدينية؛ فسرت إليهم عدوى الاختلاف في السياسة من جراء الانشقاق في المذاهب والاعتقادات، لا سيما أن القيصر أعطى بطريرك رومية لقب الأسقف العام؛ فأغضب بطريرك القسطنطينية.
تملك هرقل بن هرقل، وقتل فوقاس واستخلص عروسه ولبس رداء الأرجوان، وهو شعار الإمبراطور، على يد البطريرك سرجيوس (سرجس أو سركيس)، غير أن الثورة في القسطنطينية لم يرتضها شاهنشاه الفرس وكسرى أبرويز، فسرح المرزبان المعروف بشهربراز في جيش كثيف إلى الروم للطلب بثأر موريق صاحبه وصهره، وللإيقاع بالملك الجديد، فعبر الفرات وهاجم بلاد الإمبراطورية، وقوبلت جنوده بالترحيب من المنشقين بسبب الدين، واستحوذ على أنطاكية فقيسارية فدمشق ثم أورشليم، وأحرق كنيسة القيامة (أو القمامة) وكنيستي قسطنطين وهيلانة، ثم استولى على مصر، وهرب منه يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية إلى قبرص ومات بها، وأنفذ جيشا لمحاصرة قسطنطينية وهي سرة الدولة ودار الملك، فخاف القيصر أن تفتح واستعد للهرب، وجمع خزائنه وذخائره وفي جملتها خشبة الصليب المقدس وأرسلها في سفن له إلى أفريقية، فعصفت بها الرياح وسيرتها للإسكندرية، فظفر بها شهربراز، وقبض عليها كلها وبعثها إلى أبرويز، فحمد الله الذي سخر له الريح حتى جاءته بخشبة الصليب ، وأفرد لها خزانة سماها كنز الريح، وهي بالفارسية كنج باذاورد، ثم استحوذ شهربراز على ساحل بحر الروم لغاية طرابلس الغرب، وامتلك آسيا الصغرى، ولبثت جنود الفرس معسكرة مدة عشرة أعوام على أبواب القسطنطينية، وفي أثناء ذلك ماتت زوجة القيصر؛ فتزوج مارتينا بنت أخته، خلافا لما تقضي به أوامر الكنسية؛ فغضبت عليه الأمة كما غضبت عليه الكنسية، وأوقعته بين نارين: نار الثورة الداخلية، ونار العدو الفارسي الواقف له بالمرصاد، فضلا عن هجمات خاقان المغول الوافدين من سواحل بحر قزوين. فلما ضاق الحال على هرقل، وبلغ منه اليأس منتهاه، وأعيته الحيل، راسل كسرى في الصلح فأجابه: «لا أرضى بمصالحة إمبراطور بوزنطية إلا إذا كفر بإلهه المصلوب فتمجس وعبد الشمس.»
فاستبسل الإمبراطور هرقل وجمع كل قواه (لا سيما أن أهل النصرانية غاظهم هذا الجواب من الملك المجوسي؛ فكان سببا في التفافهم حول قيصرهم) حتى تيسر له إرضاء كسرى بعد زمان طويل بالرجوع عن الإمبراطورية في نظير فدية قدرها ألف قنطار من الذهب، وألف قنطار من الفضة، وألف ثوب من الخز، وألف فرس، وألف عذراء.
وكان النبي العربي قد ظهر في أثناء هذه الوقائع، ونزل عليه القرآن وأشار إليها بقوله تعالى:
غلبت الروم * في أدنى الأرض ، ثم تنبأ بقرب فوزهم فقال:
وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، فكانت هذه النبوة المتقدمة على وقتها المحدد معجزة لأحمد. وذلك أن هرقل لم يخضع إلا أمام القوة، ولم تسكن نفسه للاستكانة حيال هذه المذلة، فتربص حتى جمع شمله الرث، وعاد إلى مهاجمة الفرس حينما ساعدته الفرص، فظهر عليهم في كل مكان، وقارنه السعد والظفر في جميع الوقائع، وخدمت جنوده الأيام؛ فكانت انتصاراته أبهى وأجل مما أحرزته رومية في أيام مجدها القديم، حتى شبهوه بالإسكندر وقسطنطين الأكبر، وهذا سر قوله تعالى:
وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، وقد راهن على ذلك أبو بكر الصديق وفاز بكسب الرهان.
فاسترد هرقل من العدو كل ما أخذه من بلاده وأملاكه، ولكنه لم يتمكن من إعادة الدين إلى سابق نصابه؛ لأن المجوسية أنزلت بالنصرانية أمام العالم كله مسبة ليس بعدها مسبة؛ إذ أهانت القبر، وأحرقت الكنائس، وأخذت الخشبة؛ فتحارب الدينان الكبيران وتفانيا في تلك الأيام، ومهدا السبيل لظهور الإسلام.
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
Неизвестная страница