والحق أن أهم ما لفت نظري في أحاديث فوزي أن أقاصيصه لم يروها كذكريات، ولا حنين، ولا تغن، بل كان يسردها كمن يبسط تصميما لصراع مقبل. ليس في نفسه نقمة أو حسرة أو عتاب. إنه لا يحمل فاتورة برسم القبض يلوح بها أمام عيون مواطنيه. لا يمنن أحدا بما فعل. وهو قد عامل وعاشر أكثر رجالات العالم العربي. وكان في كثير من الأحيان - حتى في ميدان القتال - هدفا للدسائس والاغتيال. ولكني لم أسمع منه كلمة واحدة خلال محادثاتي العديدة تنطوي على حقد. والناس في نظره ما هم إما شياطين أو ملائكة. يحلل كل شخصية عرفها ويشير إلى مواطن الضعف ومواطن القوة فيها. إنه لا يريد أن يجرح أحدا، ولكنه يحس بمسئوليته القومية، فهو يريد أن يثبت الأسماء والحوادث، ولأبناء أمته أن يبرئوا أو يدينوا، وعليهم أن يعتبروا وأن يتعلموا. إنه وقد قاتل مع الألمان والأتراك، وقاتل الفرنسيين والبريطانيين، واليهود، انتهى - كما ابتدأ - بحقيقة واحدة؛ وهي أن أمته أشجع وأنبل الأمم بأسا. يقول هذا ببساطة ومن غير انفعال ولا حماسة مصطنعة. هكذا قال له التاريخ الذي درسه وتعمق فيه، هكذا أثبتت له تجارب الميدان في سينا، في فلسطين، في الغوطة، في تدمر، وفي بغداد، وفي جبهات ومعارك خلال ست وثلاثين سنة.
وهذه الحقيقة لا يرسلها فكرا سطحيا. ما هي «علاك بعلاك». إنه يفهم ويعلل لماذا انهزم الجيش السوري في «ميسلون» 1921 وكيف أن بعض هذا الجيش في لباس المدنيين مع مواطنين لهم دوخ الفرنسيين في معارك الشام عام 1925-1927، إنه يفسر موقف الجيش العراقي في حربنا مع اليهود. ما هو بلغز أن الجيش الأردني جيش صغير عظيم برغم أن قائده بريطاني فرنجي غريب.
إنه شيء عادي أن يهرع إلى الجهاد فلاحو فلسطين مسلحين. من أين البارودة؟ «والله يا بك بعنا مباريم (أساور) المرأة وبعنا الدابة.»
هذا المقاتل الذي خدع الموت عشرات المرات - أو مئات - واستبدل دمه مرات، وهزم، وانهزم، هو موقن مؤمن أن البطولة هي بعض الدم الذي يجري في عروق أبناء أمته. وإن النبل والتضحية والمروءة تغلف نفوسهم، وإنهم في كل هذا يفوقون أمم الدنيا قاطبة. لقد غامر بروحه وأرواح ألوف من مواطنيه على أساس هذا الإيمان، وهذا الإيمان بأبناء أمته ترسخ وتجاوب بينه وبينهم؛ فهو الثائر الوحيد - على ما أعلم - الذي انضم إلى ثوراته مرة بعد مرة مجاهدون من كل طوائف الأمة ومناطقها وطبقاتها، وإن هؤلاء ما خاطروا بأرواحهم إلا بعد أن جاءت التجارب تثبت أن قائدهم يستحق هذه الثقة. تعرفت إلى كل هذا من الرسائل الكثيرة التي في حقائبه، ومن قصاصات صحف تعد بالمئات، ومن صور بهتت على كر السنين كما امحت من المخيلات ذكرى تضحياتها، ومن جداول بأسماء من انتدبوا نفوسهم للجهاد والبطولة.
ولقد أعلنت الحرب العالمية الأولى وأبناء أمتنا يتهربون من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، فصار لهم صيت أنهم جبناء ، ولسبب ما - لعله عمق التفكير - خطر في بال القائد الألماني «تلر»؛ فهيأ ثلاثة أفواج من الفلسطينيين في جبهة بئر سبع، وكانت الجيوش البريطانية قد اقتحمت جنوب بلادنا، وحاصرت الجيش التركي في غزة، فما كان من الأفواج الفلسطينية الثلاثة - وضباطها ألمان - إلا أن اقتحمت غزة ومزقت عنها الحصار.
وفي الحرب العالمية الأولى، وصل إلى القفقاز الفيلق الثاني عشر من العراق، وقد جاء العراقيون بملابسهم الصيفية، وحاربوا الروس بين ثلوج القفقاز والقرص وأردهان، وأنقذوا الجيش التركي من كارثة هزيمة. أقتصر على هذين المثلين اللذين سمعتهما من صاحب هذه السيرة، فالمذكرات نفسها تكشف عن نفسية الصراع والبطولة الكامنة في شعبنا. ولقد ذكر القائد الألماني «فون كريس» في معرض المفاضلة بيننا وبين الأتراك أن شجاعة جنودنا لم يشهد أروع منها، وجندينا يمتاز بالذكاء حتى لكأنه يقرأ أفكار القائد من غير أن يستمع لأوامره. أما التركي فهو صلب عنيد يصعب زحزحته من مكانه، ولكنه إن غادر متراسه سيطرت عليه الفوضى، واختلط عليه الأمر؛ إذ إنه يعوزه الذكاء الذي يزخر في عقول مواطنينا.
وصاحب هذه المذكرات يصنف مواطنيه، ويفهم متى يكون أحدهم في الجبهة جريئا، ومتى يكون جبانا.
العراقي بركان يهدأ ويثور، ولكنه قد يخمد فجأة.
البدوي رجل كسب وغنائم، لا يفهم القومية. إنه نفعي يريد أن يستغل من غير أن يغامر، وهو لا يؤمن بأحد ولا يتعرف إليك، ولا يعترف بقوتك حتى يراك ويلمسك، ولا يحالف إلا حين يتحقق أو يتوقع النصر لك، ولا يقاتل إلا حين يصبح في مأزق، فيمسي حينئذ شرسا بطاشا شجاعا كهرة برية مطوقة. والبدوي على أروعه حين يحارب من أجل غنيمة، وشجاعته متأرجحة.
الدروز؟ إنهم شجعان، وهم قسمان: دروز حوران (الجبل)، ودروز الشوف، لبنان؛ فأما في النخوة والبأس فهم متساوون، غير أن الشوفيين متحضرون، فهم أشد طاعة وانضباطا، وليس في أكثرهم شهوة الكسب، وأما بنو جبل حوران ففيهم الكثير من صفات البداوة، وهم غير منضبطين. والدروز يكونون على أتم بطولتهم حين يكونون جماعة سرايا؛ لأن الواحد إذ ذاك يحفز به إلى الأقدام أن رفقاءه سيتغنون به في المجالس، ويصده عن الجبن خشية من الخزي في عيون بني قومه إن نقلت عنه أنباء معيبة.
Неизвестная страница