يوم طوقنا القصر الجمهوري في الفلبين
رامز صعب
لبنانيان في استقبال الفاتحين
صديقي الحميم ماك آرثر ...
غريب بلا بسطبورزو
زلزال الفلبين
يا شهيد المالكية
طوربي
في المرحوم الأستاذ بولس الخولي
وانبلج الفجر!
Неизвестная страница
طنبرجي وبغل
نجية وانفلتت
إلى صلاح لبكي
مقدمة لمذكرات فوزي القاوقجي
أشيائي المفقودة والمردودة
معاقل سوف ننسفها
إلى سعادة
سنة 1952: قطع طفت منها على الزمن
من مغترب عاد للبنان
سفري إلى الفلبين
Неизвестная страница
كلمات هزتني
يوم طوقنا القصر الجمهوري في الفلبين
رامز صعب
لبنانيان في استقبال الفاتحين
صديقي الحميم ماك آرثر ...
غريب بلا بسطبورزو
زلزال الفلبين
يا شهيد المالكية
طوربي
في المرحوم الأستاذ بولس الخولي
Неизвестная страница
وانبلج الفجر!
طنبرجي وبغل
نجية وانفلتت
إلى صلاح لبكي
مقدمة لمذكرات فوزي القاوقجي
أشيائي المفقودة والمردودة
معاقل سوف ننسفها
إلى سعادة
سنة 1952: قطع طفت منها على الزمن
من مغترب عاد للبنان
Неизвестная страница
سفري إلى الفلبين
كلمات هزتني
غدا نقفل المدينة
غدا نقفل المدينة
تأليف
سعيد تقي الدين
يوم طوقنا القصر الجمهوري في الفلبين
وقابلنا الرئيس «روهس» بالقميص والكلسون
بين أوراق رئيس الجمهورية اللبنانية عشرات تلغرافات تبادلتها وإياه يوم كان رئيسا للوفد اللبناني لدى منظمة الأمم في الدورة التي سلخوا فيها فلسطين عن بلادنا. هذه البرقيات تبادلتها معه في شهر تشرين الثاني 1947، وقد كنت سنتئذ في «مانيلا» عاصمة الفلبين.
إني فخور بهذه البرقيات، ويشوقني أن تنقش على قبري، وتتلى في حفلة رثائي، هذا إن كان من المقدر علي أن أصاب بنكبتين: الموت والحفلة الرثائية.
Неизвестная страница
ولكن القصة لا تبدأ هنا، إنها تبدأ في بيت المرحوم كامل حمادة، وقد جلسنا إلى طاولته، وانبسطت على الطاولة صينية كبة. وصينية الكبة في الفلبين أندر من «الكافيار» في خيام اللاجئين. والسيدة وديعة حمادة - زوجة كامل - لا تعدها إلا للأصدقاء الغالين. كان منهم «طام نجار» السوري الأميركي، رابعنا على الطاولة. وفيما نحن نتغنى بما نرى وننشق، رن التليفون؛ فنهضت على عادتها السيدة وديعة لتجيب، والتفتت بنا وقالت: «من نيويورك!» وبعد لحظة سألتني: من هي أدال أرسلان؟ قلت: «لا أدري.» قالت: «لعلها مقطوعة في نيويورك، وتريد القدوم إلى الفلبين.» وبدأت المحادثة على التليفون، وكان في صوت السيدة وديعة نزق، فهرعت إلى التليفون، وتناولت الحديث عنها. قلت: «من المتكلم؟» أجاب: «عادل أرسلان.» أجبت: «أنا سعيد تقي الدين.» قال: «أطمنك إلى إخوتك.»
المغتربون - أكثرهم - هم أبدا في سكرة عاطفية من شوق وحنين، وقد زادني نشوة سمعي «أطمنك إلى»؛ ذلك أن عمي أمين تقي الدين الذي هذبني في الأدب كان يغيظه مني أن أكتب «أطمنك عن!» «أطمنك إلى» هي اللغة الصحيحة، ومرة أصلح خطئي بصفعة شديدة!
وفيما أنا في نشوة الذكريات سمعت من عادل أرسلان أن منظمة الأمم المتحدة ستصوت على التقسيم، وأنه يرجح أن تصوت الفلبين مع أميركا ضدنا، وأنه من واجبنا أن نسعى لكسب صوت «الجنرال رومولو» مندوب الفلبين، خصوصا وهو شخصية عالمية، وأن الحالة حرجة. سألته: وإن فشلنا؟ أجاب: سنخوض الحرب! لفظة الحرب من عادل أرسلان سجلت في أذني دويا أصيلا، لم تكن لفظة فارغة، رجعت إلى الطاولة منفعلا، ورويت الحديث الذي سمعته.
قال طام «توماس» نجار، وهو وليد أميركا: «لا بأس أن أخذ اليهود فلسطين، هكذا نتخلص منهم في أميركا، وأي شأن لنا نحن مع العرب؟!»
وانفجرت في محاضرة.
السيدة وديعة حمادة هي من عائلة هاشم في كفر شيما، عمر ابنها الكبير ستون سنة، أشهد أني لم أر في حياتي عينين يلمع فيهما العزم والصبا مثل عينيها، ولا جنديا استقامت قامته كما استقامت قامتها، ولقد ثارت ثورتها؛ فهرعت تتلفن «إلى مانولين». ومانولين هذا هو اسم التحبب تدعو به «مانويل روهس» رئيس الجمهورية الفلبينية. مانولين ربي في دار السيدة وديعة، وكان يدعوها «أمي» باللفظة العربية. وفي عشاء عيد الميلاد كان يأتي لتناول الطعام على مائدة كامل حمادة، وقد كنت أجالسه مع الصديق سعد الدين الجارودي، المزارع في صور اليوم.
قالت وسماعة التلفيون على أذنها: «هل من بأس إن قابلتموه غدا؟»
أجبت: «بل هذه الليلة.»
وانطلقت والصديق كامل حمادة، وكان كامل صامتا متجهم الوجه شأنه في الأزمات النفسية.
ودخلنا على رئيس الجمهورية، فاستقبلنا فخامته بالقميص التحتانية وبالكلسون. القليلون الذين يزورونني في بيتي أستقبلهم بالقميص والكلسون، وإن أبدى أحدهم استهجانا أقول: هكذا استقبلني فخامة رئيس الجمهورية الفلبينية وعدد رعاياها 22 مليونا من البشر.
Неизвестная страница
كان الرئيس روهس جاهلا كل شيء عن فلسطين وعن اليهود؛ فراح يستفهم، ورحت أفهمه وأنا غير فاهم، ولكن روهس- ككل أبناء الفلبين - رجل عاطفي، وله حادثة شهيرة في الكونغرس الأميركي؛ إذ وقف يخطب مطالبا باستقلال بلاده وبكى. لم أكن متصنعا حين اختصرت له الحركة الصهيونية العدوانية، وفي ذروة الكلام بكيت أيضا. لم يعد بشيء، ولكني حين قلت له: إن مندوبنا في منظمة الأمم يعتقد أن رومولو سيقترع ضدنا أجاب: «هذا مستحيل التصور
This is unthinkable .»
وانصرفنا وكأنه لمح بي ريبة، فردد العبارة:
This is unthinkable .
وتواعدنا على أن نعود إلى مكتبة في الصباح التالي الساعة العاشرة، فنجتمع إلى وزير الخارجية.
وفي طريقنا إلى البيت مررت بمكتب البرقيات، فأرسلت تلغرافا مطولا إلى عمر حليق في مكتب الشئون العربية الأميركية في نيويورك أطلب إليه أن يبرق باختصار الحجج التي في صالحنا، وكنت واثقا أني أجد الجواب في الصباح؛ لأن بين مانيلا ونيويورك 12 ساعة فرقا بالوقت.
ونمنا تلك الليلة ونامت صينية الكبة في البراد.
وفي الصباح، وجدت على طاولتي في مكتبي جواب عمر حليق وبرقية مطولة موقعة باسم كميل نمر شمعون يطلب مني ما طلبه عادل أرسلان. وجهت هذه البرقية إلي لأني كنت قنصل لبنان الفخري في الفلبين. ذكرني أن أحدثك من حياتي كممثل ديبلوماسي، وكيف كنت أنثر الباسبورتات اللبنانية على كل «مقطوع» يتكلم العربية، منها تسعة باسبورتات للاجئين من ثوار إندونيسيا، ومنها نصف دزينة لعائلة «ميرو أسعد»، وهم سوريون من أنطاكية. على طريق فرن الشباك قامت بناية لآل أسعد كلفتهم سبعماية ألف ليرة، وقد حضرت أعراس سليم، وأنطون، وفيلكس أسعد على ثلاث فتيات من لبنان. الحق على شارل مالك، هو الذي أصر على أن أصبح قنصلا، والقوانين الدولية التي لم أعرفها، اخترعتها.
حاصله ...
ذهبنا الساعة العاشرة إلى مكتب رئاسة الجمهورية، وكان فخامته بالكلسون، ولكن كان فوق الكلسون بنطلون، وكان وقار الرئاسة يسود الغرفة هناك، وبين يديه «ملف «فلسطين»، قرأ منه أن ليس هناك اتفاق بين الفلبين وأميركا على شيء، بل كل ما هنالك تبادل رسائل تقول: إن المسألة الفلسطينية ستثار في منظمة الأمم، وإنه يحسن التشاور بين الدولتين حين تفتح الدورة.
Неизвестная страница
وراح الرئيس يستفهم عن فلسطين، وكنت متسلحا بالمعلومات التي تلقيتها من عمر.
وفي حضورنا أرسل تلغرافا إلى الجنرال رومولو - أصبح فيما بعد رئيسا لمنظمة الأمم - يطلب منه استعراضا للموقف، ولكن كلمات التلغراف صيغت بشكل يستنفر الموالاة لقضيتنا، وأذكر أن عبارة «ثلاثمائة ألف كاثوليكي في فلسطين» كانت من صوغي.
ولما خرجنا لحق بنا وزير الخارجية «البيديو كيرينو» الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية الفلبينية. وكيرينو هذا كان لي صديقا؛ إذ كنا نجتمع أيام الحرب على طاولة بوكر في بيت الصديق فيليب شاوي، وهو أخو مدام رجا كساب صاحب المحل على باب إدريس.
أذكر صحن بوكر عظيم في «المكشوفة» أمامي أصان، وعشرتان ظاهرتان، وأمامه خمستان مكشوفتان، وقد نظفني حين ظهرت الخمسة الثالثة المستورة.
قال وزير الخارجية مداعبا: «الموقف في صالحكم، ولكن اذكر أن في الحياة دائما ورقة مستورة، حذار الخمسة الثالثة.»
وفي بعد ظهر ذلك اليوم، واتقاء للورقة المستورة، اتخذت احتياطات من شأنها أن تطلعني على نسخة كل برقية صادرة عن مانيلا أو واردة إليها في شأن التصويت على قضية فلسطين، ولم تكن هذه التلغرافات بالشيفرة. وإني أسجل أن الرئيس روهس كان صادقا في كل ما حدثنا به كما أثبتت نسخ التلغرافات التي كانت في يدي أحيانا قبل أن تكون في يد روهس. وجاء تلغراف رومولو يقول أن ليس بينه وبين اليهود أو ممثلي الدول العربية أي ارتباط، وأن الأميركان لم يباحثوه في الموضوع بشكل حاسم، وأن الفلبين تقدر أن تصوت مع اليهود أو ضدهم، وأنه يرى أن التصويت لصالح اليهود أوفق مجاراة للرأي العام العالمي، وأنه على كل حال ينتظر تعليمات حكومته لاتخاذ الموقف الحاسم.
ورد روهس بواسطة كيرينو على رومولو ببرقية جاء فيها أن الفلبين، وهي دولة شعبها كاثوليكي، وهي أمة جاهدت من أجل استقلالها، وسبق لها أن قاومت في الماضي مشروع تقسيم اقترحه أحد النواب الأميركيين لشطر إحدى جزرها حيث - الأكثرية محمدية - لا يسعها أمام الله والتاريخ إلا أن تعارض بتمزيق بلاد ثانية.
وفي تلك الليلة بطشنا بصينية كبة في دار كامل حمادة.
وكنت في كل يوم أبعث بتلغرافين على الأقل بالحروف الإفرنجية واللغة العربية؛ لأنه لم نتفق على شيفرة بسبب مفاجأتنا بخبر التقسيم. وكنت أنهي البرقيات ب «قلوبنا تواكبكم». كانت نسخة ترسل إلى الأستاذ شمعون، وثانية للأمير عادل، وكنت أبتهج أن شركة التلغراف تحسب اللغة العربية شيفرة فتتقاضى أربعة أضعاف عن اللغة العادية.
أذكر أن أطول تلغراف عدد كلماته 784؛ ففي كل يوم كنت أوافي نيويورك بالأخبار والتطورات، وفي الليل - بسبب فرق الوقت - أتلفن إلى القنصلية اللبنانية أو السورية، فأتكلم مع شمعون أو أرسلان مستطمنا، وفي بعض الأحيان لا أجدهما.
Неизвестная страница
هكذا تعرفت إلى قنصلنا في أميركا إدوار غرة حين رد علي ذات مرة، قلت: «إدوار غرة؟ من أين في لبنان؟» أجاب: «من زحلة، أجلك الله!» قلت: «لا أصدق! هات البرهان.» فراح يحدو: «... وشرب العرق عادتنا.» ومرة طلع بوجهي في إحدى القنصليتين موظف جديد طفق يحاضر في واجبات المهاجرين نحو السعي للانتصار لقضية فلسطين.
فأقفلت التليفون، وأعتقد أن الأخ الفصيح لا يزال يتكلم حتى هذه الساعة.
كانت أياما وليالي محمومة سجلت خلالها العبارة التي بدأت تظهر اليوم في الصحف: «كل مواطن خفير.» أي يهود؟ أي تقسيم؟ نحن في الفلبين خمسة عشر مغتربا، ربحنا صوت دولة، فكيف يكون شأننا في البرازيل والأرجنتين والمكسيك حيث منا مئات ألوف المواطنين؟
وفي صباح يوم تسلمت تلغرافين من كميل نمر شمعون وعادل أرسلان، فيهما تهنئة حارة، وانبسط على صفحات جرائد مانيلا الأولى نص خطاب رائع لكارلوس رومولو - وهو من خطباء الدنيا المعدودين - هاجم فيه التقسيم، وانتصر لقضيتنا.
يومان مرا بي كنت خلالهما أشعر أني أقوى من ذلك الذي يطأ الأرض مترفها من تيهه، فلقد كنت أمشي من غير أن أطأ الأرض.
ولكن الأرض انخسفت بي حين قرأت تلغرافا جديدا بتوقيع شمعون يخبرني فيه أن رومولو أبدل بمندوب ثان (نسيت اسمه، وأرجح أن اسمه الأول طوماس، فلنسمه طوماس)، وذلك تمهيدا لتعكس الفلبين موقفها من التقسيم، وأن حالتنا في منظمة الأمم خطرة، وأن التصويت تأجل.
وهرعت إلى من كان يزودني بنسخ البرقيات؛ فقلب شفته، وحك قفاه وبصق، وكانت هذه عادته في ساعات الخيبة. وقال: «إن الحكومة انتقلت إلى المصيف في «باغيو»، وهي مدينة جبلية تبعد أكثر من ثلاثماية كيلومتر عن مانيلا، وأصبحت المخابرات في يد الجيش، والولدنة مع الجيش، ومخابراته خيانة تعاقب بأحكام مختلفة أخفها الإعدام، وقلب شفته، وحك قفاه وبصق، وشاركته في كل ما فعل.
إنني كنت أعرف جيدا من هو طوماس المندوب الجديد للفلبين، إنه أكبر عدو لجاليتنا في الفلبين، وقد أصدر منشورا فور عودة الأميركان، بعد طرد اليابانيين، يتهمنا بأننا خونة، وبأننا تعاونا مع اليابانيين أيام الاحتلال، وسبب عدائه لنا أن أولاد أسعد اشتروا من قريبة له شريرة قطعة أرض إبان الحرب بثلاثين ألف دولار، ادعى طوماس أنها تساوي ربع مليون، ونشبت الدعاوى، وراح هو، وراحت قريبته تهدد بقتل أولاد أسعد، وقد جرت محاولة للفتك بأحدهم؛ يعقوب.
واجتمعت إلى الصديق المرحوم كامل حمادة وإلى أحد أولاد أسعد - نسيت أيهم - واتفقنا أن يتنازلوا عن حقوقهم في قطعة الأرض إن أيد طوماس موقفنا في قضية فلسطين. ووجدنا أن في يدنا ورقة ثانية - الخمسة المستورة - وهي أن طوماس انتخب عن دائرة جزيرة «إيلويلو»، وهناك مواطن لنا من بشراي اسمه الدكتور فرمين كرم، لا يستطيع طوماس أن يظفر بالنيابة من غير تأييده، وأرسلنا التلغرافات للدكتور كرم وإلى الأصدقاء في جزيرتي «إيلويلو»، و«نغروس» مفتشين عن فرمين كرم ليتلفن إلى صديقه وحليفه في منظمة الأمم. واتفقنا على دفع أي مبلغ إضافي قد يطلب منا. كنا في سنة 1947 والمال عبارة عن تسطير «شك» إذ كنا في بحبوحة بحيث إن سقطت من أحدنا ورقة المائة ريال لخجل أن ينحني لالتقاطها، وكنا في حمى القتال من أجل فلسطين.
وركبت سيارتي منطلقا إلى «باغيو». كانت سيارتي عامئذ من مخلفات الجيش، وهي ال
Неизвестная страница
Command Car
تشعر فيها أنك مستو على برج فوق بالوعة بنزين، وكانت طرقات الفلبين بسبب الحروب والإهمال خلال أربعة أعوام تكاد تشبه أكثر شوارع بيروت. وفيما نحن في منتصف الطريق سمعت طقة حجر، ولكننا تابعنا حتى وقفت السيارة فجأة؛ لأن الحجر كان قد أصاب خزان البنزين، وهو منخفض يكاد يلمس الأرض؛ فتسرب البنزين.
تطيرت من الحادثة، وتأخر وصولي إلى «باغيو» بسببها إلى فجر اليوم التالي؛ إذ قرعت باب صديقي مخيبر كيروز.
وفي باكر الصباح أرسلت باقة من الزهر إلى البيت الجمهوري، وعند التاسعة استأذنت بزيارة الرئيس.
وتوجهت إليه فإذا هو خارج بيته يتمشى، وحوله زوجته - بادرت إلى شكري على باقة الزهور - وابنته وهم يلاعبون كلبهم.
أريد أن أثبت هنا أن موقف رئيس جمهورية الفلبين كان سببه صداقته مع كامل حمادة وزوجته لا صداقته معي.
من السهل تشويه الأمور وتزويرها؛ فكامل حمادة ميت، وزوجته لن يسمع بها أحد هنا في بلادنا، ولكن الصدق يقضي بأن أسجل أن الأهمية كانت لهما، ولم أساهم أنا إلا بالنشاط.
وأقبلت على عائلة روهس؛ فبش بي الرئيس كثيرا - أكثر من كل مرة - فتحققت أنه مؤاس لا مرحب.
أجابني أن تعليمات الحكومة لمندوبها في منظمة الأمم لم تتغير.
كلمات سمعتها، ولم أصدقها. ولكن من أين لي أن أثبت عكسها والمخابرات اللاسلكية أصبحت في يد الجيش؟
Неизвестная страница
ثم دعاني الرئيس روهس إلى داخل البيت، وقال: «انظر!»
رأيت كومة تلغرافات لا تقل عن مئات، قال الرئيس: «إن سياسييكم متبجحون؛ راحوا يملئون الدنيا تفاخرا بأن الأكثرية معهم، أين هي كياستهم التي قرأنا عنها في الكتب؟ كل هذه التلغرافات هي من يهود - منظمات وأشخاص - انصبت علي من أنحاء الدنيا. كان يشوقني أن أستلم تلغرافا واحدا من أي مواطنيكم يشكرني به على خطاب رومولو. لقد اصطدمنا مع أصدقائنا الأميركان، وأنت تعرف كم نحن في حاجة لهم بعد خراب الحرب. كان خطاب رومولو الخطاب الوحيد الذي ألقاه مندوب ضد التقسيم، عدا خطابات رجالكم بالطبع ... ولو! ما منحرز كلمة شكر؟» واستدرك: «ولكن بالطبع هذا لم يغير موقفنا، نحن لم نبدل تعليماتنا لمندوبنا.»
وعدت فتحققت أنه أبدلها بسبب ضغط أميركا، وضغط اليهود، ولحد ما لأنه لم يجد التقدير من دولنا. والغريب أيضا أنه في يوم استقلال الفلبين لم ترسل من الدول العربية تلغراف التهئنة التقليدي، إلا العراق، وكان وزير خارجيتها فاضل الجمالي.
بماذا كنا مشغولين سنة 1946حين أعلنت الفلبين استقلالها؟
وتدحرجت راجعا إلى بيت مخيبر كيروز، وقلبي مثقل بالحزن، فلما وصلته سمعت دق الكبة، وناولني مخيبر رسالة «تلتيب» من مانيلا تقول إننا خسرنا التصويت، وإن الفلبين صوتت ضدنا!
ولم أستطع الابتسام!
كانت ثاني صينية أعرضت عنها في الفلبين.
الحرب ... الحرب ... بقيت كلمة عادل أرسلان تدوي في أذني، وبعد أسابيع ثلاثة أرسلت إلى شخصية ضخمة (غير فاروق) في القاهرة أعرض مئتي ألف بارودة من مخلفات الجيش الأميركي بثمانية دولارات البارودة واصلة إلى أي مرفأ يعين، فلم أتلق جوابا. وفي طريقي إلى بيروت مررت بمصر - آذار 1948 - وسألت هذه الشخصية الضخمة: «لم أغفلت عرض الأسلحة؟» أجاب: «إن الأسلحة متوفرة لدينا، عندنا منها أكثر من الحاجة!»
وبعد أسابيع رجع «رومولو» إلى مانيلا؛ فتوجهت إليه مع الصديق كامل حمادة لنشكره؛ فأخبرنا قصة التقسيم، وكان أبدا يردد: «إنها جريمة، إنها جريمة.» ولكنني اضطررت إلى ترك نيويورك والسفر إلى لندن.
أنا لا أحفظ الأوراق والوثائق حتى ولا الكمبيالات، ولا أدري كيف استبقيت رسالة سرية بعث بها إلي صديق لي في الفلبين عن مؤتمر صحفي عقده رومولو، واستحلف مستمعيه أن يبقى سرا، وقد بقي إلى هذه الساعة، وإني لن أبوح به. وقد أهديت نسخة منه إلى «وليم ليلنثول» - الكاتب اليهودي الذي يهاجم إسرائيل - ووكلت إلى السيدة مدام أديب خرطبيل أن تسلمه الكتاب لتغيبي عن الحفلة.
Неизвестная страница
ما الفائدة من سرد هذه الحوادث؟
نحن حين نقول بإنقاذ فلسطين لا نعني النصر اليوم، أو في السنة القادمة. صراعنا مع اليهود يقاس بالأجيال لا بالسنين. وعلينا أن نسجل الآن أخطاءنا ومواطن القوة فينا، لقد أخطأنا حين افترضنا أن الفلبين هي مستعمرة أميركية ، وأن النبل في حكامها لا يستثار، وقد غفل اليهود عن استمالتهم إلى جهتهم توهما منهم أنهم ألعوبة في يد الأميركان. وقد أجرمنا حين قتلنا الثقة في نفوس شعبنا، ومنهم المهاجرون، وأخطأنا حين توهمنا أن من واجب الأغراب أن ينتصروا لنا من غير أن نتودد إليهم حتى بكياسات اجتماعية.
وذلك الصديق الذي ائتمنني على سر، وهو اليوم من كبار موظفي الحكومة الفلبينية، هل أنا أخونه حين أسلم رسالته للكاتب؟
نحن اليوم نسجل تاريخا نستعين به، أو يستعين به أولادنا، أو أحفادنا في الصراع مع اليهود. أية أهمية للفتك بصديق في سبيل قضية كبرى؟ هذه الخشونة في الروح تتغلغل فيك حين أنت تنتظم في حركة.
أذكر لحظة وقف فيها قلبي؛ إذ ظننت أن سعيد فريحة كاد يقع في هوة المصعد قبل أن تكتمل بناية العسيلي. أما اليوم فلو أن انتصار القضية الكبرى يقتضي أن أدفش سعيد فريحة إلى هوة المصعد لفعلت. وقد ألتقي بعد ذلك بسكرتير تحرير الصياد، أنطون متري، فأسأله: «سعيد، كيف صحته؟»
حين ودعت «كيرينو» راجعا إلى بلادي سألته: «هل من وصية؟» أجاب: «لا! إنها نصيحتي أن تحسب أبدا حسابا للورقة المستورة، الخمسة الثالثة تقلب الموقف حين تنقلب!»
رامز صعب
هل أنقذت حياته القنبلة الذرية؟
تبدأ هذه القصة بعد أن هدمت إحدى طائرات الأميركان الدير الذي التجأ إليه نحو من مئتي أجنبي في مدينة جبلية في الفلبين تدعى «باغيو»، وكان من اللاجئين أصدقاء لبنانيون ثلاثة: حسني الحلبي البيروتي، ومخيبر كيروز البشراني، والكاتب وعائلاتهم.
وكان السبب المباشر لضرب الدير أن اليابانيين كثيرا ما كانوا يخبئون الأسلحة والذخائر في الكنائس، والأديرة، والمدارس، والمستشفيات. ويبدأ هذا الفصل بعد احتراق الدير: ... وفي أواخر الليل مزق أذني صراخ نساء ثلاث؛ زوجتي، وزوجة مخيبر كيروز، وزوجة الإسبنيولي سلسمندي؛ فأفقت أسأل: ما الخبر؟! وأشعل مخيبر الشمعة التي إلى جانبه، وتبين لنا أن إحدى السيدات حلمت بالطائرات تضربنا فذعرت، وساهمتها بالخوف رفيقتاها. وهدأ روعهن حالا؛ لأننا تعلمنا من رفاقنا الأطباء أن أسرع الوسائل لتهدئة من تصيبه الهستيريا هي صفعة على الخد، وقد عقد الرجال منا ميثاقا فيما بينهم، وفوض بعضهم بعضا أن يصفعوا خد أية زوجة عند الأزمة، علاج أسرفنا في وصفه والتداوي به في كثير من الأحيان.
Неизвестная страница
وجثمنا في ذلك الكوخ نرتجف من البرد، ومن الرعب؛ إذ نذكر حوادث اليوم الفائت في جوار الدير المحترق الذي حسبناه ملجأ أمينا، ومرت أمام عيني من جديد لوحاته الكئيبة: طائرة تحوم فوق الدير تقذفه بالرصاص، وفتى إسبنيولي قتيل في باحة الدير لم يجسر على الدنو منه إلا أمه التي ركعت إلى جانبه تهز قبضتها صوب الطائرة القاتلة، وراهبات يطفن بهدوء يعالجن الجرحى، وغابت الطائرة؛ فإذا بالدير يطير في الفضاء نارا ودخانا، وإذا بأكثرنا - وأنا منهم - نهجم نحو المخزن محاولين تخليص مئونتنا، ونتخطى في ركضنا جثتي راهبتين اعترضتا طريقنا؛ إذ إن أحشاء إحداهما تجمعت على البلاط، وشظايا رأس الثانية التصقت بالحيطان.
كل هذه الصور امتثلت أمام عيني، ودوى في أذني أزيز الطائرة، وقرقعة رصاصها، فنزلت بي الرهبة التي طالما شلت مشاعري خلال شهور أربعة رأيت فيها الموت كل يوم، وفي بعض الأحيان مرات كل يوم.
قد يكون من حظي أن أعصابي بطيئة التجاوب في ساعة الخطر، تراني هادئا غير مرتعب في وسعي أن أدعي الجرأة، غير أنه بعد أن تمر بي الحادثة بساعات ينهل علي الخوف دفعة واحدة، فأصاب بما يشبه الشلل.
في ذلك الكوخ الحقير بين ضجيج الأولاد والنساء وصيحات مخيبر كيروز العنترية كنت في شبه غيبوبة؛ لذلك لم أشترك في القرار الذي اتخذوه، وهو الابتعاد عن الدير والمدينة والفرار إلى البراري.
وللمرة الثالثة بعد ابتداء هجوم الطائرات المنتظم حملنا ما نقدر عليه من الأدوية والمآكل، وسرنا نحو البرية غير قاصدين إلى مكان معين.
وحين طلعت الشمس وجدنا أنفسنا على بعد كيلومترين من المدينة في سهل بين جبلين، قافلة ملونة من رجال ينوءون تحت أحمالهم، ونساء يحملن السلال ويرتدين المعاطف الملونة، وأولاد في ألوان الفراشات التي بدءوا يطاردونها حين حميت الشمس. وأرجع النور الأمل إلى نفوسنا والدفء إلى أجسادنا وأرواحنا ، ورجعنا إلى الدعابة؛ فتطلع مخيبر إلى ماء يجري بين الأشجار المنتصبة في مضيق الجبل إلى يسارنا، فقال: «ما رأيكم لو «صلينا دبق» في هذه الأغصان ودققنا كبة على هذه البلاطة؟»
وقبل أن يسمع مخيبر الجواب لاح ظل على الأرض مخيف، وتفجر فجأة صوت محرك، فرأينا في الجو إحدى الطائرات، تلك المزدوجة الجسم، من معامل «الأكهيد»؛ ذلك أن من بعض حيل الطيارين أن يوقفوا المحرك فوق الغيوم؛ فتهبط الطائرة صامتة كي يفاجأ بها العدو، وعندما تدنو من الأرض يتحرك الموتور، وتنفذ الطائرة رسالتها التدميرية.
ودارت الطائرة في دائرة مبتعدة عنا، ثم رجعت نحونا. قلت في نفسي: هذه المرة ستفتك بنا بدون ريب؛ فنحن في سهل لا مكان فيه نختبئ، وتعالت الصيحات، ثم دارت الطائرة مرة ثانية، وإذا بذراع تمتد منها ملوحة لنا، ودارت مرة أخيرة، والذراع تلوح. في يقيني أن ألوان المعاطف أقنعت الطيار ورفاقه بأننا سكان مدنيون لا جنود.
ومشينا متثاقلين نحو المضيق حيث الأشجار والماء، وحيث أراد مخيبر أن يصلي الدبق ويدق الكبة، وانحنينا بالشفاه نعب من الماء، يقولون إن الجريح يتطلب الماء، وأزيد: أن الخائف كذلك.
وبعد أن سلقنا الرز، واستسغناه ترويقة فاخرة، انطلق مخيبر - وهو ربيب الجبال - يتكلم بطلاقة لغة القبيلة التي تسكنها ليختار لنا مأوى نلجأ إليه، ثم عاد عند العشية يبشرنا بأنه وقع على كوخ لصديق له كان شريكه في تجارة الخشب فيما مضى، عندما كان مخيبر يقدم الجسور الخشبية للحكومة، ويقتطعها صديقه من الحرج الذي يملكه.
Неизвестная страница
واستأنفت قافلتنا المسير نحو كوخ جديد، وملجأ جديد، وفي تلك الليلة بتنا - وعددنا نحو من أربعين - متمددين على أرض الكوخ المبني من القصب المحبوك.
وفي صباح اليوم الثاني اقتسمنا الأعمال؛ فتولى حسني الحلبي بناء الملجأ؛ لأنه كان يدعي أنه خبيرنا العسكري؛ فضرب بالمعول ضربات ثلاث استراح بعدها، وترك لرجال القبيلة إنهاء الملجأ، ورجعت ومخيبر كيروز إلى المدينة مع رجلين، واحتملنا من أغراضنا ما سلم من الحريق والسرقة، وكان أثمن ما احتملنا أربعة صناديق من الويسكي.
هذه الصناديق كانت هدية أعطانيها إيليا الأخرس - من حمص - وهو أعز من صادقت في هجرتي؛ فحين افترقنا في مانيلا قبيل بدء المعارك بين الأميركيين العائدين لاكتساح الفلبين، وبين اليابانيين المحتلين المدافعين، ودعني إيليا بقوله: «من يدري إن كنا سنجتمع على هذه الأرض مرة ثانية. أهديك هذه الصناديق من الويسكي، حذار أن تمسها إلا خلال المعارك والمخاوف.»
ولبثنا زهاء عشرين يوما في حياة شبه منتظمة؛ إذ كنا ننهض في الصباح الباكر فنسلق شيئا من الرز والبطاطا البرية فنزدردها. ثم نجتمع نحن الثلاثة؛ أنا وحسني الحلبي، ومخيبر كيروز، حول قنينة ويسكي - الساعة السابعة صباحا - بين أشجار الصنوبر على حجر كبير، فيتغير اسم المكان بتغير الشخص القاعد على الحجر الكبير؛ فالمجلس هو إما «صالون مخيبر»، أو «مقعد الشيخ»، أو «مكتب حسني». وفي نحو الساعة التاسعة تفرغ القنينة، ويمتلئ الجو بأزيز الطائرات التي يتراوح عددها بين الثلاثة والأربعة والعشرين؛ فيدخل الملجأ الأولاد ثم النساء، ثم أنا وحسني، ويبقى مخيبر خارجا ملاحظا حركة الطائرات، ولا يهرع إلى الملجأ إلا حين يكون الضرب على بعد مئات الأمتار منا، أو حين تمر الطائرات فوق رءوسنا.
وكانت الطائرات تبيض قنابلها كل يوم على مسافات تتراوح في البعد منا بين الكيلومتر والثلاثة، وفي كثير من الأحيان نجد أن الشظايا اخترقت حيطان الكوخ، أو دفنت في سطح الملجأ، ثم راحت الأخبار تتسرب إلينا عن أصدقاء ومعارف لنا قتلوا أو جرحوا، ودرسنا الحالة فلم نجد مكانا يفوق سواه بالأمن أو الخطر فلبثنا حيث نحن، ولعل سبب اطمئناننا على الرغم من تفجر القنابل حولنا كل يوم أننا في مكان مشجر، على شفا شير مشرف على مدرسة زراعية دمرتها الطائرات في أول زيارة، فقلنا لن تعود إلى ضرب منطقة ضربتها وإلى تدمير مكان دمرته.
هكذا استمرت الحياة أسابيع، أصبح الرعب والخوف والدمار والقتل من عادياتها ومألوفاتها. وكنا خلال ذلك قد نفذت نقودنا، وارتفع سعر البطاطا بحيث ساوى الكيلو نحوا من عشر دولارات؛ فأخذنا نبيع ألبستنا وحاجاتنا، وعشنا نحن الثلاثة حسني ومخيبر وأنا حياة اشتراكية نقتسم وعيالنا النقود والمئونة. أذكر يوما ظفرنا بجدي من الماعز التهمناه عشاء فاخرا، وكان ذلك الجدي مبادلة على جزمة صيد ملكها حسني، واليوم إن سألت سكان باغيو ما هو أفخر طعام في الدنيا أجابوك: «جزمة صيد.»
كنا نستبدل حاجياتنا بما نأكله غير حاسبين أن في الأمر مأساة؛ إذ لم يمر بنا يوم شككنا فيه بفوز أميركا، وبأنه في نهاية الأمر سيرتفع عنا نير اليابانيين، وأن هذه الأثواب والحاجيات أمور تافهة، غير أن الأمر لم يخل من مأساة. ذات يوم وجدت في البيت كيسين من الرز، وتطلعت إلى زوجتي فإذا الفاجعة في وجهها، وبعد تحر واستجواب فهمت أنها استبدلت بخاتم الخطبة كيسين من الرز.
لقد مرت بنا فواجع كثيرة؛ ضيق انقلب نعمة، خمول ذكر استحال في بعض الأحيان إلى ما قد تتوهمه مجدا. لقد محت الأفراح أكثر ما نزل بنا من آلام، ولكن السنين لم تمح عن وجه زوجتي بعض المصائب، ومنها أنها باعت خاتم خطبتها.
نسيت أن أخبرك أن القبيلة التي عشنا بينها لا تستطيب من اللحم إلا لحم الكلاب.
وفاتني أن أخبرك أنني تثبت من صدق نظرية صديقي بشارة «أبو أنطوان» الجريديني من الشويفات؛ إذ كان يعظني: «يا ابني! التجارة لا تموت، الرجال تموت.» فتحت ضرب القنابل ازدهرت تجارة البيع والشراء، ومن حسن حظنا أن مخيبر كيروز تعاطى الاتجار بالبقر فكان حينا بعد حين يبيع ويشتري ويقايض ويذبح، وفي كل مرة نلتهم أرباحه معلاقا، أو قصبة سوداء، أو كتف عجل.
Неизвестная страница
وفي ذات يوم انزوى مخيبر بصحن تعالى فيه اللحم والرز المسلوق، فدعاني إلى مشاركته ففعلت، وبينما أنا منصرف سألني مخيبر: «سعيد! هل سبق لك أن أكلت لحم كلاب؟»
قلت: «لا، معاذ الله.»
أجاب مخيبر: «أنت غلطان يا ابن عمي، غلطان.» وقهقه ضاحكا متطلعا إلى الصحن الذي شاركته بالتهامه.
قد يعتقد قارئ هذه السطور أن حياتنا كانت مرحا ودعابا. هذا صحيح؛ فلم يمر بنا يوم لم نواجه به الموت، كذلك لم يمر بنا يوم لم نملأه ضحكا وسخرية وقهقهة.
وكان حسني يصر أبدا على أنه الخبير العسكري، واستنتج من ملاحظاته أن طائرة برغشية صغيرة تأتي منفردة مرتين أو ثلاثا في الأسبوع، فلا ترمي القنابل، بل تتمهل في طيرانها وتجولها على ارتفاع من الأرض قليل، وكان يعقب مجيئها قصف المدفعية، أو زيارة الطائرات المغيرة.
وفي ذات يوم جاءت تلك الطائرة فحومت فوقنا وفوق المدرسة الزراعية المهدومة ساعات وانصرفت.
وعبس حسني وتشاءم.
وفي الواقع جاءت في اليوم الثاني أربع طائرات فحومت فوق المدرسة الزراعية، وهي لا تبعد عنا أكثر من مئتي متر، وألقت بقنابل كثيرة على المدرسة وجوارها، وعند انصرافها أمطرتنا إحداها بضع ألوف من رصاصها أصاب الأشجار والكوخ، وحائط الملجأ الأمامي، ولكنه لم يصب أحدا منا.
في صباح اليوم الثاني إذ كنا في «صالون مخيبر» نوشك أن نمتص آخر نقطة من ويسكي إيليا الأخرس، سمعنا أزيز الطائرات فأسرعنا نحو الملجأ على عادتنا، وبقي مخيبر في صالونه يراقب.
ولم يمض بضع دقائق حتى كان مخيبر يرتمي بجسده الهائل على باب الملجأ، وإذا بهدير الطائرات يتفجر من داخل آذاننا. - كم طائرة يا مخيبر؟
Неизвестная страница
فلم يجب، وتطلعت إليه فإذا بوجهه - للمرة الأولى - بلون وجه الجثة، وإذا به يحاول بلع ريقه، وأعدت السؤال فلم أظفر بجواب، وإذا بجهنم تنفجر من السماء فوقنا قنابل، ورصاصا، وهدير محركات، وطائرات تعصف وتقصف، وتنقض، وتأز صعودا وهبوطا، وشظايا القنابل لها عنين وغلغلة، وأشجار الصنوبر تتقصف وترتمي، وفي الملجأ صراخ وبكاء وعويل وصلوات وشتائم.
ثم حدث ما كانوا يقولون لنا إنه يسبق الموت، فسمعنا صفير القنبلة - هذه متى سمعتها يعني أن اسمك مكتوب عليها وأنها قاصدة إليك - وعصفت بالملجأ ريح سخنة فتهدم جانبه الأيسر، وتطلعت فإذا «لودي» ابنة مخيبر - وهي في السابعة من عمرها - قد طمرها التراب إلى كتفها فبان فوق التراب رأسها، وقد تقززت عيناها، وصرخت صرخة ظننتها من غير هذه الدنيا.
وتعاونا على نبش الفتاة من التراب، فإذا هي والحمد لله سليمة.
بقينا على هذا المنوال من التاسعة صباحا إلى نحو الرابعة بعد الظهر حين صمت أزيز الطائرات.
واحتملنا أنفسنا من الملجأ إلى الخارج، فإذا بمكتب حسني شجر مقطوع، وإذا على نحو عشرين مترا منا هوة حفرتها القنبلة التي كادت تذهب بنا، وإذا الشمس كأنها مكسوفة والجو ملؤه غبار أحمر - لون تربة باغيو - وورق أبيض لا أدري من أين ثار، وإذا بالمدرسة الزراعية وما حولها تتطاير شبرا شبرا بتفجيرات متتابعة.
الظاهر أن اليابانيين عادوا فخبئوا الذخائر سرا في المدرسة المهدومة، وأن الطائرة البرغشية اكتشفت الأمر بالمنظار أو الصورة، فجاءت أربع وستون طائرة تفرش بساطا من القنابل إطارا بأربعة كيلومترات مربعة من الأرض، وكاد يطيح بنا معها. (في كتاب مقبل سأسرد كيف كان العيش بين المخاطر، من طائرات تضرب، ومدافع تقصف، وشراذم جنود يابانية مهزومة تفظع، إلى أن جاء يوم سمعنا به أن في الجبال دربا ضيقا بين الأحراج «شريك» كانت تستعمله القبائل فيما مضى، وهو يصلح أن يكون طريقا للفرار إلى المعسكر الأميركي؛ فقررنا نحن الثلاثة - حسني الحلبي، ومخيبر كيروز، وأنا - أن نهرب بعائلاتنا. وكان من الأسباب التي حدت بنا إلى هذا القرار فراغ النقود، ونفاد الزاد، والاعتماد على المقدر. كل هذا سيظهر في كتاب مقبل، أما الآن فنحن في مانيلا عاصمة الفلبين مع بضعة آلاف من الأجانب في ضيافة الجيش الأميركي.)
وعاودتني الأزمة المالية، كيف لا وعلبة السكاير ثمنها دولاران، وبرحت في مظاهر الدمار؛ فالمدينة (مانيلا) أكثرها طلول سوداء، وبرمنا بحياة الخيمة في المعسكر، وقد ذهبت عنا نشوة الفرح بالنجاة، وأبواب الرزق مقفلة، ولا أخبار عن لبنان تطمئننا عن الأهل. وأكثر أحبائنا قتلى؛ إيليا الأخرس، بشارة جريديني، عبد الله الحداد ... وسواهم كثيرون.
ويوما رجعت من المدينة إلى المعسكر أجر حذائي العسكري على أسفلت الطريق الملتهب، ودخلت الخيمة فإذا على مخدتي ورقة سمرت بدبوس لمحتها مكتوبة بالعربية، فتناولتها بلهف وقرأت فيها:
أنا رامز عبد الحليم صعب من الشويفات في الجيش الأميركي، لم أجدك في خيمتك، ولكن يهمني أن أجتمع بك، سأكون في البار الفلاني خلال الساعتين المقبلتين.
أخوك رامز
Неизвестная страница
كان رامز في دائرة من ضباط وجنود تعد نيفا وعشرين ، غير أني عرفته حالا لأول مرة حين رأيت عينيه السوداوين الكبيرتين ووجهه الأسمر.
وتصافحنا من غير أن نتكلم العربية تأدبا أمام رفاقه الذين أخذوا يصرون على أن أشرب وأشرب؛ لأن الحفلة على شرف رامز صعب وحسابه. قلت: ما الخبر؟ أجابوا: «إنه فاز بشريطة جديدة.» وتألب رفاقه عليه فانتزعوا من جيبه مرسوم الترقية، وقرأه أحدهم بصوت عال: «يرقى الشاويش رامز عبد الحليم صعب إلى رتبة باشاويش
Master Sergeant .» لأنه ورئيس دائرة التصوير الفوتوغرافي في الغرفة الفلانية اكتشفا من دراستهما لبعض الصور أن حفريات جديدة قام بها العدو حول المدرسة الزراعية في «باغيو»، وكان من نتيجة هذا الاكتشاف أن تمكن الطيران من تدمير ذخائر هائلة بقيت تتفجر ثلاثة أيام بلياليها.
وتطلعت إلى رامز وصحت: «الله يحرق دينك على دين الشويفات، هذه الشريطة كاد أن يكون ثمنها أرواحنا.»
وساد الهرج والمرج إلى أن وقف أحدهم، وقال: «من يريد أن يراهنني على أن رامز سيصبح بأقل من أسبوعين ضابطا (ليوتنان)؟» سألته: «وما الذي يحملك على هذا الاعتقاد؟» أجاب: «لأنه اكتشف مهربا في الجبال كانت تسير عليه القبائل في الزمن القديم، فأرسلنا دعاتنا نخبر المدنيين، وبعثنا بالأدلاء فتمكن من النجاة من اليابانيين مئات هربوا بواسطة هذا الدرب المهمل.»
حينئذ تطلعت إلى رامز عبد الحليم صعب، ولم ألعن دين الشويفات.
سألت رامز: «كيف عرفت بوجودي في الفلبين وأنت في الجبهة والمدينة خراب وفوضى؟» أجاب: «اسمع؛ قبل هجرتي إلى أميركا كنت أدرس في كلية القسيس طانيوس سعد في الشويفات، ومرة في حفلة مسائية جاءنا من يحسن التنويم المغناطيسي، ودعا أحد التلامذة أن يتطوع لينومه؛ فانبرى أحد التلامذة، واسمه مالك تقي الدين، وسأله المنوم: «بمن تفكر؟» أجاب مالك: «أفكر بأخي عارف تقي الدين، وهو في الفلبين.»
قال رامز: «وبقيت هذه الحادثة عالقة بذاكرتي، فلما رجعت من الجبهة سألت في المعسكر عن اسم تقي الدين فدلوني عليك.»
أمس كنت في منزل الشيخ عبد الحليم صعب أتحدث إليه وإلى السيدة زوجته أم رامز، فإذا هما في فرح، رامز سيرجع من أميركا في شهر آب بإذن الله.
متى وصل رامز بالسلامة، لا تنس أن تذكرني بأن أقص عليك حادثة «برنيطة الجنرال».
Неизвестная страница
لبنانيان في استقبال الفاتحين
في بعض الأحيان تجابهك الحياة بوقائع ترفض أن تصدقها، حقائق تظهر أمام نظرك أكبر من الجبال فتغمض عينيك، وتأبى أن تراها. أما قوي البصيرة فيستعيد بصره بعد الوهلة الأولى، ويؤمن بما يرى، ويسير على ضوئه. وأما المكابر فتسحقه واقعية الحياة فيما هو يحاول أن ينكرها. وأما الضعيف فينهزم إلى زاوية يسكر فيها بالأوهام والأحلام ناسيا منسيا. أشخاص ثلاثة ما هم بأغراب عنك تجدهم بين أصدقائك ومعارفك.
أما نحن «أولاد العرب» في «مانيلا» الفلبين، فقد طلعت علينا الحقيقة جبالا وأبراجا في أواخر كانون الأول سنة 1941، وأرعدت في آذاننا من الإذاعة المحلية والإذاعة العالمية، فأغمضنا عيوننا، وصحنا: «مستحيل.» ما هو بصحيح هذا الواقع؛ لأنه يجب أن لا يكون صحيحا.
ولكنه كان صحيحا؛ ففي 29 كانون الأول 1941 انسحبت القوات الأميركية من «مانيلا» بعد أن أتلفت مستودعاتها الحربية، وفتحت عنابرها للأهالي، فأقبلت الألوف تحمل الطحين والجلد والبرادات واللحوم، وكل ما وصلت إليه الأيدي الرشيقة.
وقد استيقظت غريزة النهب في السكان؛ فهجمت الألوف تنهب حوانيت التجار والعنابر. غريب كيف يقفز الإنسان القهقرى فيستحيل حيوانا بهيميا في الأزمات، فلقد نهبت الحوانيت وبعض البيوت في كل حي، في كل شارع، في كل جزيرة من السبعة آلاف جزيرة في الفلبين. بين 29 كانون الأول 1941 و2 كانون الثاني 1942 مرت أيام خلت فيها المدينة من النظام، وقوات الأمن؛ فالأميركيون انسحبوا، واليابانيون بقيت جيوشهم مرابطة خارج المدينة؛ لأنهم خشوا مكيدة من الأميركان، والنهب قائم في البيوت والشوارع، وحرائق ذخائر الأميركان وأخصها الزيوت مشتعلة، والسيارات ملأى بالناس والحاجيات تفر من المدينة إلى الأرياف، وسيارات بالمئات ملأى بالناس والحاجيات تدخل المدينة هاربة من الأرياف. في الأخطار تنتبه غريزة الفرار، فيحسب الإنسان أنه ظفر بالأمن حين ينتقل بسرعة من مكان إلى مكان.
وفي مطلع السنة - أول كانون الثاني 1942 - بدأت الاضطرابات؛ فتوجه محافظ المدينة، واسمه «فارغاس» ومدير البوليس في سيارة رفعا في مقدمتها علما أبيض نحو الجيش الياباني، وأخبرا القائد أن ليس في «مانيلا» قوة مدافعة فليشرف ويستلم العاصمة. ولكن القائد لم يصدق، بل أرسل مع المحافظ ومدير البوليس ضباطا ثلاثة تجولوا في المدينة، فلما وثقوا من خلوها من قوى الجيش الأميركي، أصدروا بلاغا وزعوه على الأهالي يعلمونهم به أن الجيش الياباني المحرر الفاتح سيدخل في صباح اليوم التالي «مانيلا» بعد أن طرد العدو المستعمر، وأن على الأهالي أن يلزموا بيوتهم والسكينة. أما الذين يرغبون في استقبال الجيش فيسمح لهم بذلك بشرط أن ينزلوا إلى الشارع لا أن يتطلعوا من الشبابك، فجيوش جلالة الإمبراطور هي أقدس من أن ينظر إليها أحد من عل.
وفي الصباح بدأت الجنود تدخل المدينة، وكانت الشبابيك على الشارع الرئيسي - تافت أفنيو - حيث مر الجيش كلها مقفلة، ولم يخف إلى لقاء الفاتحين إلا عشرات من الناس، وقد مثل «أولاد العرب» في هذا الاستقبال لبنانيان؛ أحدهما بطرس عواد من بحرصاف بكفيا، شقيق المحامي الدكتور إبراهيم عواد، والثاني يوسف أبو رجيلي من كفر زبد البقاع، وهذان الفتيان أعزبان كانا يعيشان في غرفة واحدة في لوكندة، دأبهما الدعاب والمرح في أشد ساعات الخطر. وحين فتح الأميركان عنابرهم للأهالي كانت حصة بطرس ويوسف بضعة صناديق من الويسكي المعتقة لعلها كانت سبب المرح والشجاعة.
بعض من يعظم شأنه يحاول أن يطمس ماضيه؛ يوسف أبو رجيلي ما هو بخطير الشأن، ولكنه غني يصارحك أنه كان في لبنان فقيرا، فيتحدث عن جمل وحمار رافقهما سنوات، ويذكر اسم امرأة في جديدة مرجعيون لا تزال مدينة له بثمن ثلاثة أرطال عدس، وحانوتي في معلقة زحلة أعطاه ريالا ممسوحا لا يزال يحمله، ويقول في حرارة واقتناع إن ابن آدم لا يؤاخى، وإن الحيوان خير من يصادق. ولا يتحسر من فرقة «الوطن القديم» إلا على الحيوانات، وأخصها الحمار.
أما بطرس عواد فهو فتى جبلي، فوار الحيوية، عنيف الود، عنيف البغضاء؛ فالناس إما أحباؤه أو أعداؤه. وعلى رغم أن ليس في نفسه شيء من الشر؛ فإنه يستشعر من المصائب والانقلابات وحالات الطوارئ شيئا يستهويه ويطرب له.
ورحبنا ببطرس وبيوسف في ظهر يوم 2 كانون الثاني حين جاءا إلينا، وكنا خمس عائلات قابعين في بيت من ضواحي المدينة لا نعرف ما يجري حولنا من حوادث.
Неизвестная страница
قال يوسف: «لقد شهدت الجيش الياباني، أطول واحد فيهم لا يقبلونه بوليس في بيروت، ولو أن في جيبه عشرين كارت توصية من عشرين نائب. أسلحتهم - عندنا في كفر زبد بواريد أحسن منها، فرقة المواصلات - كميونات محطمة.»
وهنا قاطعه بطرس قائلا: «إنما في جيشهم فرقة ليست عند الأميركان!» وقهقه الاثنان؛ ذلك لأنهما رأيا في فرقة المواصلات نحوا من ثلاثين حمارا، أعتقد أنها جاءت من كوريا.
ومن غريب ما حدثنا به الزائران أنهما عرفا بين الضباط عددا غفيرا من التجار اليابانيين الذين كنا نتعامل معهم، فهذا خادم في خمارة رجع بسيف طويل وبدلة كولونيل، وذاك بائع بوظة جاء يتهادى ببزة كابتن بحري، وكان يركب في بعض الكميونات أشخاص من الفلبين كانوا - ولا ريب - قبل الحرب يتجسسون لحساب اليابان.
وانصرف يوسف وبطرس قاصدين بيوت «أولاد العرب» لينشرا أخبار دخول الجيش الياباني.
في تلك الليلة أصغينا إلى الراديو فسمعنا أوامر أصدرها الجيش الياباني، منها أن على الأجانب المقيمين في مانيلا أن يحضروا في اليوم التالي فيسجلوا أسماءهم لدى الجيش في الفندق الفلاني.
نسيت أن أخبرك في أية حالة عصبية كنا. ما هو بالشيء الهين أن تكون أبيض الوجه غريبا في بلاد السمر والصفر - الشرق الأقصى - وكل أقاربك زوجة مريضة، وطفلة دون العاشرة، وكل مواطنيك عائلات أقل من العشرين، عدا كلهم مثلك قابعون في بيوتهم رعبا، وكل أموالك نحو من عشرين ريالا، وفي المدينة جيش ياباني فاتح سبقته أخبار همجيته، وتفظيعه بالنساء والأطفال، والفاتح الياباني بهيمة كاسرة تدعو لسحق الأجانب المتغطرسين الملاعين، وتتودد إلى شعوب الشرق الأقصى باضطهاد كل من ابيضت سحنته.
يسألني الكثيرون: أحقائق هذه التي أرويها؟! أجيب: بل هي حقائق ملطفة، بعضها لا أذيعه؛ لأني أنا - وقد مرت بي - أجلس اليوم وأتساءل: أحقيقة كانت؟ أم هي حلم مرعب؟
لذلك لن أخبرك كيف بتنا ذلك الليل هلعين لا ندري ما الذي يريده الجيش بنا، تسجيل أم تقتيل وتشريد.
لن أبوح لك بأنني اشتريت السم، وتعاهدت وزوجتي أن يأتي هلاكنا نحن الاثنين وطفلتنا على أيدينا، إن وضح من ظواهر الأمور أن اليابانيين سينزلون بنا ما أنزلوه في الأجانب في الصين.
ليال مريرة مخيفة قلقة مرت بنا خلال الحرب، من أشدها قلقا كانت تلك الليلة.
Неизвестная страница
يقول الناس: إن جفونهم لا تغمض في الليالي السوداء، الحمد لله أنني في الليالي الفاجعة أنام ملء جفوني.
وفي الصباح الباكر نهضت حائرا فيما ينتظرنا، وماذا عساي أن أفعل!
صديقي الحميم ماك آرثر ...
حين أذاعت التلغرافات أن الجنرال ماك آرثر أقيل من مهمته ملكتني هزة من حبور ذلك؛ لأن ماك آرثر صديق لي حميم، وإن كنت في شك من أن الإنسان أشد ما يكون فرحا إذ هو يسمع بنكبات تنزل بأصدقائه؛ فاستعرض القوائم الانتخابية، وتأمل كم صديق فرح لسقوط صديق.
بدأت صداقتي الشخصية مع ماك آرثر سنة 1941؛ إذ كنت في «مانيلا أوتيل»، فإذا بحركة غير عادية والناس تحولت أنظارهم نحو الباب، وإذا بقامة عسكرية تنقل قدميها بخفة وخيلاء من غير أن تمس بلاط الأوتيل، وتمشي نحو المصعد من غير أن تلتفت أو أن ترى، ولما اختفت القامة سمعت وشوشة: «هذا ماك آرثر.»
وتوثقت بيني وبينه الأخوة بعد الحرب؛ إذ كنت أتمشى في إحدي نواحي المدينة، فإذا نحن أمام قصر انتشر حوله الحرس ويافطة كتب عليها «ممنوع المرور»، وقابلته مرة يوم إعلان استقلال الفلبين، فظهر على بعد عشرين مترا مني، وضرب لي سلاما خاصا، لي ولمائة وعشرين ألفا من المتفرجين. وبعد هذه المقابلة الثالثة تلطف واستمر بالاتصال بي مرارا كل أسبوع، في المجلات والصحف وأفلام السينما، ماك آرثر وفي، لم يقطع عني أخباره هذه السنين.
ما الذي سبب سقوط هذا الرجل الكبير؟ أقول الكبير، ولا أقول العظيم؛ لأن أمر عظمته لم يقره الإجماع.
في رأيي أن ترومن أحسن إلى ماك آرثر كثيرا حين عزله؛ لأنه خلق له شعبية كانت نقمة عليه وبغضا ، لا أعرف في الدنيا شخصا لقي كرها من رجاله مثل ما كان يلقى ماك آرثر من ضباطه وجنوده؛ كنا نمشي في مانيلا والحرب لا تزال محتدمة في الجزر الأخرى، فنلقى الجنود الأميركان، الصاحي منهم يشتم ماك آرثر، والسكران يشتم ماك آرثر، كنا نقرأ اللعنات على حيطان الخمارات، وعلى الشوارع، وأبواب المراحيض، وكان أقلها عنفا تلك العبارة التي تسبق في بيروت «كل من يبول هنا».
ما السبب؟
السبب أن الأميركيين شعب متناهي الديمقراطية، وأن ماك آرثر شيخ ابن شيخ، وفيه عدا عن عنجهية الإقطاعيين أنانية تقص المسمار، وحسد من كل ناجح، وقد خلق هذا الرجل ليأمر فحسب!
Неизвестная страница