هي ذي التماسيح تتشمس على الشاطئ، وتثب لتقنص عنزة أو خنزيرا، ثم ترجع إلى النهر فتغوص. هذه الجزر الصغيرة من الرمال في وسط النهر تجثم عليها الطيور، أو تحوم مئات ألوفا، بيضاء عالية الأرجل، صفراء المناقير تلعاء الأعناق.
ما شأنك في جهنم هذه الدنيا يا يوسف رستم؟ كيف وصلت إليها؟ وما تبغي منها؟ إلى أين؟
وتقدم منه خادم الباخرة فهرهر كلمات بلهجة سؤال، وبحركة عفوية رفع يوسف حاجبيه، وهذه في بلاده معناها «لا»، أما في هذه الدنيا المعكوسة فمعناها «نعم». وهرول الخادم فحمل حقائب ثلاثا كانت مكومة قرب سرير المسافر، ولكن يوسف لم ير ذلك، كل ما رآه من غير مرآة هذه الدنيا التي قذف إليها، وهو مسمر فيها أسيرا خائبا.
وصفرت الباخرة، واستدارت في النهر فروعت طيورا كانت جاثمة على جزيرة قريبة، فنهضت أسرابا من غيوم بيضاء، ولسبب لا يدريه تناول يوسف مسدسه، وأطلق نحو السرب خمس طلقات، ولم تنطلق السادسة؛ فخلع الفرد غاضبا، وانتزع الخرطوشات. كل ما في حياته مغالط، ولم يرفه عنه ضحك المسافرين من الرصاصات الطائشات، وهم لم يروا طيرا يقع. وكأن الطيور أرادت أن تساهم بالسخرية، فحومت فوق الباخرة صارخة زاعقة مقعقعة، وحين أتمت الباخرة دورتها أطلت بلدة «بطوان»، وعادت الباخرة تصفر بقوة من جديد، وترامت السلاسل فإذا بمراسي الباخرة الأربع تثير الوحول من قاع النهر، وتدلى قاربان من الباخرة أنزلوا فيهما المسافرين وحوائجهم، وفيهما حقائب يوسف رستم، وانطلقا في النهر يبتعدان عن الباخرة ببطء نحو الضفة - نحو بلدة «بطوان» - حيث تجمهر جمع من السكان.
أما يوسف رستم فثاب من نقمته، وهرع إذ رأى حقائبه لم تعد قرب سريره، فلقد كانت في هذه الحقائب كل شباك الصيد: من جواهر زجاجية، وأقلام حبر ملونة لا تكتب، وأقراط زجاجية نقش عليها أنها ألماس، وساعات هي والوقت على غير موعد، وخواتم وأساور خدعت الناظرين إذ تلفلفت بإشاعة كاذبة صفراء.
بهذه الحقائب كان يوسف رستم يضرب في الدنيا المعكوسة وتضرب فيه؛ ليقنص الثروة التي كان يحلم بها.
إنه خشي أن تسرق حقائبه، ولم يكن له من سبيل ليلحق بالقاربين، غير أنه أبصر صبيا في نحو العاشرة يركب زورقا، لعله أول زورق بناه الإنسان ليقهر الخضم؛ فقد كان خشبة سميكة مجوفة فقط لا غير، ولكن الغلام تبوأ طرفه واثقا من نفسه، وراح يجذف بكفيه من غير مجذاف. فلما بلغ الباخرة تطلع نحو الرجل الأبيض، وصاح: «تركو! تركو! أونا بياهي سنكو سنتافوز» (السفرة بخمس نحاسات). وراح يضحك بوجه الرجل الأبيض ويدعوه إلى ركوب الزورق متملقا متحديا مهدئا من مخاوفه، مؤكدا له أنه بحار ماهر، ويعود ليغني: «تركو، تركو، سنكو سنتافوز، براتو، براتو.» أي «ما أرخص السفرة! الشاطئ بخمس نحاسات.»
ونهضت النقمة في صدر يوسف من جديد، وتطلع فإذا بالزورقين - وفيهما كل ثروته وآماله - يكادان يبلغان الشاطئ؛ فلم يشعر إلا وهو في قارب الغلام البحار والقارب يتراقص على مياه النهر، ودار الغلام معاكسا التيار، وراح يجذف بيديه صعدا، حتى إذا هو ابتعد عن الباخرة نحوا من خمسين مترا انقطع عن التجذيف، فحمل التيار القارب بسرعة هائلة نحو الزورقين فارتطم بأحدهما، فإذا بالمسافر الغريب يوسف رستم يتخبط في مياه النهر الموحلة، ولكنه كان سباحا ماهرا؛ فبلغ الضفة ببضع ضربات ليستقبله الناس بالقهقهات، واجتمع حوله الأولاد يضجون ويضحكون ويهزءون.
أما يوسف فغضب ، وأمسك بأحد الأولاد وشد على ذراعه، فصاح الولد متألما: «خنزير.» كلمة عربية لفظها الولد شتيمة مشددا على حرف الخاء، وكشح يوسف الماء الموحل عن عينيه، وتطلع بهذا الولد الأبيض، الأزرق العينين، بين ذلك القطيع من الأولاد السود، وسأله بالعربية: «من أنت؟» ولكن الولد انهزم مبتعدا، وصاح من جديد: «خنزير.» وانفلتت من بين الجمع امرأة تجعد وجهها على الصبي، فهي عجوز شابة، ذات بشرة بيضاء وعينين زرقاوين، وخاطبت يوسف بعربية فيها غنة كسروانية من لبنان معتذرة: «إن هذا الشيطان هو ابني حنا!»
فأجاب يوسف: «إني قد بت من الشوق إلى لغتنا حتى لتطربني لفظة خنزير!»
Неизвестная страница