أمر سمعناه، ولم نجسر أن نطيعه، ولا أن نعصاه، ولكنني أخيرا بلغت اللوكندة الكبرى في نحو الساعة العاشرة من الصباح، ووجدت الأجانب من مختلف أجناس البشر، ألمانا، وإسبانيين، وفرنسيين، وأكثر ما أنتجته أوروبا وأميركا، مئات وقف بعضهم في صف بلغ طوله نحوا من نصف كيلومتر، وانتشر الباقون في الساحة.
يقولون في الصامتين: «كأن على رءوسهم الطير.» إن صح هذا التشبيه؛ فقد كان على رأس كل واحد من الأجانب بومة وغراب. صحيح القول أنه ليس من شيء يدخل الخوف على القلب مثل رؤية جمع من الناس يعدون بالمئات، وهم صامتون واجمون، بل كل واحد وقف منفردا كأنه خشي أن يؤذيه اختلاطه بسواه. ورأيت في الجمهور كثيرين من أصحاب العروش أصبحوا عوام من بني البشر: أغنياء وصيارفة وقادة مجتمع، وطغاة بذخ، وطهاة الصفقات المالية، راكبي السيارات اللماعة، وساكني القصور، صاروا مثل سواهم، ممتقعة وجوههم لا يدرون المصير، وقد لبسوا كلهم الأثواب العتيقة، لما اشتهر عن اليابانيين من التقشف، ومن بغضهم للمتأنقين، وكان من الواضح على وجوه هؤلاء المذعورين أنهم تعمدوا إهمال أمر الحلاقة في ذلك الصباح.
ورأيت في بعض الأيدي وريقات صغيرة، ولاحظت الناس يحيون بعضهم بعضا بابتسامة مغتصبة مقتضبة.
لم أعرف ماذا يجب أن أفعل: هل أبقى في الباحة؟ أم أنتظم في الصف الطويل؟
وفيما أنا أفكر، إذا بصوت عربي يدوي ويصيح - أقول يدوي ويصيح - من بعيد: «يا هلا بأبي السعد!» وهرع إلي من كنا ندعوه «عودة أبو تاية»، واسمه الحقيقي عودة الحداد من السلط، ابنه اليوم جندي في الجيش الأردني.
قال عودة: «أنا في انتظارك يا ابن أخي، جئت باكرا، وأخذت نمرة (فيشة) حفظتها لك كي لا يطول انتظارك في الصف.» ودفع إلي وريقة مثل التي رأيتها في أيدي الكثيرين، وقرأت عدد «68».
وعاد «عودة» يشرح بألفاظه البدوية، ولهجته الصحراوية المرتفعة: «الياباني ملعون الوالدين، ستنتهي الحرب قبل أن ينتهي من تسجيل الأجانب، صار لهم يشتغلون منذ الصباح الباكر، ولم يسجلوا خمسين شخصا بعد.»
وفيما نحن في الحديث اقترب مني سلطي آخر، اسمه جاد الله؛ فتى قصير، ولكنه عتل، لم أر في حياتي صدرا في ضخامة صدره، كان يروي لنا، ويروي عنه أبناء بلدته، أنه فيما مضى، احتال على ضبع حتى أدخله قن الدجاجات في السلط، فأهوى عليه جاد الله بالعصا، وما زال يضربه حتى قتله. ذكرني أن أخبرك كيف ودعت جاد الله عشية سفري من الفلبين، في مستشفى الأمراض السارية، وكيف فتك به السل.
أما «عودة» - وكان، شأن البدو، ينادي أصدقاءه ب «يا ابن أخي» - فهو مثل السبعة أو الثمانية السلطيين الذين عرفتهم في الفلبين؛ رجل قاس، فقير، كريم الخلق، ساذج، ذو مروءة وود، ولعل أبناء السلط بحكم جغرافية بلدتهم - بين قبائل شرق الأردن - كان عليهم أن يهلكوا، أو يكونوا شجعانا، فاختاروا أن لا يهلكوا، و«عودة» يعرف جبل الدروز، ولم يكن غريبا عنه في ثورة سنة 1925؛ إذ كان يهرب الأسلحة من فلسطين إلى حوران، وكثيرا ما تغنى بالدروز، وافتخر بأنه ضاف سلطان الأطرش ليلتين.
وعودة على ضعة حاله لا يتورع عن الدعاب، وتوهمت أن عودة كان فرحا بالحالة الطارئة، يتطلع فيمن حوله فيراهم غنما مذعورة - هؤلاء الذين كانوا بالأمس ذئابا كاسرة، ثم يجس عضلاته، فيتحقق أنها صلبة، ويوقن أنه في هذا اليوم ارتفع عمن كانوا محلقين، وأنه لم يعد في وادي المسكنة، وأدار عينيه بالجمهور هازئا، ول، ول، ول، ول. لم يعد في مانيلا لا مستر ولا سنيور، كلهم رعيان غنم يا ابن أخي.
Неизвестная страница