Фикар Ва Мабахис
فكر ومباحث
Издатель
مكتبة المنارة للنشر والتوزيع
Номер издания
الثانية
Год публикации
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
Место издания
مكة المكرمة
Жанры
إنه ما من شك لدى المنصفين من المؤرخين، أنه لولا قيام الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى (١) وازدهارها في الشرق حين كانت أمم الغرب في ظلمات بعضها فوق بعض، لم تقم الحضارة الحاضرة، ولم يتمتع البشر اليوم بثمراتها.
فالفتح الإسلامي إذن أعظم حادث في البطولة والفكر والعمران. وهو لغز غامض حيَّر نابليون (نابغة العصر الحديث في فن الحرب) وحيَّر المؤرخين كلهم. ذلك أن العرب على ما امتازوا به من الكرم والشجاعة والوفاء والعزة والإباء، كانوا في جاهليتهم بُداة متفرقين، وجاهليين وثنيين، منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، لا يعرفون إلا جامعة القبيلة، ووحدة العشيرة، فإذا فخروا فبها يفخرون، وإن دافعوا فعنها يدافعون ... إذا وجد العربي من القبيلة قافلةً من غير قبيلته، كان في حل من انتهاب مالها، وقتل رجالها، لا حكومة تنظم أمورهم، ولا دين يردعهم، إلا دينًا مضحكًا سخيفًا، دين من يتخذ ربًا من التمر، فإذا جاع أكله، كما (أكلت حنيفةُ ربها ...)، أو من ينحت من الصخر صنمًا ثم يعكف عليه عابدًا داعيًا، أو من يعبد الشجر والحجر. وكانوا يخشون كسرى، ويرهبون قيصر؛ وكان ملوكهم في الحيرة والشام تبعًا للفرس والروم وجندًا لهما، يضربون بعضهم ببعض، ليذهبوا هم بالغنم ويعود العرب بالغرم؛ وكان اتحاد قبيلتين اثنتين كبكر وتغلب في طاعة كليب، أو قيس والسَّكون في جيش قيس بن معدي كرب حادثًا عجيبًا يكسب صاحبه فخر الأبد، وأمرًا نادرًا يلبث حديث الناس أيامًا وليالي ... فكيف يتَّحد العرب كلهم، عدنانيّهم وقحطانيّهم، ويسيرون في صف واحد، يقدمهم رجل واحد، حتى يواجهوا جيوش كسرى وقيصر التي يهابونها ويرهبونها، ثم يضربونها الضربة القاصمة
(١) المذهب الصحيح في القرون الوسطى هو ما ذهب إليه المؤرخ الألماني (شبنكلر) وغيره من أن هذا التقسيم إلى قرون قديمة ووسطى وحديثة -إن صح وقبل- فلا يطلق على غير أوروبة، ولا علاقة له بالشرق، لأن لكل حضارة مميزات خاصة، ومن الخطأ الجسيم سحب صفات القرون الوسطى على الشرق المسلم الذي كان إلى ذلك العهد في ذروة الرقي.
1 / 139