ودلفت بعد الأشواط السبعة إلى مقام إبراهيم أصلي فيه ركعتين، ومقام إبراهيم يقابل باب الكعبة ويقابل الحجر الأسود، وقد قام إلى جانب باب عمده وعقده من الرخام، والذين يطلبون المقام عنده قليلون؛ لذلك أتممت عنده ركعتين واستغفرت ربي لي ولأهلي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات، ثم انتقلت إلى حجر إسماعيل، والحجر يقع قبالة جدار البيت الموازي للجدار الممتد بين الركن اليماني والحجر الأسود، ويحيط به سور في شكل نصف دائرة من الرخام، والمصلون فيه يزحم بعضهم بعضا حتى لا يكاد الإنسان يجد بينهم مكانا؛ وذلك لما يذكر المؤرخون من أن الحجر يقع داخل رقعة الكعبة كما أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدها، فثواب الصلاة فيه كثواب الصلاة داخل بيت الله.
وأقحمت نفسي بين اثنين يصليان ورفعت يدي أنوي الصلاة، إذ وقع بصري على رجال أشداء أقاموا في إحرامهم، ورفعوا أيديهم إلى أعلى السجف من أستار الكعبة فتعلقوا بها متشبثين لا يتركونها وقد ألقوا برءوسهم إلى وراء، فشخصت أبصارهم إلى السماء تستغفر الغفور الرحيم، وذكرت إذ رأيتهم ما كان العرب يفعلونه من ذلك قبل الإسلام، فيكون ذلك مجيرا لهم من عدوهم، وذكرت يوم الفتح حين عفا محمد عن أهل مكة جميعا إلا أشخاصا بأعيانهم أمر أن يؤخذوا وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، وأقمت هنيهة أنظر إلى هؤلاء المتعلقين أسائل نفسي عما صنعوا ليكون ذلك موقفهم منه، وأنا معجب بإيمانهم، إذ لا يجدون ملجئا من الله إلا إليه، ولا يجدون ملجئا إليه خيرا من التعلق بأستار بيته المحرم، ونويت الصلاة وأتممتها، ورفعت طرفي فألفيتهم ما يزالون في تعلقهم بأستار البيت، وما تزال أبصارهم شاخصة إلى السماء تلتمس من رب البيت المغفرة، وأقمت مكاني في الحجر فإذا من حولي فيه لا يكاد أحدهم يتركه حتى يحل غيره محله، وكأنما نسوا أن الليل انقضى ثلثاه أو أكثر من ثلثيه، وبقيت زمنا في مثل نسيانهم مأخوذا بما حولي مقدسا إياه، ملقيا وراء ظهري ما عودنا التفكير الحديث من تعلق بالحاضر المحسوس وحده، ومن مبالغة في هذا التعلق إلى إنكار ما وراء المحسوس من معنى ينتظم الوجود ويسمو على الزمان والمكان، وزادني موقفي توجها إلى الله، فدعوته راجيا أن يستجيب، واستلهمته الهدى إلى الحق والخير والفضل، وتبت إليه من الآثام، وأشهدته على نفسي إنه هو رب التقوى ورب المغفرة.
وفاض بي هذا الشعور، فصرت من دعاء ربي إلى التسبيح بحمده والتقديس له، وإلى إكبار هذه الأخوة التي تصل بيني وبين المؤمنين به جميعا في مختلف أقطار الأرض، أخوة شعارها السلام، ودعامتها السلام، وغايتها السلام، وظللت كذلك حتى جاء المطوف ينبهني إلى ضرورة مغادرتنا المسجد لنسعى بين الصفا والمروة كيما تتم شعائر العمرة، وما كنت أحسبني مطيعا إياه لولا حرصي على إتمام هذه الشعائر، وخرجنا من المسجد نبتغي المسعى، وسرت إلى جانبه والنفس ممتلئة مهابة وتقديسا للواجب الذي أقوم به ويقوم به معي عشرات الألوف من إخواني المسلمين على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم، والذهن شغل لذلك عن إطالة التنقيب فيما ينطوي عليه اجتماع المسلمين كل عام في هذه البقعة المباركة منذ مئات السنين من غايات روحية واجتماعية وسياسية سامية.
ولعل ما أصابني من الجهد في اليومين الأخيرين فمنعني حقي من السكينة والنوم، ولعل مجهود الانتقال توا بعد ذلك إلى مكة ودخولها في ساعة متأخرة من الليل، ثم لعل المجهود الروحي الذي اقتضانيه الطواف، ولعل هذا الجهد والمجهود قد زادا في توجهي الآلي وراء المطوف لإتمام شعائر العمرة، وكيف لي أن أصنع غير هذا وقدماي تسيران في مكان لما تعهداه وإن ألفيته مرتسما في نفسي، وكأن لي به كل العهد من قبل أن أولد؟ أم أن هذا العهد كان مبعث التقديس الذي امتلأت به نفسي؛ لأنه ميراث الأجيال التي سلفت من أهلي وآبائي؟ نعم! لعل هذا أدنى إلى الحق؛ فلقد سار ها هنا آبائي وأجدادي وأمهاتي وجداتي حقبة بعد حقبة، وجيلا بعد جيل، ولقد طافوا جميعا بالبيت كما طفت، وسعوا كما أريد أن أسعى، وتلوا بعد المطوف ما تلوت وما سأتلو، ولقد رأيت الكثيرين منهم وشاركت منذ طفولتي في الاحتفال بخروجهم إلى الحج، وعودتهم منه احتفالا كانت علائم الغبطة ترتسم أثناءها على أسارير الذين يودعون من حج، ويلقون من عاد من هؤلاء الآباء والأجداد، فلا جرم قد انطبع في نفسي هذا الميراث المتنقل على الأجيال، وجعلني أخطو خلال المسجد وإلى المسعى بقدم مطمئنة كما أخطو في بيتي وبيت أهلي، ثم كان لهذا الميراث التليد من عمق الأثر في نفسي ما زادني حرصا على الدقة في أداء شعائره.
خرجنا من المسجد وأقلتنا السيارة إلى المسعى، ثم مال بنا المطوف إلى ربوة الصفا وتخطى بنا نحو درجها خلال الذين سبقونا إلى السعي محرمين، وتخطينا خلال هذه المئين من الناس يسير بعضهم فرادى، ويسير آخرون جماعات متشابكة الأيدي، وقد ارتفعت في جوف الليل أصواتهم جميعا مستغفرين في ضراعة وإنابة، وعلونا بعض درج الصفا ثم استقبلنا المسعى ورفعنا أيدينا، وأعلنا نيتنا السعي سبعا بين الصفا والمروة سعي العمرة، ثم هبطنا الدرج وسرنا ونحن نتلو كما يتلو المطوف:
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم .
وانتقلنا من الصفا إلى المروة ونحن ندعو بما يدعو به مطوفنا ونستغفر كما يستغفر، والمئون من الساعين يدعون كذلك ويستغفرون، وبلغنا المروة واقتحمنا صفوف الساعين إلى درجها، واستقبلنا المسعى وسعينا وكبرنا وعدنا إلى الصفا ندعو ونستغفر، والناس من حولنا يصنعون صنيعنا يدعون ويستغفرون، ولقد كنت تسمعهم رافعي أصواتهم في لهجات مختلفة، منها البدوي النجدي الذي يعلو بنفسه عن أن يتخذ من مطوف إماما، ومنها ما تشوبه عجمة تدل على أن العربية ليست لسان أصحابه الأصيل، ومنها المتضرع في انكسار وخشية، ومنها هذا البدوي الذي لا يعرف الخضوع حتى في خطابه ذا الجلال والإكرام، فلما أتممت أشواط السعي السبعة وقف بي المطوف عند حلاق في حانوت من الحوانيت التي تزحم المسعى قص لي بعض شعرات من جانب رأسي الأيمن، وبارك علي أن أتممت عمرتي، وبذلك آن لي أن أعود إلى منزلي وأن أحل إحرامي إحلال التمتع، كيما أعود إليه بعد يومين حين أؤدي فريضة الحج الأكبر.
وأويت إلى مضجعي في الثلث الأخير من الليل ألتمس فيه الراحة إن لم أسعد فيه بالنوم، وأطبقت أجفاني، وذهبت على عادتي أستعيد ما حدث منذ الصباح، فإذا بي لا أذكر منها إلا غبطتي بالطواف والسعي وتمام العمرة، وإذا بي أشعر بيد محسنة يسري إلي من مسها جسمي سعادة لم أعرف من قبل سعادة مثلها، سعادة تنسيني كل شيء إلا ما كنت فيه من توجه إلى الله بالتوبة والاستغفار، ومن رجاء في أن يتقبل توبتي واستغفاري، وانفرجت شفتاي في ظلمة الليل عن ابتسامة طمأنينة ورضا استراح إليهما وجودي كله، وبقيت في غبطتي بهما مسلما كل تفكيري وإحساسي وعقلي وقلبي لمشيئة الله التواب الغفور الرحيم، ودخلت بهذه الطمأنينة في عالم النوم ممتلئ النفس رجاء وأملا، صادق الإحساس أن قد زالت عني أوزار الماضي وأنني أصبحت قريبا من ربي، ونمت سويعات استيقظت على أثرها وقد زالت عن صدري أحمال لم أدر ما هي، وأغرتني بكرة الصباح بالنزول إلى مكة أجوس خلالها، لكني لم أجد دليلا يرشدني فآثرت أن أنتظر مضيفي وأن أنتظر مطوفي ليرسما لي خطة يومي ويعاوناني في إنفاذها.
وأتممت صلاة الإصباح، ورحت أنتقل في حجر ضيافتي أتمشى فيها طولا وعرضا، وأستوحي ذاكرتي صورة هذه الدار الفخمة التي نزلت بها، والطريق التي أدت بي أثناء مكة إليها، فلا تسعفني الذاكرة بنافع، وما عسى أن تسعفني الذاكرة به وقد تخطيت أم القرى بليل، فلم أر من الطرق التي اجتزتها إلا القليل، ولقد اجتزنا إلى دار مضيفنا أزقة ضيقة لم أتبين منها شيئا، وبرزت السيارة من أحد هذه الأزقة إلى فناء فسيح بالقياس إليها هو أشبه الأشياء بصحن دار كبيرة تحيط به جدرانها الأربعة، ويخرج منه زقاقان غير الذي برزت السيارة منه، ويضيء هذا الفناء نور كهربي ينحدر من مصباحين معلقين على ناحيتين من جدرانه، ومن هذا الفناء وقفت السيارة أمام دار يتخطى النظر بابها إلى دهليز طويل تضيئه الكهرباء، ونزلنا وصعدت بنظري إلى باب الدار فألفيته رفيعا معقودا أعلاه بالحجر، ويصعد الإنسان إليه بضع درجات تعلو به وبالبيت كله عن الطريق، وأقبل علينا حين وقفت السيارة رجل تطوق ثغره ابتسامة رقيقة، وصافحنا بشوق ومودة، وسألنا عن سبب تأخرنا وما نكون قد لقينا من مشقة الطريق، هذا مضيفنا الشيخ عباس قطان أمين العاصمة صاحب هذه الدار التي تبدو الفخامة على ظاهرها.
لقد أقام بداره ينتظرنا، فلما استقبلنا وتلطف بنا ما تلطف، أنبأني أن الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية قد سأله بالتليفون غير مرة عن مقدمنا بعد أن علموا من جدة أننا نزلنا من الباخرة إليها وغادرناها إلى مكة، وصعد وإيانا إلى الطابق الأول من الدار على درج أعاد إلى ذاكرتي منازل إيطاليا، فهو محصور بين جدارين يصعدان إلى السقف، فإذا استدار الإنسان إلى يمينه وإلى يساره عند منتصف الطابق ألفى نفسه من جديد بين جدارين يصعد الدرج أثناءهما إلى غرف الطابق الأول، ودخلنا إلى بهو عظيم فيه ومعنا مضيفنا ومطوفنا، ولم نلبث حين جلسنا على مقاعد من طراز هذا العصر الحديث حتى جيء لنا بالشاي - أو الشاهي بلغة أهل مكة - فكان لنا نعم الدفء بعد برد الطريق، وتحدثنا إلى مضيفنا وتحدث إلينا، وسرعان ما ذكرني أني تقابلت وإياه بالقاهرة، وأننا تمنينا لو نلتقي بمكة في هذه الدار، وبعد قليل قمنا إلى المسجد الحرام فأتممنا طواف العمرة وسعيها.
Неизвестная страница