كان الرجل في انتظارنا، فلما صحبنا إلى الطابق الأول من داره أبلغنا تحية وزير المالية وسؤاله المتكرر عنا منذ تركنا جدة، وجيء بالشاي فشربنا، وبالقهوة فتناولناها برغم انقضاء هزيع من الليل، وسألني الرجل: أأوثر أداء شعائر العمرة لفوري أم أرجئها للصباح كيما أنال بعض الراحة من مشقة السفر؟ أما أنا فآثرت الأداء ولم تمل نفسي إلى الإرجاء، ولعله الهوى إلى بيت الله وإلى حرمه، وإلى الصفا والمروة حيث سعت «هاجر» المصرية سبعا تلتمس الماء لابنها إسماعيل هو الذي دفعني؛ كي أسارع إلى أداء هذه الشعائر رغم الجهد والمشقة، وسألت: أيوجد إلى إتمام الطواف والسعي في هذه الساعة المتأخرة من الليل سبيل؟ فقيل لي: إن الحرم مفتوح ليل نهار، وإن الناس يطوفون ويسعون في كل ساعة منهما، وخرجت في لباس إحرامي مع المطوف، وأقلتنا السيارة التي جاءت بنا من جدة إلى باب الحرم في دقيقة أو نحوها.
وما لبثت حين تخطيت الباب والمكان المسقوف من المسجد بعده حتى تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد، وقد انسدل على جدرانها لباسها الأسود المطرز بوشي الذهب، تبدت لي دون أن يلفتني أحد إليها، وتبدت وكأني عرفتها وطفت بها قبل ذلك مرات، وما لي لا أعرفها وقد رأيت كسوتها يطاف بها في القاهرة منذ طفولتي؟! وقد تبعت هذه الكسوة مرات عدة في سنوات متعاقبة حين كانت تنقل من القلعة إلى بيت القاضي مارة بالمشهد الحسيني وسط الجموع التي كانت تسير مثلي وراءها في هذا المشهد الديني الحافل الرهيب.
تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد، فشد إليها بصري، وطفر نحوها قلبي، ولم يجد فؤادي عنها منصرفا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي، وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة، وقلت إذ وقع نظري عليها ما ألقى المطوف علينا أن نقوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، فزادني تحرك شفتي بهذه الألفاظ مهابة ورهبة، وأراد مطوفي ونحن نتخطى إليها أن يحدثني في تاريخ المسجد وأبوابه وما أضيف إليه من عهد الرسول، ثم أمسك حين لم يجد مني إقبالا على سماعه، وكيف لي في هذه الساعة بالاستماع إلى حديث وقد ملك البيت علي نفسي وجذبني لأسرع إليه فأطوف به وأذكر الله عنده.
وارتسمت صورة البيت أمام بصيرتي منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده مثابة للناس وأمنا يقيمون الصلاة ويذكرون الله عنده، وبلغت بابا قائما وسط صحن المسجد، قال مطوفي: إنه موضع بابه في عهد الرسول؛ فأجلت طرفي بين هذا الباب والبيت العتيق، وذكرت ما حدث قبل مبعث محمد حين كانت قريش تجدد بناء الكعبة، ثم اختلفت قبائلها أيها يضع الحجر الأسود مكانه، وبلغ منها الخلاف أن كادت الحرب الأهلية تنشب بينها، ثم أشار عليهم أبو أمية بن المغيرة المخزومي أن يجعلوا الحكم في خلافهم أول من يدخل من باب الصفا، وكان محمد أول من دخل منه، فارتضوا حكمه، فجعل الحجر على ثوب رفعه رؤساء القبائل جميعا من أطرافه، ثم أخذه هو فوضعه مكانه، كان البيت يومئذ كما هو اليوم، إلا أن كسوته لم تكن سوداء مطرزة بوشي الذهب، أما المسجد فكان ضيقا لا يبلغ العشر مما هو اليوم.
وها أنا ذا أتقدم نحو البيت الذي أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، والذي وضع محمد قبل مبعثه حجره الأسود في مكانه؛ والذي طاف به الأنبياء وطاف به الملوك والأمراء على كر الدهور وهم في مثل ما أنا فيه من خشوع ومهابة، وهم سواسية أمام الله مع من يرعونهم من عباد الله، وقلوبهم تفيض ندما وتوبة واستغفارا، والذي طاف به ملايين المسلمين، وربما كان أشدهم فقرا من هو أكرم عند الله من هؤلاء الملوك والأمراء؛ لأنه أتقى منهم وأعظم بالله إيمانا، ها أنا ذا أتقدم اليوم نحو البيت أطوف به طواف العمرة، وقد اجتمع هذا الماضي كله المهابة والجلال أمام بصيرتي، فزادني شعورا بما بيني وبين الذين أقاموا قواعد البيت والذين تطوفوا به من صلة يمحي أمامها الزمان والمكان، وتتبدى من خلالها وحدة الكون التي لا تعرف الزمان ولا المكان.
وسرت إلى جانب المطوف مأخوذا ، حتى إذا بلغت الكعبة اندمجت في المئين الذين يطوفون بها وهم مثلي في لباس الإحرام، وأعلنت نية الطواف ببيت الله المكرم سبعة أشواط طواف العمرة، وكان المطوف قد سبقني إلى تلاوة صيغة النية، فلما حاذيت الركن اليماني وقف المطوف هنيهة فوقفت لوقوفه وقلت على أثره: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واندفعت في حماسة أسير مع السائرين وأعيد بعد المطوف قوله - تعالى:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
ثم وقفت كما وقف قبالة الحجر الأسود لأقول كرة أخرى: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واندفعت بعد ذلك أتم الشوط الأول وأنا أتلو في حماسة صادقة أدعية الاستغفار والتوبة التي يلقي المطوف علي تلاوتها، وبلغت الركن اليماني فوقف المطوف ووقفت ورفعت مثله اليد اليمنى وكبرت كما كبر وتلوت:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وحاذينا الحجر الأسود فرفعنا أيماننا وكبرنا ثانية، واندفعت أستغفر وأطلب إلى الله الهداية على النحو الذي يلقى إلي وإلى غيري من الطائفين، وكذلك كنت أفعل كلما حاذيت الركن اليماني أو الحجر الأسود، وأتممت الأشواط السبعة وأنا أكبر الله وأحمده وأدعوه وأستغفره، وأنا مأخوذ بجلال هذا البيت العتيق، ممتلئ النفس خشوعا أمام تاريخه الروحي الرهيب، يفيض قلبي إيمانا بالله الذي جمع في هذه البقعة الضيقة من الأرض كل هذا الجلال وكل هذه المهابة، والمئون من حولي يطوفون كما أطوف، ويتلون من الأدعية ما أتلو، وإن لم يذكر أحدهم ما أذكر من أمر إبراهيم وإسماعيل ومن تجديد بناء البيت قبيل مبعث محمد، ومن طوافه به في عمرة القضاء وحجة الوداع.
Неизвестная страница