В свободное время: коллекция литературных, исторических, этических, философских писем
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Жанры
وسارت بنا العربة بعد ذلك في طريق قد بين صخور عابسة محددة الوجه تظلها سماء دائمة الزرقة، لا تمر بها سحابة ولا يغشى صفاءها غشاء. وجاوزنا في مسيرنا بربة القرنة وتابعنا مسيرنا حتى قاربنا وادي الملوك.
الجبال قائمة عن يمينك وعن شمالك. جبال جرداء لم يسقها غيث فلم يعرف النبت إليها سبيلا. والسماء من فوقها زرقاء صافية، والسكون مخيم شامل فلا تسمع هسيسا. وأنت بين ذلك ذرة من ذرات الوجود متنقلة في الحيز تنقلها على الزمن ثائرة بين الكائنات العظيمة المطمئنة منتظرة يوما تخمد فيه ثورتها، فترجع لتطمئن في أحضان الوجود.
مثل هذه الأفكار كانت تدور بنفسي وأنا فوق السنكار تتسرب بي في طريق الجبل، وقد خلفت ورائي الزرع الناضر الخاضع لقوانين الموت والحياة، المتجدد على الزمن كلما تجدد الزمن، وحشرت بين الجبال العابسة وقد علت فوق قوانين الموت والحياة، فتتالت عليها عصور الزمن وهي على الزمن باقية خالدة.
ثم وصلنا بيبان الملوك فإذا حمر وعربات وسناكير قد سبقت إليها. وإذا زوار متفرجون قد جاءوا يرون الكنوز التي اكتشفها كورنارفون، وهي في خيال بعضهم كنوز الذهب والجوهر يستبدلها من شاء بما شاء من صنوف المتاع، وفي خيال الأقلين كنوز تاريخية أثرية، يرتكب من يستبدلها بالذهب والجوهر جريمة لا يغتفرها العقل ولا يغفرها التاريخ.
يقع مدخل بيبان الملوك في منتهى ذلك الطريق الذي قد بين صخور الجبل. فإذا جزته انفرج أمام نظرك وادي الملوك. أو بالأحرى ظهرت أمامك مقابر الملوك. فليس ذلك الوادي إلا منبطحا صخريا وسط سلسلة ليبيا تقوم الجبال حوله من كل جانب، ولا تعمره أية صورة من صور الحياة والتجدد التي تراها في الوديان. وإنما تعمره موميات ذوي الملك والسلطان الذين حكموا على التاريخ والتاريخ حدث قاصر لم يبلغ بعد رشاده، فكان حكمهم أبهى وأنضر وأبقى أثرا وأخلد ذكرا من حكم المدنية الأثيمة التي يئن العالم تحت سلطانها من سنين. تعمر تلك الموميات هذا الوادي في قصور شقت تحت الجبل، ونقشت جدران غرفها بطلاسم الهيروغليفية وبمختلف صور آلهة ذلك العصر وبطقوس عبادة آبائنا الأقدمين. شقت تلك القصور ونقشت جدرانها من أربعة آلاف سنة، فإذا رأيتها اليوم أدهشتك منها ألوان زاهية حية لا تجد فيما تعرف من الألوان اليوم لها نظيرا. فإذا سألت عن هاته الطلاسم وأولئك الآلهة وتلك الطقوس ما شأنها على الجدران، وما هذه الصحائف الكثيرة من كتاب الأموات لا يخلو منها جدار؟ لفت العليم نظرك إلى ما تراه على جدران معابدنا من آي الكتب المقدسة، وزادك أن أولئك القدماء كانوا يؤمنون بأن الروح لا تفارق الجسد فراقا أخيرا ما لم يتم بلى الجسد، وما لم تنحل ذراته فتتبعثر بين غيرها من الذر وينعدم كيانها. أما ما بقي الجسد حافظا كيانه فإن الروح تعود إليه إذا هو عولج عند الدفن بصورة خاصة من الطقوس، فمر فوق القارب المقدس بالبحيرة المقدسة عند آخر معابد إله الشمس آمون، ثم انتقل بين هياكل الآلهة ومن حوله تراتيل كتاب الأموات حتى يبلغ مقره الأخير. وفي هذا المقر الأخير تسجل على الحجر الصلد تلك الطقوس التي وجب أداؤها، حتى إذا عادت الروح للجسد عادت مطمئنة، ثم زادت طمأنينة إذا هي ألفت حوله كل مظاهر الملك ومجالي الأبهة التي كانت له في حياته، ووجدت عرشه وعربته ولباسه وطعامه، وما إلى ذلك مما كان له قبل الموت من صور المتاع.
وهذا هو السر في أنهم كانوا يحنطون الجسد حتى لا ينحل ويتم بلاؤه، وفي أنهم كانوا يملأون الجدران بنقوش كتاب الأموات، وبطقوس العبادة، وبمختلف صور الآلهة تقدم لهم فروض الطاعة وأنواع القرابين، وبصورة القارب المقدس على البحيرة المقدسة عند معبد آمون إله الشمس حتى تطمئن الروح إلى أن الجسد مر إلى مقره برضا الآلهة وفي طمأنينة منهم إليه. وهو السر في أنهم كانوا يضعون في الغرف المجاورة للملك عنجريبه وكراسيه وعرباته ومأكولاته، وكل أنواع المتاع التي كانت في الحياة له. إنهم كانوا يريدون له الخلد ملكا عزيزا كريما، حتى إذا بعث يوم النشور بعث ملكا عزيزا كريما.
أرأيت الآن معنى عناية ملوك مصر الأقدمين بأن يكون لهم بعد الحياة قصور تضارع القصور التي كانت لهم في الحياة أو تزيد عليها عظمة وقداسة. إنهم كانوا يطمعون أن يبقوا خالدين ملوكا وأن يبعثوا ملوكا. وها نحن أولاء نرى نصف مطمعهم تحقق أو كاد. لقد خلدوا إلى اليوم ملوكا تخشع أمامهم قلوبنا، وتنحني أمامهم رؤوسنا، ولم يزد الموت ملك رمسيس الحبيس بين زجاج صناديق المتحف إلا جلالا. ولو أنا - معشر الأحياء - قد بلغنا من العلم أن نفهم المعاني المرتسمة على صفحات وجوه مومياء الملوك الأموات، لعلمنا أن رمسيس يعيد اليوم ما كان يقوله من قبل يدفع به المصريين الأحياء ليستعيدوا لمصر من المجد والعظمة ما كان لها أيام ملكه. ولكنهم لا يسمعون.
هذه العناية هي التي أوحت إلى توت-عنخ- آمون أن ينقر في الجبل قبره، وأن يحضر في غرفه صور متاعه؛ حتى إذا أتى عليه الموت كان قد أعد لنفسه وسائل الخلد وحياة لا تبلى.
والكنوز التي شهدنا في أول غرفة من غرف قبر توت-عنخ-آمون هي بعض صور ذلك المتاع الملكي، وضعت إلى جانب تمثاليه الحارسين لموميائه من أن تعبث بطمأنينتها يد الزمن. وقريبا ستعبث بتلك الطمأنينة يد أبناء هذا الزمن.
آثار وادي الملوك (3)
Неизвестная страница