В свободное время: коллекция литературных, исторических, этических, философских писем
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Жанры
الكتاب الأول: في النقد
خواطر في النقد
أناتول فرانس (1)
أناتول فرانس (2)
أناتول فرانس (3)
أناتول فرانس (4)
أناتول فرانس (5)
أناتول فرانس (6)
بيير لوتي
قاسم أمين (1)
Неизвестная страница
قاسم أمين (2)
ذكرى قاسم أمين1
توماس وودرو ولسن
أحمد لطفي السيد
محمد فريد وجدي
الدكتور طه حسين (1)
طه حسين (2)
حديث الشمس
مصطفى صادق الرافعي
جرجي زيدان
Неизвестная страница
محمد السباعي
الكتاب الثاني: شئون مصرية
آثار وادي الملوك (1)
آثار وادي الملوك (2)
آثار وادي الملوك (3)
في حضرة الفراعنة
أبيس
سميراميس
خالد أو سبيل اليقين
انتقام من الجمود
Неизвестная страница
تذكارات الطفولة (1)
تذكارات الطفولة (2)
ساعة واحدة
حديث شباب
الكتاب الثالث: خواطر في التاريخ والأدب
الأدب واللغة القديم والحديث (1)
الأدب واللغة القديم والحديث (2)
العرب والحضارة الإسلامية
الكتاب الأول: في النقد
خواطر في النقد
Неизвестная страница
أناتول فرانس (1)
أناتول فرانس (2)
أناتول فرانس (3)
أناتول فرانس (4)
أناتول فرانس (5)
أناتول فرانس (6)
بيير لوتي
قاسم أمين (1)
قاسم أمين (2)
ذكرى قاسم أمين1
Неизвестная страница
توماس وودرو ولسن
أحمد لطفي السيد
محمد فريد وجدي
الدكتور طه حسين (1)
طه حسين (2)
حديث الشمس
مصطفى صادق الرافعي
جرجي زيدان
محمد السباعي
الكتاب الثاني: شئون مصرية
Неизвестная страница
آثار وادي الملوك (1)
آثار وادي الملوك (2)
آثار وادي الملوك (3)
في حضرة الفراعنة
أبيس
سميراميس
خالد أو سبيل اليقين
انتقام من الجمود
تذكارات الطفولة (1)
تذكارات الطفولة (2)
Неизвестная страница
ساعة واحدة
حديث شباب
الكتاب الثالث: خواطر في التاريخ والأدب
الأدب واللغة القديم والحديث (1)
الأدب واللغة القديم والحديث (2)
العرب والحضارة الإسلامية
في أوقات الفراغ
في أوقات الفراغ
مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
تأليف
Неизвестная страница
محمد حسين هيكل
إلى الأستاذ أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية
سيدي الأستاذ المحترم
لك الفضل الأول في تعليم من أسعدهم الحظ بالاستماع إليك أول شبابهم كيف يقضون أوقات فراغهم يفكرون فيما يعرض لهم من النظريات؛ بسبب عملهم وأثناء أحاديثهم ومطالعاتهم. وكنت أنا أحد هؤلاء. ولك كذلك الفضل في أن جعلت «الجريدة» ميدانا لما تسيله القلوب والعقول على الأقلام من ثمرات التفكير في أوقات الفراغ. وكنت أنا ممن أفادهم فضلك هذا بما نشرته في الجريدة أيام كنت أطلب العلم في مصر وفي أوروبا، وحين كنت محاميا. ولك فوق ما لك من الفضل ما يتركه عطفك الأبوي في نفس من عرفك من حب لك وتعلق بك؛ لذلك كان حقا علي وأنا أنشر بعضا من ثمرات أوقات فراغي التي نشر في الجريدة منها شيء غير قليل أن أتقدم بإهداء الكتاب إليك فذلك ما يجب لك.
محمد حسين هيكل
إلى القارئ
بقلم محمد حسين هيكل
هذه مجموعة رسائل نشر أكثرها في الصحف والمجلات وكلها ثمرات لأوقات فراغي. كتبت على أثر مطالعات أو مشاهدات في هذه الأوقات، وما أثارته هذه المطالعات من تفكير خاص.
ولقد رتبت في هذه المجموعة ترتيبا نظمت فيه الرسائل الخاصة بموضوع واحد، بعضها أثر بعض من غير مراعاة لتاريخ نشرها ولا للصحيفة التي نشرت فيها. فبدأت بالنقد وبما كتبته عن أناتول فرانس في السياسة، وفي الاستقلال وفي السفور، وفيه قسم لم ينشر. وتتلو ذلك رسالة عن بيير لوتي. ثم تتلو هذه عدة رسائل عن قاسم أمين، تعقبها رسائل عدة عن كتب نشرها جرجي زيدان ومصطفى صادق الرافعي والدكتور طه حسين ومحمد السباعي وغيرهم من رجال القلم. وهذا هو الكتاب الأول من المجموعة.
أما الكتاب الثاني فرسائل خاصة بمصر؛ كرسائل بيبان الملوك وخلاصة كتاب مستر كارتر عن قبر توت-عنخ-أمون. كما أن فيه قصصا وأحاديث كابيس وسميراميس وخالد وغيرها.
Неизвестная страница
فأما الكتاب الثالث فرسائل متفرقة.
ولقد عنيت بأن لا أمس هذه الرسائل بتحوير إلا ما كان فيها من خطأ مطبعي أو بعض نبو في اللفظ عن المعنى المقصود، وذلك برغم ما في بعضها مما أشعر اليوم بأنه يحتاج إلى إعادة تحريره من جديد.
وإذا وفقت هذه المجموعة إلى أن تشغل من أوقات فراغ القارئ فترة غير مملولة كنت بذلك سعيدا.
الكتاب الأول
في النقد
خواطر في النقد
دفعني ملال الأرق ليلة إلى التنقل في قراءتي بين كتب مختلفة. فانتقلت من روسو، إلى الأغاني، إلى أناتول فرانس، إلى مصطفى صادق الرافعي، إلى حصاد الهشيم للمازني. وانقضت علي في هذه الحال ساعات كان كل شيء حولي فيها ساكنا ؛ لأنها كانت ساعات ليل أرخى فيها الظلام سدوله على الوجود وعكفت فيها الخلائق على نفسها لتستريح من نضال النهار؛ ولتجد في أحضان الكرى نعمة النسيان المطلق تستمد منه قوة تعود بها إلى نضال نهار جديد.
وكنت كلما مللت القراءة في كتاب وضعته إلى جانبي على المقعد الطويل وأطبقت أجفاني وحاولت تمليق النوم. فإذا استيأست منه تناولت كتابا آخر وقرأت فيه حتى الملال. فلما استطال بي الوقت جعلت أفكر في معركة النقد الأدبي التي حمي وطيسها أخيرا بين كتابنا، وانتقلت من ذلك إلى التفكير في النقد في فرنسا ومصر. وتواردت على أثر ذلك خواطر ثبت معها عندي أن الأخذ في مصر بقواعد النقد الأدبي المقررة في أوروبا فيه شيء من التعسف غير قليل. وأن الناقد في مصر يجب عليه أن يكون أوسع صدرا وأكثر مرونة من غير أن يكون لذلك أقل دقة، ومن غير أن يتهاون في الحق أو يتسامح فيما يجب للفن.
يفرق الكتاب في أوروبا بين النقد الذاتي والنقد الموضوعي. ويرى الأكثرون أن النقد الذاتي - الذي يصدر فيه صاحبه عن مجرد تقديره الخاص وحسه بالجمال، فيجعله مقياسا لكل ما يعرض له من ثمرات الفن - نقد غير جدير بالتقدير. ذلك أن الناقد مهما يكن من سمو الإدراك وحسن الذوق لا يستطيع أن يضع كل صور الجمال ومظاهره في مستوى واحد أمام نظره. وأنت إذا دخلت إلى متحف من المتاحف الجامعة لطرف فن التمثيل الحديث وجدت بين التماثيل الكثيرة التي يعبر بها نوابغ المثالين عن معنى خاص من معاني الجمال أوجه خلاف شتى. فهذا يرى جمال المرأة في الخصر النحيل والساق الدقيق، والنظرة الناطقة بمشاعر الحب كله. وذلك يراه في انسجام ميول الجسم انسجاما تتتبعه العين في طمأنينة كما يراه في النظرة البريئة الساذجة، وثالث يراه في رشاقة الأطراف، ورابع في بديع استدارة النواتئ. أتراك إذا كان حسك وذوقك ميالا لنوع خاص من هذه المعاني إلا مأخوذا به أكثر مما يأخذك إليه سواه؟ مع ذلك فهذه التماثيل كلها بدع من قطع الفن. فإذا أنت حكمت مندفعا وراء شعورك فقد تعرضت للغلو في مدح ما راقك، وتعرضت كذلك لإهمال ما سواه مما حكم له غيرك من الذاتيين بالتفوق المطلق.
ومهما يكن في هذا الاعتراض على النقد الذاتي من بعض الإسراف - لنسيان أصحابه أن أذواق الناقدين، إنما تتكون بعد ممارسة طويلة لمختلف صور الفن الذي يعرضون لنقده، ومعرفتهم أن الجمال لا يتقيد في الذهن المثقف بصورة مطلقة - فإن فيه كذلك جانبا من الحق غير قليل. فالذاتية في النقد داعية التحكم. والنقد قاض. وكل قاض تحكم معرض للخطأ. ومهما يقل عن فضائل المستبد العادل، فإن فيه إلى جانب فضله نقصا لا محيد له عنه؛ لأنه كمين في طبيعة الاستبداد. ذلك أنه إن أخطأ مرة لم يجد من يصده عن الخطأ، فأمعن فيه فتعرض لفساد كل مقاصده.
Неизвестная страница
على أن النقد الموضوعي الذي يقصد إلى استعراض الأثر الفني من الوجهة التي أرادها الفنان قصد غاية معينة ليحكم بعد ذلك على مبلغ توفيق الفنان في اختيار غايته والوسائل التي سلكها لبلوغ هذه الغاية - لا يخلو من ذاتية النقد بمقدار قل أو كثر. فالناقد كما قلنا قاض. ومهما يتقيد القاضي بالوقائع والأدلة التي أمامه، فإن لنوع تعليمه ولإدراكه وحسه أثرا مباشرا في تقدير قيم هذه الوقائع والأدلة، والقاضي في أمور الفن أقرب للتأثر بالذاتية من القاضي في معاملات الناس؛ لأن الفن لا يرتبط بقوانين مرصودة النصوص كما ترتبط المعاملات، والفن لا يتقيد بقواعد مقررة عند السواد كما تتقيد الأخلاق، بل فيه مزية اللين والمرونة وله فضل الفيض والسيولة. لكنه مع لينه وفيضه ليس حرا إلى حد الفوضى، بل تمسكه الحياة بضروراتها وتخضعه لنواميسها الأزلية الخالدة التي تتحكم في كل مظاهر الحياة. وإذا كنا لم نصل بعد لكشف ضرورات الحياة ونواميسها جميعا في دقة وتحديد علميين فلن يعفينا ذلك من الارتباط بها في كل ما نعمل، والفن بعض ما نعمل.
لكن للنقد الموضوعي على النقد الذاتي فضل سعة الأفق ومزية العدل. فالناقد الموضوعي يعمل عمل القاضي السمح يسعى ليجيء تحت نظره عند النقد بالظروف الفنية وغير الفنية التي أحاطت بالفنان. ولا يتبرع برفض كل ما لا يلذه لذة خاصة، وكل ما لا يرى فائدته إلا بعد إيمان بأن ما كره لا يمكن أن يكون سائغا في الحياة؛ وليتكون هذا الإيمان في نفسه يجب أن يرد هذا النوع الذي ينقد إلى نظائره وأشباهه، ويرى هل لهذه النظائر والأشباه مثل في الحاضر. فإن لم يكن لها مثل في الحاضر رأى مثلها في الماضي، وما كان لهذا المثل من قيمة. ثم هو يستأني قبل أن يصدر حكمه ليرى أهذا المثل القديم قد قضت عليه الحياة قضاء أخيرا فلا سبيل إلى بعثه، أم إنه كانت له الشهرة زمنا ثم كسفه غيره وقد تعيده ظروف إلى الشهرة من جديد. وإذا كانت هذه الثانية هي الحال فهل هذه الشهرة متعلقة بشهوات الناس الأصيلة التي تبدو زمنا ثم تخبو ولكن لتبدو من جديد، أم هي من نوع أقوى حياة وأحرى بالبقاء بل بالخلود.
وقد يظهر فضل النقد الموضوعي على النقد الذاتي واضحا صريحا إذا دخل جماعة من النقاد متحفا كمتحف اللوفر بباريس أو كالمتحف البريطاني بلندره أو غيرهما من هذه المتاحف الكبيرة، التي تضم بين جدرانها آثار الفن في العصور والبلاد المختلفة. هذا الناقد الذاتي تراه إذا وقف أمام قطعة أعجب بها أخذته عن نفسه وملكت عليه لبه، ودفعته إلى أن ينكر ما لا سبيل لإنكاره من جمال الفن في غيرها إذا هو رأى بينهما خلافا أساسيا. أما الناقد الموضوعي فيرى لكل أثر جماله وإن اختلف عنده مقدار ما يخلعه جمال كل أثر على عصره، وعلى العصور الأخرى من نعمة الحياة التي يرجوها كل إنسان في آثار الفن.
وأكاد أحسبني لا أغلو إذا قلت: إن النقد الذاتي ليس نقدا وإنه إلى فن القصص أقرب. وهل تراه يزيد على وصف التأثرات الخاصة لشخص معين أمام مظهر من مظاهر الفن. فإذا كان هذا الشخص عاديا كان قصصه عاديا. وإن كان ممتازا كان قصصه ممتازا. لكنه على كل حال قصص وليس بنقد.
وقد يكون هذا الحكم الذي نصدره أصدق ما يكون على الأدب العربي في هذا العصر. فليس نقد لهذا الأدب جديرا باسم النقد وبالبقاء لمن بعدنا على أنه نقد، إلا ما كان من نوع النقد الموضوعي، وما كلف صاحبه من العناء ما يحتاج إليه النقد الموضوعي. فأما الأدب الغربي فقد يجمع نقده الذاتي بين القصص والنقد. وسبب هذا الفرق راجع إلى نوع الثقافة في الغرب والشرق من جهة، وإلى تاريخ الأدبين من الجهة الأخرى.
فثقافة الغرب قد تأصلت جذورها وتشابكت فروعها، وبلغت من الغزارة مبلغا عظيما. وهي بعد ترجع إلى أصول متشابكة على ما في ثمرها من مظاهر التناقض. ثم إن ما أطعمت به من ثقافات أجنبية قد جاءها على هون وفي أناة وجاءها على يد أبنائها، فتمثلته وأساغته وصار منها وسار في تيارها. ولما كان الأدب مظهرا من مظاهر الثقافة كان تيار الأدب الغربي في كل أمة مرآة لهذه الحياة الغزيرة. وكان كل كاتب وكل ناقد ينهل مع أصحابه من ورد مشترك، فيشارك بذلك غيره من الكتاب والأدباء في أكثر من ناحية من نواحي حسهم وذوقهم.
ولقد عنيت أمم الغرب فيما وضعت من قواعد التربية والتعليم بأن لا تجني على هذه الشركة القومية العقلية. ومع ما تراه من شدة نضال الطوائف ومن اختلاف منازع الأحزاب وتقاتل آرائهم، ومع شدة أوار هذه الحرب العقلية الدائمة الاستعار في الغرب يدرك أهل هذه الأمم تمام الإدراك أن الحزبية والمذهبية يجب أن تكون ثمرات للثقافة، وأن لا تكون أصلا من أصول الحياة. فكما أنك تبعث بأبناء الأمة يتلقون جميعا علوما معينة على طريقة معينة، وكما أن ذلك يظل شأنهم حتى يبلغوا الرشاد العقلي، ويومئذ يختار كل منهم ما يشعر بالميل إليه من أنواع العلوم؛ فينقطع واحد للحقوق وآخر للطب وآخر للهندسة وآخر للتعليم وهلم جرا، ثم يتخصص الطبيب بعد تمام دراسته لطب العيون أو للجراحة أو للطب الباطني، ويتخصص القانوني للمحاماة أو للقضاء أو للتشريع، ويتخصص المهندس للري أو للعمارة أو للكهرباء. فإذا تخصص كل من هؤلاء جاز أن تكون له نظريات جديدة في فنه يدعو إليها، ويطالب أمثاله بالأخذ بها. كذلك لا تكون الحزبية المذهبية في الأدب أو في السياسة إلا بعد الأخذ من تلك الثقافة الغزيرة المشتركة بنصيب وافر.
فالنضال الذي نرى واختلاف المذاهب والأحزاب في الغرب هو كاختلاف ألوان الزهر والثمر في الشجر. هذه الألوان لا يكون اختلافها آخذا بالنظر داعيا إلى التفضيل إذا كانت باهتة ذابلة؛ لأن الأشجار التي أثمرتها ضعيفة السوق ومادة الحياة. وإنما تأخذ بالنظر إذا كانت أمهاتها من الأشجار قوية مملوءة حياة، وكانت تستمد هذه الحياة والقوة من أرض خصبة التربة لا ينفك صاحبها يعمل ليزيدها خصبا وقوة.
وأنت إذا تحدثت هناك إلى مثقف من رجال الدين أو من رجال العلم أو الأدب، أو من رجال الفن، رأيت لأول وهلة الأصل الثابت من الثقافة العامة بادي الأثر عند هؤلاء الرجال جميعا. وهذه الثقافة هي - كما تقدم - متأصلة متشابكة غزيرة. وهي ترجع إلى أصول مشتركة تمثلت كل مطعوم وكل طارئ؛ لذلك صح لنا القول بأن النقد الذاتي لآثار الفن الأدبي في الغرب يجمع بين النقد والقصص؛ لأن آثار الفن ذاتها تصدر عن الثقافة العامة، وتقصد إلى الغاية التي جعلتها هذه الثقافة غايتها.
أما النقد الذاتي للأدب العربي فقصص صرف وليس في شيء من النقد؛ لأنك لا تستطيع - مع أكبر الأسف - أن تقول: إن ثمة في هذا العصر الحاضر ثقافة عربية غزيرة مشتركة الأصول. ولا تستطيع أن تزعم أن أدبنا العربي مظهر هذه الثقافة. فالبلاد التي تكتب العربية وتتكلمها في هذا الزمان الذي نحن فيه قائمة ثقافتها على أرض جرداء، فيها أكثر الأمر نبت مستقيم من مخلفات الماضي المجيد، ومجهودات تنفق لتطعيم هذا النبت السقيم بمظاهر مدنية الغرب الحاضرة. بل إن من الجهود ما ينفق ليطعم بمدنية الغرب غير فرع ولا شجر، ولكن ليلقى بها في هذه الأرض المكسو ظاهرها بالصدأ والمحمل باطنها بميراث الماضي، فلا يستطيع أن ينبت نباتا منقطع الصلة تمام الانقطاع بهذا الميراث . وتلك لعمري جهود ستبقى عقيمة حتى يجيء الزمن الذي يربط ما بينها وبين مدنية شرقية قائمة.
Неизвестная страница
وما أراني أغلو في شيء مما أقول. وبحسبك مقنعا أن تستمع في مجلس إلى قوم اختلفت معاهد العلم التي أنشأتهم. فإنك لن تجد بينهم أي معنى من معاني الاشتراك في الثقافة. بل ترى الشيخ الذي نشأ نشأة دينية لا يكاد يتفاهم مع من تعلم في معاهد الحكومة المدنية. وهذان لا يتصل واحد منهما بصلة التفاهم مع الذين أخذوا من الثقافة الغربية بحظ ونصيب؛ لذلك ترى هذه المجالس تخلو أكثر الوقت من كل حديث مثقف وتدور فيها الأحاديث حول تافه الأمور ومصالح الحياة. هذا على أنك ترى الأحاديث المثقفة أمرا عاديا في أوروبا في كل الطبقات. وترى الكلام في شئون الفن والأدب والعلم تتداوله الألسن على مائدة الطعام، وفي قاعات الاستقبال وفي كل مكان.
هذا التباين في الثقافة بين الفئات المختلفة في الشرق لا يجد حتى اليوم ما يخفف من حدته، بل إن تفشي الجهل في سواد الأمم الشرقية، وما يترتب على الجهل من ثورة نيران التعصب يجعل كل سعي للتقريب بين هذه الفئات يحاط من الريب والشكوك بما يجعل فشله محتوما أو في حكم المحتوم. كما أن هذه الفئات لم تبلغ ثقافة واحدة منها مكانا عليا ينبت من بينها الذين ينسون مصالح الحياة، ويتعلقون بالحق وحده ويجعلون سعيهم في سبيل هذا الحق كل غرضهم في الحياة وأملهم منها. ومصالح الحياة لن تصلح يوما أداة اتصال بين متباين هذه الثقافات للوصول بها إلى أن تتشابك فروعها، وتغزر مادتها وتتقارب ولو في أناة لتكون يوما ثقافة قومية لها من الحكم والسلطان ما لثقافة كل أمة من أمم الغرب.
لكن النقد الصالح يكون أداة هذا الاتصال. والنقد الصالح في هذا الموقف هو النقد الموضوعي البحت. هو النقد الذي يستطيع أن يسيغ كل ثقافة لذاتها، وأن يردها إلى أصولها وأن يبين ما في الآثار الفنية لكل مثقف من أوجه الجمال والقبح والحسن والسوء بالقياس إلى الثقافة التي صدر عنها، وأن يبين كذلك أوجه الاشتراك الصالحة بين هذا الأثر وبين ما سواه من آثار غير هذه الثقافة، وأن يجعل من أوجه الاشتراك هذه وسيلة لترسم المستقبل. فإذا أمكن أن يكون هذا النقد وأن يتجه إلى ناحية الكمال لينال منه أكبر حظ ممكن كان الأمل في تقارب هذه الثقافات في أناة ومن غير احتكاك. أما النقد الذاتي الذي يصدر عن ذي ثقافة معينة لكل آثار الفن والأدب، فقد يكون من أثره أن يزيد ما بين الفئات من تباين، وأن يبعد الأمل في وجود ثقافة عربية أو ثقافة مصرية.
وما أحسب أثرا أدبيا أو فنيا يخلو من جمال وحسن مهما تكن الثقافة التي يصدر عنها، كذلك لا أحسب أثرا من هذه الآثار خليقا بالمدح وحده. فإذا وضع الناقد نفسه في الموقف الذي وقف فيه الفنان، وتحرى الغاية التي قصد إليها والسبيل التي سلك لبلوغ هذه الغاية، فإنه واجد حتما أن هناك حظا من الحسن كبيرا أو صغيرا، كما أن هناك حظا من السوء كبيرا أو صغيرا في موقف الفنان وغايته وسبيله، وإذن فقد وجب عليه أن يبين هذا الحظ من الحسن والقبح، وأن يعالج صلة الحسن بما يراه من مثله في آثار الفن الأخرى ليضع حجرا في أساس الثقافة القومية.
أعلم أن هذا النوع من النقد يحتاج إلى مجهود كبير. لكنه كذلك جم الأثر. وهو وحده الصالح في رأيي لربط آثار الفن المختلفة وإقامة بناء قومي يكون أساس ثقافتنا في المستقبل.
وإن الناقد الغربي مثله حين يعرض لآثار الفن مثل الرجل يدخل في قصر مشيد ثابت الأركان مزين بالداخل والخارج قد جيء فيه بزينة جديدة، وضعت في مكان معين من إحدى الغرف، وهو يبدي رأيه في صلاح هذه الزينة وصلاح المكان الذي وضعت فيه، وهو على علم بالقصر وما اشتمل عليه. فلو أن نقده كان ذاتيا بحتا لم يعتمد فيه إلا على تقديره الخاص وحسه بالجمال، لكان عرضة للتحكم؛ لكنه تحكم نسبي؛ لأن علمه بالقصر وما اشتمل عليه يعدل به عن التورط في فاحش الخطأ، أما الناقد العربي فمثله حين يعرض لآثار الفن كمثل الرجل يذهب إلى أرض يراد تشييد بناء عليها من مواد كثيرة بعضها حاضر وبعضها غائب وهو مكلف الاختيار بين الصالح من المواد الحاضرة وبين ما يجب إحضاره؛ ليكون البناء متينا قويا ملائما للذين يتخذونه مقاما وسكنا. هذا الناقد العربي أدق من صاحبه الغربي مهمة وأشق عملا، وهو بعد لا يحظى بمثل مكانته ولا ينال مثل شرفه، وهو بعد منظور إليه من الفئات المختلفة المتباينة الثقافة بشيء غير قليل من الريبة، وقل أن يحظى من الجمهور بذلك العطف والإعجاب اللذين يحظى بهما ناقد الغرب. لكنه إذا رسم لنفسه غاية التقريب بين الفرق والتأليف بين مختلف منازعها وآرائها، وبيان الصالح وغير الصالح من آثارها، وشمله التوفيق بحظ يجعل عمله مثمرا، إذن فقد مهد السبيل إلى الثقافة القومية، ووضع حجر الأساس في المدينة الفاضلة التي لا تقوم على غير هذه الثقافة.
وما نحسب أحدا يخالفنا في ترتب هذا الأثر على النقد الموضوعي. وما نحسب كذلك أن ما ينفق في سبيل بلوغه من الجهد إلا ينفق في خير سبيل ولخير غاية. والجهد الذي يقتضيه النقد الموضوعي يحتاج من الناقد إلى الرضوخ لنوع ثقافة الكاتب الذي ينتقده وصلة ما بين الكاتب وهذه الثقافة، وموضعه منها وفضل الكاتب أو نقصه وصلته بآثار غيره من الكتاب وهلم جرا.
خذ مثلا كاتبا كمصطفى صادق الرافعي، فهو من الكتاب الذي يرون جمال الأدب العربي في احتذاء أساليب الأقدمين من الكتاب. وهو قد يغلو في تنفيذ فكرته إلى حد التوغل في الماضي والبحث عن آثار الأقدمين على نوع خاص من الأساليب يبدو لأهل هذا العصر في ثوب من التكلف، الذي لا يسيغه غير الملمين بهذه الآثار، ولا يرتاح إليه كثير من الملمين بها ومن يجدون بين الأساليب القديمة ما يتصل بأساليب عصرنا ويتسق وإياها على خير نحو كأسلوب صاحب الأغاني وكأسلوب ابن المقفع في كليلة ودمنة وفي غيره من كتبه. لكن الرافعي حتى عند هؤلاء وأولئك يجيد في بعض الأحايين، ويسمو بإجادته إلى درجة عالية في النوع الذي يعالجه من أنواع الفن، ويتفق له أحيانا من بديع صور الخيال ما يبعث إلى نفس قارئه هذا الأثر الذي يطمع فيه كل فن: الغبطة واللذة. فأنت إذا أردت نقده نقدا موضوعيا وجب أن تبين ما له من فضل، وأن تظهر كذلك أن هذا الأسلوب الذي يكتب به لا يسهل تحميله كل المعاني والصور التي كشف عنها تطور المدنية في هذا العصر.
ولكي تستطيع أن تصف الرافعي أو غيره من الكتاب يجب أن توازن بين أدبه وأدب غيره من مذهبه ومن المذاهب الأخرى. فأنت بهذه الموازنة تجعل القارئ مطمئنا تمام الاطمئنان لحكمك، وتجعل الكاتب الذي تنتقده بعيدا عن أن يطعن في نزاهتك.
واطمئنان القارئ لحكم الناقد عظيم الأثر في درك الغاية من النقد الموضوعي على ما بيناها. وهي غاية سامية على ما رأيت. وليس من غضاضة في أن يجعل إنسان من السعي إليها غاية حياته. •••
Неизвестная страница
هذه بعض خواطر في النقد وردت على الذهن في تلك الفترة من الليل دوناها كما وردت ولم نرد أن نضيف إليها شيئا، وهي لا تزيد على أنها خواطر. ولا نطلب إلى قارئها أن يجعل لها أكثر من هذه القيمة.
أناتول فرانس (1)
الاحتفال ببلوغه ثمانين عاما (في 16 أبريل سنة 1924)
احتفلت فرنسا أول من أمس بأناتول فرانس شيخ مشايخ كتابها في هذا العصر لبلوغه الثمانين عاما. وقد شارك فرنسا في احتفالها برجلها الكبير كل كتاب العالم المتمدين. فليس أناتول فرانس كاتب فرنسا وحدها، وهو ليس كاتب هذا الجيل وحده، إنما هو من كتاب العالم الذين تظل كتبهم للعالم في كل الأجيال وفي كل الأمم. هو هومير، وهو دانت، وهو شكسبير، وهو جيتي، وهو أناتول فرانس. هو الفكرة الإنسانية المجتمعة في نفس واحدة؛ لذلك كان الاحتفال به احتفالا بالفكرة. وإذا صح أن الفكرة هي الحياة في أسمى معانيها، فالاحتفال بأناتول فرانس احتفال بأسمى معاني الحياة.
ومن حق أناتول فرانس على المصريين أن يذكروه يوم الاحتفال ببلوغه الثمانين، فهو كاتب من كبار كتاب العالم. وللكاتب من المكانة في النفوس ما ليس لغيره؛ لأن الكاتب كغيره من رجال الفن - بل أكثر من غيره من رجال الفن - هو أداة انتقال الفكرة بين الناس جميعا؛ وهل كان لغير آثار الفن ومظاهر الفكر خلود على الحياة؟ إن العالم لا يزال يتناقل شعر الأقدمين وحديثهم وما كتبوا معجبا به مقدسا إياه، والعالم لا يزال يجد في آثار الفن مما خلف المصريون القدماء والرومان واليونان متاعا للقلوب والعيون. فالعالم لا يذكر سوى آثار الفن ومظاهر الفكر والفن على صفحات الحياة.
ومن حق أناتول فرانس على المصريين أن يذكروه يوم الاحتفال ببلوغه الثمانين. فقد عرف هذا الكاتب الحكيم ما أصاب مصر من ظلم، وما تتطلع إليه من حرية ومجد يوم كان الوفد المصري في باريس سنة 1919. فلما كتب مارجريت كتابه «صوت مصر» وضع أناتول فرانس له مقدمة شارك بها هذا الشعب المجيد الطامح إلى الحرية، وإلى المجد في آماله وفي طموحه.
وكنا نود أن نذكر أناتول فرانس وأن نشارك العالم في الاحتفال به بشرح فكرته وكتبه، لكن فكرة أناتول فرانس فكرة واسعة المدى، وكتبه من تلك الكتب الدقيقة التي تحتاج منك إلى عناية كبرى. لا يسعك أن تترك صفحة من صحفها من غير أن تلتفت إليها، وأن تشرك القارئ معك فيها. كل صفحة، بل كل سطر، كالماسة الدقيقة قد يفوتك جمالها لأول نظرة تلقي بها عليها، فإذا أنت قلبتها وأنعمت النظر فيها ثم عدت إليها لم تطق بعد ذلك تركها. ومثل هذه الصحف، ومثل تلك الكتب وما تحويه من فكرة وفن ليس مما يهون نقله في كلمة تكتب في صحيفة سيارة.
لكنا مع ذلك نود أن نشرك القارئ معنا في كل مجمل من بعض نواحي فكرته، علنا نكون قد أدينا للكاتب الكبير حقه من الذكر، ولشريك المصريين في آمالهم ومطامحهم بعض ما يجب له من الشكر. •••
أناتول فرانس كاتب، لكنه كاتب محيط بكل ما في الحياة، محب لكل ما في الحياة، ساخر من كل ما في الحياة. هو ليس بالرجل الذي يقف عند أحد مظاهر الحياة ليولع به حبا وينقطع لتقديسه والتسبيح بحمده. وإنما يقف أمام هذه المظاهر جميعا. سواء ما كان منها في الماضي وما هو واقع أمام النظر، وهو يرى في كل منها موضعا لمسرة النفس والعقل، فيبحث عن هذه المواضع يبتغي لنفسه المسرة واللذة، ويطول به البحث فلا يلبث أن يرى إلى جانب المواضع السامية مظاهر الضعف الإنساني فيبتسم، وقد يضحك. وهل الحياة إلا الاضطراب بين القوة والضعف، والرفعة والضعة، والسمو والانحطاط؟ وجوانب الضعف في الحياة هي التي تحبب الحياة إلى أكثر الناس، بل هي حياة أكثر الناس. وهي، على أنها جوانب ضعف في نظر العقل وحده، جوانب القوة في الحياة. أليست الشهوة في الإنسان ضعفا؟ شهوة الحكم وشهوة المال وشهوة المجد وبعد الصوت. لكن هذه هي التي تدفع الإنسان لكل النقائص، هي التي تبعث فيه القوة على الكفاح والسعي والنجاح في الحياة. أفتضحك أنت من سلطان الشهوة الذي يدفع في النفس الحياة، أم تضحك من حكمة العقل الذي يقف عاجزا أمام سلطان الشهوة مكتفيا بالسخر منها ...؟
يقف أناتول فرانس أمام مظاهر الحياة جميعا، ماضيها وحاضرها. وهل سبيل إلى الوقوف أمام مظاهر الماضي غير الكتب وسائر آثار الماضي؛ لذلك يحب أناتول فرانس الكتب؛ ولذلك يفرد لها من داره خير مكان؛ ولذلك يعنى بها عنايتك بابنك العزيز عليك، لا يضن عليها بمشقة. هو قد يعرف أن كتابا نفيسا في بلد سحيق، فلا يزال يسعى ليحصل عليه، ولو كلفه السعي الأسفار وأكثر من الأسفار، ويعدل حبه للكتب حبه لسائر الآثار، فالرسوم والنقوش والصور على أنواعها عزيزة عنده. وهذا الغرام يدفع به إلى الولع بالمجموعات العجيبة النادرة. وقد يدهشك ما تكلف هذه المجموعات من مشقة ونفقة. سافر «سلفستر بونار» بطل رواية أناتول فرانس المسماة بهذا الاسم إلى إيطاليا باحثا عن علبة من الكبريت عليها صورة قديمة تكمل مجموعة من مجاميعه، وعلب الكبريت وما عليها من نقوش ليست أعجب ولا أندر المجاميع.
Неизвестная страница
وهذا العاشق للكتب يجد أكبر اللذة في التحدث إلى ما فيها ومن فيها، وإلى كتابها ومؤلفيها. كان من أول ما كتبه أناتول فرانس رسائل في نقد الكتب والكتاب مجموعة اليوم في أربعة أجزاء بعنوان «الحياة الأدبية». في هذه الرسائل القصيرة صورة من أناتول فرانس، فيها ترى الرجل المطمئن النفس والضمير، الدائم الابتسام، الجامع في ابتسامته بين الإشفاق والاستخفاف؛ وفيها ترى الرجل الذي استطلع صور الحياة في مختلف العصور ومختلف الأمم. ولعل أصدق صور حياة الأمم ما تتناقله من أساطير؛ لذلك يحب أناتول فرانس الأساطير ويلذه أن يرويها هازئا بما فيه من سخف الإنسانية التي لا تزال طفلة برغم ما مر بها من القرون، محبا لهذا السخف حبك لما يبدو من الطفل الصغير الذي تحبه لسخفه.
والحياة في نظر فرانس، الحياة الإنسانية على الأقل، أو قل الحياة كلها، ليست نظاما محكما يستطيع العقل تقرير أسسه وقواعده. إنما هو مجموع مضطرب دائم التجدد والانهيار، للمصادفة في تجدده وانهياره أثر كبير؛ لذلك لا تراه في كتبه روائيا، ولا شاعرا، ولا فيلسوفا، ولا قصصيا. بل تراه حكيما جمع بين الشعر والفلسفة والقصص والرواية، وألف بينها في نظام بديع كما يؤلف الصائغ بين مختلف الدرر المختلفة اللون والشكل فلا يكون من هذا الاختلاف إلا كمال النظام، ولا يكون من جمع فرانس بين صور الحياة المختلفة إلا ما يزيد المجموع حقيقة وحياة.
ولتكون حياته حية حقا؛ وليكون فيها كل ما في الحياة من معان وصور، ينزع هذا الكاتب الكبير في كل كتبه إلى الحوار. وهو يجمع المتحاورين من مختلف طبقات الجماعة على صورة عجب. فهو يجمع بين الفلاسفة والعلماء الذين ملوا الحياة، فكانوا لشدة ما ملوها أشد لها حبا، وأكثر بها تعلقا؛ والشبان الذين لا يزال الأمل في المثل الأسمى يغويهم بالمجازفات والمخاطر، فيجعلهم بمجازفتهم ومخاطرتهم أكثر استمتاعا بالحياة، وإن كانوا أكثر لها احتقارا؛ والعذارى البالغات في الطهر والبراءة حد السخف والتفاهة، والسيدات اللاتي اعتصرن لب الحياة من قلوب الرجال وعقولهم، فهن ينعمن به ويخلعن فتات نعيمهن متاعا للرجال. فإذا اجتمع هؤلاء ودار الحوار بينهم رأيت الإنسانية على حقيقتها، ورأيت العقل المحلق في سماوات التجريد يصل إلى حدود الوهم، ويحسب الوهم حقيقة وحسا، ورأيت العلم المحدق بالمجهر المستكشف بالأشعة الواقف عند حدود الملاحظة يزعم أنه كشف عن حقيقة كل شيء ونظامه، وهو بعد عاجز عن أن يكشف عن كثير من أقرب الأشياء لنا وأمسها بنا. ورأيت هذا العلم وذلك العقل يجدان في اندفاعات الشباب ما يبسم له العالم الفيلسوف. ورأيت في اندفاع الشباب وشهوته وحياته ما يضطرب له العلم والعقل فزعا. ثم كانت الابتسامة التافهة الطاهرة، وكانت النظرة النسائية المملوءة حبا للحياة وحرصا على خلودها ... وأنت بين هذه القوى المتدافعة تشعر بيد الكاتب المحسنة تنقلك من حديث إلى حديث، فإذا كل حديث حق وحكمة، وإذا العقل والعلم والشباب والحب كلها الحياة الدائمة الانهيار والتجدد في نظام لا يضطرب ولا يتعثر. وإذا هذا الحوار الذي جمع بين هذه المظاهر كلها هو صورة الكاتب الذي يرى الحياة من كل جوانبها ويحبها جميعا حب حنان ورحمة كما يحب الأب ابنه، وحب استمتاع ولذة كما يحب العاشق معشوقته. ثم إذا بك قد شغفت بهذا الحوار حبا أن صاغه أناتول فرانس حوارا مملوءا بالحياة والقوة؛ لكنها حياة مطمئنة وقوة هادئة؛ وهو مع حياته وقوته ينساب سلسا في أسلوب لا ينبو، وكأنه الماء الصافي ينم صفاؤه عن كل ما في الغدير من صور الحياة فيزيدها بهاء وجمالا.
وهذه الحكمة التي تجمع العقل والعلم والشباب والحب، وكل ما في الحياة من صورة ومعنى، والتي تدرك كل شيء وتعذر من كل شيء وتشفق على الضعيف إشفاقها على البائس وعلى الأثيم؛ لأنها ترى الإثم بؤسا وضعفا، وترى الضعف بؤسا وإثما؛ والتي تعجب من الحياة بكل صورة الحياة - هي أسمى مظاهر ما يسمونه التشكك واللاأدرية وما شئت من ألفاظ تقابل لفظ (السبتسسم) الفرنسي. وهل ترى في الحياة شيئا ثابتا تقف عند الإيمان به دون سواه؟ أليست الحياة تمور وتجدد وتغير؟ فأي صورة خير؟ أيهما أنعم حالا: هذا الرجل الغني المستمتع بسلطان الغنى وبجاه المال والقدير على أن يحسن ويسيء؛ أم هذا الرجل الفقير المنقطع إلى الله يريد أن يغفر الله له وهو لا يستطيع لنفسه ولا لغيره خيرا ولا شرا ولا يستطيع الإحسان ولا الإساءة؟ وأيهما أكثر بالحياة استمتاعا: هذا العالم الذي بحث أسرار الحياة ووقف من دقائقها على كثير؛ أم هذا الرجل الساذج المفتول الساعد الذي يسير بين الموجودات سيرة الحيوان القوى ويستمتع بها استمتاعه؟ وأيها أحب إليك: هذه المرأة الجميلة التي تجد في كل وقت من إعجاب المعجبين بها ما يملأ قلبها سرورا، وهي مع ذلك معنية بهم جميعا معطية نفسها للحاضر خشية ما في المستقبل من تجاعيد في الوجه ومن بياض في الشعر؟ أم هذه الأم المكبة على عملها في بيتها تنتظر من أولادها رجالا يكونون لها في المشيب شبابا وحين الضعف قوة؟ ... ثم أي الجماعات أسعد: أهي الجماعات القديمة الرحالة العائشة عيش البدو والبساطة؟ أم هي الجماعات المتمدينة المترفة الجامعة إلى جانب بؤس الفقراء ما تنعم الجماعة به من صور الفن والعلم؟
لكن هذه جميعا على ما بينها من تناقض هي صورة الحياة. وهي كلها قد اجتمعت عند أناتول فرانس فوسعتها نفسه فنفثها قلمه، معجبا بها محبا إياها جميعا.
وهو لا يقف عند محبته للحياة، بل هو يحب مظاهر الحياة، على أن تكون هذه المظاهر باقية متجددة. وليس باقيا على الحياة من مظاهرها إلا العلم والفن؛ وهو لذلك بهما مشغوف ولهما عاشق. وهو لشدة شغفه بهما يتمثلها تمثلا. فعلمه فن وفنه علم. اقرأ ما شئت من كتبه، إنك لن ترى فيما تقرأ خيالا ولا وهما. إنما تلك آثار الفكر الإنساني في مختلف العصور؛ وقف عليها فرانس لأن شغفه بالإنسانية جعل الأقاصيص والكتب وما إليها من آثار وصور عزيزة عليه فهو لا يفتأ ينقب فيها من غير ملال ولا ضجر. وهل يمل محب النظر إلى محبوبه؟ وهل يمل التغني بآثاره؟ وهل يمل الابتسام من ظريف سخفه وحمقه؟ إذن أنت إذ تقرأ ما يلذ لفرانس أن يكتبه من قصص الماضي إنما تجتلي ابتسامته الساخرة من غير سوء؛ وأنت تقرأ تاريخ الرومان في كتابه (على الحجر الأبيض) وتاريخ العصر الحاضر في أجزائه الأربعة وفي سائر كتبه، إنما تسمع أغاني هذا المحب الوامق للإنسانية الخالدة بنعيمها وبؤسها، وبجمالها المخيف وقبحها المليح.
لكنه في حبه للحياة يمقت من مظاهر الحياة القسوة والشقاء، ولا يرى في أولئك العظماء الذين يقيمون عظمتهم على الدماء إلا قتلة مجرمين؛ وهو لذلك يحب الاشتراكية لأنه يعتقدها محققة أكبر قسط من العدل، وإن كان يسخر من الإنسان ولو اشتراكيا؛ لأنه يعرفه خاضعا للشهوة، والشهوة لا تعرف العدل. هو يحب الاشتراكية ويمقت القسوة والشقاء والدم؛ ويرى في أبطال الثورة الفرنسية، أو آلهتها كما يسميهم، قوما غلبت أطماعهم مبادئهم فهدموا ركن العدل الذي سعوا لإقامته؛ لأنهم لجأوا للبطش والتنكيل بالحرية. وهل للحياة من غير الحرية معنى أو قيمة؟ أو ليس إذن من واجب كل فرد أن يقوم في وجه كل اعتداء على الحرية مهما كلفه قيامه من تضحية؟ ...
أعلنت ألمانيا الحرب سنة 1914 وكان فرانس يومئذ في السبعين من عمره، وكان في ذروة مجده وحكمته، مع ذلك هجر قصره ومجموعاته المحبوبة، وذهب إلى أصدقائه الوزراء يرجوهم، ويلح في الرجاء أن يكون جنديا يدافع عن الحرية المهانة، وكم كان أسفه عظيما حين اضطر إلى أن يعود إلى حياة السكون؛ لأن الجيش لا يقبل من بلغ السبعين في صفوف الجنود.
ولا يزال فرانس إلى اليوم أكبر نصير للحرية على مختلف صورها؛ ولا يزال نصيرا لحرية الفكر والرأي بنوع خاص. دافع عن هرفيه يوم حوكم؛ لأنه كتب يحبذ إحدى الجرائم. ودافع عن مؤلف (الجارسن) يوم استردت الجمهورية منه (اللجيون دونور). وهو في دفاعه يرى أن كل عمل وكل قانون يحد من حرية الرأي وإبدائه قانون أثيم.
فالحرية وحدها والدفاع عنها هو الذي يثير هذه النفس المطمئنة، وهو الذي يمحو عن شفاه أناتول فرانس ابتسامتها الدائمة. فأما ما بقيت الحرية مصونة فالحياة سخرية لذيذة تستحق أن تحب في سكون وسلام؛ فإذا كان آخر الأجل اطمأن الحكيم إلى الانتقال من هذا العالم راضي النفس هادئا مستريحا. •••
Неизвестная страница
فلعل القدر الذي مد في أجل هذا الحكيم إلى الثمانين يضاعف له في سني الحياة. فليس شك في أن كتابا يكتبه في عام يعدل حياة كاملة تقضى في حماقة من الحماقات التي تنطوي صفحتها بانطواء صحيفة الحياة.
أناتول فرانس (2)
لمناسبة وفاته في 12 أكتوبر سنة 1924
ارتضى أناتول فرانس أن يموت أمس. ولسنا ندري مبلغ ما كان لرضاه من حظ في فاجعة موته. لكنه عودنا أن نقرأ عمن نقلتهم ريشته من عالم الحياة أنهم ارتضوا الموت، وأنهم كانوا بالموت أكثر رضا كلما كانوا من الحكمة أوفر حظا. فإذا صح هذا كان أناتول فرانس قد مات؛ لأنه أراد أن يموت، وكان قد طال احتضاره؛ لأنه لذ له أن يتذوق على مهل درجات الحياة ودركات الموت. وكذلك كان من فضل حكمته أن اتفق كتاب أجله مع ما أراد لنفسه.
ارتضى أناتول أن يموت في منتصف الحادية والثمانين من عمره، وأن يودع العالم ولما لم يمض نصف عام على احتفال العالم بثمانينه. فكأنه استنفد في ستة أشهر تاجا من المجد كان يكفي ليقيم حياة متهدمة سنين طوالا. أو كأن الاعتراف بفضله طمأنه إلى أداء واجبه للحياة فرأى من حق نفسه عليه أن يستريح من الحياة. أو ليس من حق من جهد نهاره أن ينام مطمئنا؟ فمن حق من جهد حياته أن يموت راضيا.
ولقد قضى أناتول فرانس حياة جد وعمل لم يفتر يوما ولم يخمد نشاطه؛ ولم يلهه المجد ولا الجاه ولا المال عن العمل. بل كان كلما علا نجمه زاد سعيه، وكان سعيه في دائرة العلم والفن. وتلك دائرة أزلية خالدة من زادها سعة أجلسته في عالم الخلد على أكثر عروشه سموا. ولعل العرش الذي قدر لأناتول فرانس أن يجلس عليه هو بين أسمى تلك العروش السامية. •••
ولد أناتول فرانس بباريس في 16 أبريل سنة 1844م. وكان اسمه جاك أناتول فرانسوا تيبو، وكان أبوه صاحب مكتبة؛ فشب بين الكتب والنقوش والصور فهويها جميعا. لكنه أحب القديم منها وتعشقه . فجعل يديم في هذا القديم النظر والفكر. فقرأ كتب اليونان والرومان ودرس كتب المسيحية أول نشأتها. لكن غرامه بهذه الصور لم يثنه عن درس عصره وعصور السابقين له. وكان أكثر دراسة للشعراء؛ لأنه كان مولعا بالشعر وبقوله. فكانت أولى رسائله رسالة عن ألفرد دفيني
Alfred de Vigny ، نشرها في سنة 1886م. ثم انقطع للقريض ينشره في مجلات الشباب حتى إذا كانت سنة 1883م نشر مجموعة من الشعر عنوانها
قابلها النقادون جميعا بالاستحسان، وأعجب الناس منها بسمو الفكرة ورشاقة الأسلوب وبروز ذاتية الشاعر.
ثم نشر بعد ذلك عدة كتب تناول فيها بدء المسيحية في انتشارها، ونالت هذه الكتب من الإعجاب ما نالته مجموعة شعره الأولى، حتى لقد قال عنه ناقد: «إن لأشعار فرانس صفاء سماء الشرق وبساطة فرجيل وسلاسة الأقدمين. ولكأنها حديث اللاتين سرى بين أبحاثنا في اللغة وفي الإلهام. وشعره ضاحك ضحك دافنيه، ويشتمله ما يشتملها من أردية الأقدمين التي تمتاز - وإن ألقيت على أكتاف شابة - بدقة في الثنايا وبرشاقة التماثيل.»
Неизвестная страница
ولم يقف أناتول فرانس عند قرض الشعر، بل ظل بحكم نشأته بين الكتب في مكتبة أبيه مغرما بالكتب عظيم الشغف بها والمحبة لها. وكما يود المحب أن يقدم لمحبوبه أجمل الهدايا، كان هو يود أن يهدي الكتب ما يعجبها ويلذها. فشارك في وضع فهرس نشر تحت اسم
Bibliophil illustrè . ثم نشر لمحبي الكتب مؤلفات راسين وكتاب العفريت الأعرج للساج ومؤلفات موليير وغيرها من الكتب، بعد إذ علق عليها جميعا بشروح جليلة الفائدة.
وفي سنة 1887م تولى قسم النقد الأدبي في جريدة الطان. فلم يقف نقده عند ما كان يظهر من الكتب. بل كثيرا ما كان يتناول كتبا قديمة، وكثيرا ما رجع إلى شعراء الرومان واليونان وكتابهم يتحدث عنهم إلى قارئيه، ويتحدث وإياهم عن زمانهم ويشرك قارئيه معهم في الحديث. وكان حديثه يخلق من مقالاته في النقد «صالون» أدب، يأوي إليه الكتاب والفلاسفة قدماء ومحدثين.
ومن ذلك التاريخ بدأ أناتول فرانس يهجر الشعر ويظهر في ثوب جديد. وكان ثوبه هذا أكثر جمالا وبهاء من شعره، ومن ذلك التاريخ قيل عنه: «مهما يكن من فضله كشاعر فقد عقد له لواء المجد عن حق كمتحدث ذي ظرف وكياسة.» لبس ثوب المحدث في كتبه وفي قصصه وفي رواياته، وظل مرتديا إياه لم يخلعه إلا أمس حين عقل الموت قلمه ولسانه. •••
كان فرانس إذن باريسي المولد والنشأة. وكان في مكتبة أبيه يقلب ما يشاء من كتب ونقوش وصور. وباريس عالم يموج بكل صور الحياة؛ ماضيها وحاضرها. اجتمع فيها جلال القديم وبهاء الحديث؛ تتحدث إليك مدارسها ومتاحفها؛ تناجيك طرقها وبساتينها بكل ما قد يجول بنفسك من حديث أو نجوى. كل سؤال لك فيها له جواب. أتريد أن ترى الملك وعظمته؟ إذن فاقصد إلى فرساي فناج هذه التماثيل المنتشرة في كل مكان محدثة عن جلال الملك وسلطانه. أتحب الديمقراطية والجمهورية؟ هذه الحياة هناك فيها كل مظاهر الديمقراطية من حرية ونشاط. وكل مظهر للملك وكل أثر للحرية تجد منه ما تحب في هذه المدينة. والكتب عالم أوسع من باريس وأطول من الحياة. أليس قد اجتمع في صحفها ميراث الماضي جميعا! هذا الماضي الذي لا نعرف أوله وكلما كشفنا منه عن جديد أودعناه بطون الكتب. فكيف يكون حال رجل نشأ في هذين العالمين - باريس والكتب - إذا كان القدر قد وهبه نفسا تتسع لهما وتفيض عنهما، ووهبه قلبا شاعرا يحبهما ويشغف بكل ما فيهما.
تلك كانت حال فرانس. أحب ما في باريس وما في الكتب من حياة الماضي والحاضر؛ وكان حبه لهذه الحياة أول شبابه قويا ينبض به قلبه. لكن قلبه كان رفيقا وإن نبض؛ لأن قلبه كان في حكم عقله وتحت سلطانه. فلما آن للشاعر أن يضع قيثارته ليترك المكان للمحدث الكيس الظريف كان حب فرانس قد شمل الحياة جميعا. والحب إذا اتسعت دائرته كان لطيفا رقيقا؛ كان حبا يزنه العقل ولا تلهبه الشهوة؛ كان حب الأب لأبنائه الكثيرين لا حب الأم لطفلها الوحيد: هذا الأب الذي يبتسم مغتبطا لابنه المجد، ويبتسم مسرورا لابنه الثاني حاضر البديهة، ويبتسم فرحا بالطفل الصغير يتعثر حين يجري يريد أن يمسك فراشة أمامه. لا تلك الأم التي تخاف على صحة ابنها إن جد، وتخاف عليه الحسد إن بدا ذكاؤه، وتخشى عليه الخطر إذا تعثر. وهل كان لفرانس أن يرى في الحياة خيرا أو شرا؟! وما حكمة الحكيم إذا ظل يخضع للشهوة خضوع الجاهل لها؟!
كانت حكمة فرانس إذن باسمة؛ لأنها كانت محيطة بحياة العالم بل بحياة العوالم؛ وكانت ترى في كل شيء عذره؛ وكانت لا تعرف شيئين متناقضين: أليس الخير والشر جميعهما أعمالا لبني الإنسان؟ وهل بينها من فرق إلا ما بين الزيتون الأخضر والزيتون الأسود من فرق في اللون على تقاربهما في الطعم؟ لكن الخير يجب أن يكون، والشر يجب أن يكون، كما يكون الوجود والعدم والماضي والمستقبل. ويجب أن لا يعرف الناس أن الوجود والعدم لا فرق بينهما؛ وأن الماضي والمستقبل لا وجود لهما. بل فليعرفوا فلن تغني عنهم معرفتهم شيئا.
على أن هذه الحكمة الباسمة إلى حد السخر بما في الحياة لم تدفع صاحبها يوما إلى التخلي عن الحياة والزهد في الناس. بل لقد كان فرانس يحب الإنسانية حبا جما. وكانت قاعدة الحياة عنده العبث بالناس والإشفاق عليهم. لكن عبثه بهم كان بريئا وإشفاقه عليهم كان عظيما. نكبت روسيا بالمجاعة بعد قيام الحكومة البلشفية فيها، وأعطي فرانس جائزة نوبل وقدرها اثنا عشر ألف جنيه فوهبها لمنكوبي المجاعة من الروس. وكثيرا ما دعاه إشفاقه على طبقات العمال والبؤساء إلى أن يحتمل من أجلهم مشقة وعنتا.
لم يتخل فرانس عن الحياة ولم يزهد العمل، ولقد يدهشك أن تعرف أنه كتب أكثر من خمسين كتابا كلها حكمة بالغة. وقد يزيدك دهشة أن تعرف أنه لم يخط في هذه الكتب سطرا من غير أن يزنه أحكم الوزن ومن غير أن يختار له أسلس اللفظ وأفصحه وأمتنه. ذلك بأنه كان يرى النبوغ نتيجة جد وسعي متواصل لتنمية هبة تخلعها الطبيعة على مختاريها. فأما الذين يكتفون مما تهبهم الطبيعة ببريقه فأولئك لا ينبغون ولا يعرف الناس لهم قدرا. •••
واليوم ارتضى أناتول فرانس أن يموت بعد إذ خلف للإنسانية ميراثا يبقى جديدا على كل زمان جديد. واليوم ينتقل فرانس من بين ذويه وأهله ليبقى خالدا بين الناس جميعا. واليوم تتبادل عوالم العلم والفن والأدب والحكمة التعازي فيعزيها: إن فرانس خلدت حكمته، ومن خلدت حكمته لا يموت.
Неизвестная страница
أناتول فرانس (3)
أشهر مؤلفاته
قل بين القراء من لا يعرف تاييس، فكثيرون من رأوها في الأوبرا تمثلها السيدة منيرة المهدية، أو على الشريط السينمائي، وكان أولاء قد أحبوها، لكن الذين عرفوا تايييس في قصة أناتول فرانس أكثر لصاحبتهم حبا، وإن كانوا أقل من السابقين عددا.
وهؤلاء دفعهم حبهم فرأوا تاييس الأوبرا وتاييس السينما، وعشقوا موسيقى الرواية وصورة بطلة الشريط، لكن هذا العشق لم يزدهم غراما بالراقصة القديسة؛ لأن قصة أناتول فرانس تشمل الموسيقى وتشمل الصورة جميعا، فليست نبرة من النبرات ولا جواب ولا قرار يهز نفسك عند سماع أوركسترا تاييس إلا كان له مقابله من هزات النفس أثناء قراءة القصة. فأما صورة الشريط فلا تعدو أن تكون خيالا للحقيقة التي يصورها فرانس. وأنت إلى جانب الموسيقى والصورة مغمور خلال القصة بعالم بديع تخلقه ريشة الكاتب العظيم، فلا تلبث في انتقالك من صفحة إلى صفحة ومن حديث إلى حديث أن تشعر بلذائذ مختلفة تتمتع بها مشاعرك جميعا: يتغذى بها عقلك، وتسر لها نفسك، ويطرب لها فؤادك، ويبتهج بها قلبك، وتنتعش بها عواطفك، ولا يبقى عصب من أعصاب الحس إلا ينال من الاستمتاع نصيبا يذره مطمئنا في نشوته ناعما رضيا.
مع ذلك فتاييس قصة ليس أبسط منها، هي خلو من الوقائع ومن المفاجآت ومن الاضطراب، وهي قد تبدو للنظرة العجلى لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، لكنها لدى إنعام النظر قصة صادقة قوية فيها كل ما في العالم من سخر الحب والألم بالناس. •••
فقد ولد بفنوس بالإسكندرية من أسرة ذات نبل، لكن أهله لم يكونوا يمدونه من المال بما يسد مطامع لذائذ الحياة عنده، فلما كان في العشرين من سنه لقيه راهب دله على طريق الهدى الذي يؤدي إلى لذة الخلد من غير حاجة إلى المال، فنسك وانقطع إلى العبادة في الصحراء بين المتقشفة والمعتزلة، ولم يطل به الزمن حتى صار قديسا بين الرهبان، وصار له تلاميذ وأتباع يأخذون عنه قواعد التقى والإيمان.
وقضى نسكه أن يذكر ماضي شبابه ليقدر شوهه وقبحه، فذكر يوما أنه رأى في ذلك الحين على مسارح الإسكندرية ممثلة تدعى تاييس بارعة الجمال، يثير رقصها البديع شهوات النفوس، وتدفع حركاتها الموسيقية الأرواح إلى الضياع في حمأة الملذات، وذكر أنه اندفع يوما إلى دارها فلم يرده إلا حياء الشباب وضيق ذات اليد، وأثارت هذه الذكرى في نفسه صورة الراقصة ودقائق جمالها الباهر، فاستغفر ربه من نزغ الشيطان واعتزم خلاص هذه الروح من الخطايا لتخلص معها أرواح كثيرة؛ وليكون هذا الجسم الذي أبدعه الله مثلا للجمال دار روح لا يقل عنه جمالا.
ولم يثنه عن عزمه نصح أخ له ذي فضل وتقى، بل ودع تلاميذه وأتباعه وهجر الصحراء، وسار في طريقه إلى الإسكندرية يدعو كل من لقيه إلى حمى الله، ويدعو الله غير وان أن ينزل على تاييس هداه، ولما بلغ المدينة استعار من صديقه القديم نسياس ثوبا ستر به ملابس الراهب، وذهب إلى المسرح فرأى تاييس اكتملت فيها روح المرأة فازدادت بهاء وسحرا، ثم دلف إلى دارها يدعوها إلى حمى الغفور الرحيم.
ولم يجد الراهب عنتا في بلوغ غايته؛ فقد ولدت تاييس في عائلة فقيرة، ونشأت نشأة دينية، وأحبت في طفولتها ألوانا من التقى، وحين ألقى بها الشباب في يم الحياة أحبت فتى عريض الجاه عظيم الثروة أذاقها لذائذ العصر طرا، فلما أترعت كرهته فهجرته فذهبت إلى المسارح راقصة بين الراقصات، فبرزت عليهن بفتنة جمالها ورشيق قدها ولين حركاتها، فسحرت الناس وصارت تاييس الإسكندرية يرتمي عند أقدامها كل عظيم، وينثر تحت نعالها الذهب والجوهر. ثم سئمت هذه اللذائذ المضنية حين خشيت أن ترتسم تجاعيد الزمن على جبينها النقي، فلما ناداها الراهب إلى حمى ربه عاودها رجع من تقى الشباب، فلم يطل ترددها وتبعته حتى بلغ بها دير الأم «البين»، فأسلمها إليها وسجنها في غرفة ضيقة لتطهر نفسها من رجس العالم، ولينسي جسمها لمس الأيدي ومس الشفاه وحرارة الأنفاس ورعشة القبلات.
وعاد بفنوس إلى تلاميذه في الصحراء؛ لكنه عاد عامر النفس بتاييس، فكان لا يذكر غيرها ولا يقترن بعبادته إلا كمال جمالها. فاستغفر ربه واستعان على الشياطين بكل ما في الدين من عون ومدد، ولم ينجه الدين من نزغ الشياطين فترك صومعته وهام، فوجد في الصحراء عمادا رفيعا منفردا، اعتلاه كي يتعرض جسمه للتلف بنار الشمس وزمهرير الشتاء ومياه الأمطار، لعل نفسه تصلح بتلف جسمه. لكن خيال تاييس لم يفارقه، فتولاه اليأس ونزل من عليائه وعاد لهيامه فصادف قبرا خربا فاتخذه ملجأ وسكنا، لكن خيال تاييس لم يفارقه داخل القبر أيضا. وإنه لكذلك إذ مر به رهبان عرف منهم أن آية من السماء دلت كل ناسك على أن أنطوان رئيس متدينة الصحراء قد آن له أن يلقى ربه، وأن النساك جميعا قد هرعوا إليه كي يباركهم قبل موته. فسار بفنوس معهم وقد ملأ الهم نفسه أن تجافت آية السماء عنه، فلما كان عند أنطوان تضرع إليه أن يباركه وأن يستغفر الله له، فاستدنى أنطوان بولس الساذج ليتكلم، وانفتحت السماء أمام الساذج فرأى من أمر ربه أن تاييس توشك أن تموت يحفها الإيمان والخوف والحب، وأن بفنوس سيبقى يعذبه الغرور واللذة والشك، وأعلن ما رأى، فانطلق بفنوس وقد انقلب شكه يقينا وإيمانه كفرا، وجعل يلعن السماء والآلهة، وأسرع يطلب تاييس في بيت «البين» يريد أن يضمها إلى صدره، ويستمتع وإياها بالحب ولذته، ويدفع إليها من حياته حياة تمد في أجلها وتغفر له ما أذنب في هدايتها. وألفاها في النزع تستقبل فجر صباح الأبد وترى الملائكة والقديسين، فناداها ألا تذعن للمنون وأن تبقى لتحب، فلا حق في الحياة إلا الحب. لكن تاييس ارتضت الموت بعدما استنفدت الحياة، وتركت هذا البائس المسكين يلقى من «البين» ومن عذاراها لعنة لم تزعجه بعدما كفر.
Неизвестная страница
هذه قصة تاييس ، وهي تبدو لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك؛ فكيف ينقلب الناسك القديس كافرا والراقصة البغي تقية بتولا؟!
والحق أن الخرافة القديمة التي بعثها أناتول فرانس في هذه القصة لم تشر إلى شيء من صبا بفنوس وميله لتاييس، ولم تنته بفنوس إلى الإلحاد وإلى حب تاييس، وإنما ذكرت أن تاييس كانت فتنة الإسكندرية حتى بلغ من غيرة محبيها أن كانوا يقتتلون عند بابها، فكان هذا الباب ملطخا أبدا بالدماء. وذهب بفنوس عندها، فلما دعته إليها طلب غرفة بعيدة عن الأنظار، وكانت كلما دخلت به إلى غرفة كرر طلبه، فلما كانت آخر الغرف قالت له: إن كنت تريد البعد عن الناس فهذه غرفة لا يسمع أحد لك فيها ركزا؛ لكنك غير ناج من عين الله وإن حاولت. فلما علم أنها تؤمن بالله وباليوم الآخر وتخاف عقاب الله وترجو ثوابه دعاها للنسك، فقبلت بعد شيء من التردد، وظلت ثلاث سنين رهن محبس ضيق تعذب جسمها لتطهر روحها، فلما انتهت تلك السنون باركها بفنوس وأصبحت قديسة يقام لها عيد في ثامن أكتوبر من كل سنة، وظل بفنوس في الصحراء يفوح منه شذا القداسة، ويجتمع حوله المؤمنون.
لكن أناتول فرانس لم يرض أن يصدق هذه الرواية؛ فقد ذكر تاريخ القديس بفنوس أنه وقف بمجمع تير سنة 335 لميلاد السيد المسيح في وجه القائلين بضرورة انفصال الراهب عن زوجه لما في ذلك من مقاومة الطبيعة ومخالفة ما يفرضه الزواج لكل من الزوجين. فبفنوس إذن كان يؤمن بأن للطبيعة سلطانا لا يقاوم. وهل سلطان أقوى من سلطان الزهرة؟! ولما كان لكل خرافة في التاريخ أساس، فلا بد أن يكون للخرافة التي اتشحت باسمي تاييس وبفنوس أصل هو الذي صوره لنا أناتول فرانس.
ولم لا تنقلب البغي قديسة بتولا؟ ألم تسكب المجدلية دمع التوبة عند أقدام السيد المسيح فطهرت من الرجس، وصار مقامها في السماء بين المقربين؟ وإذا كان للبغي أن تنقلب بتولا فللقديس أن ينقلب ملحدا؛ وكما فتح الحب للمجدلية باب التوبة فقد فتح لبفنوس باب الخطيئة؛ ولو أن بفنوس أخطأ قبل أن يحب لصهره الحب وطهره كما صهر تاييس وطهرها، لكنه طهر قبل أن يحب فاستحال حبه خطيئة كما تحيل النار الماس فحما. ذلك سلطان الطبيعة وتلك سنتها، لن ينجو منه أحد ولو كان راهبا.
ليست تاييس إذن لهو خيال ظريف يلذه أن يبهرك، وإنما هي صورة صادقة من صور الحياة، وهي أكثر صدقا أن تمت بالإسكندرية في القرن الرابع المسيحي حين كانت مدرسة الإسكندرية زاهرة، وكانت آراء الفلسفة من زهد أو إباحة تشتبك مع طقوس الدين وألوان الإيمان اشتباكا رفيقا لا عنف فيه ولا جفاء، وكانت أبيقورية الترف واللذة الفاشية في المدينة لا يؤذيها انتشار المتقشفة والرواقيين في الصحراء. فلا عجب وهذه هي الحال أن جذب جمال الإيمان بغيا، أو استغوت نعمة المدن ناسكا.
لكن أناتول فرانس لم يكفه أن لا تكون قصته عجبا، فجعل بغيه التي نسكت متدينة بدء حياتها، وجعل ناسكه الذي بغى مترفا بدء حياته، ثم نقل الشباب كلا منهما إلى نقيض نشأته. فلما آن للحياة أن تنحدر إلى منبت الطفولة عاد كل منهما إلى عهده الأول؛ فبغى الناسك، ونسكت البغي.
وقصة تاييس هي قصة هذا الانتقال الأخير. وقد وصف أناتول فرانس في هذه القصة حياة ذلك العصر أدق الوصف، فرسم الصحراء ومن فيها من المعتزلة، وما فيها من أكواخهم المنشورة على الرمال، وما يعالجونه من طقوس العبادة وأنواع التقشف، ورسم بذلك صورة المؤمنين بالدين أول نشأته: يغلون فيه إلى غير حد، ويقومون بفرائضه على صورة لم يتوهمها صاحب الدين يوم أعلنه للناس. ورسم الإسكندرية وما فيها من ترف وما تصبو إليه نفوس أهلها من لذائذ، وما يدور في مجالس فلاسفتها من حديث. لكنه فيما صور من ذلك كله كان أناتول فرانس في أسلوبه وفي تفكيره، وفي ابتسامته وفي سخره وفي إشفاقه، فلست تنسى لحظة وأنت تقرأ القصة أنك تقرأ أناتول فرانس؛ ذلك بأن الكاتب خيل هذا العالم القديم أمامه بما شاء بحثه وعلمه، ثم نظمه كما يريد، ونقشته ريشته بعد أن تم نظامه، فبرزت تاييس للقارئ صورة من نفس فرانس ومن العالم القديم مطبوعا فيها. •••
ولعل أقل صور أشخاص القصة وضوحا صورة تاييس، فأنت لا تستطيع أن تعرف عنها أكثر من أنها راقصة بارعة الجمال، فتنت الإسكندرية، فلما خافت تجاعيد الزمن ودعاها بفنوس إلى الهدى لبت دعوته، لكنك لن تجد في القصة كلها شيئا يميز تاييس عن كل راقصة جميلة. فمن أي نوع كان جمالها؟ وأي نفس كانت تختفي تحت هذا الجمال؟ وما ميول هذه النفس وما طبيعتها؟ وما عسى أن تكون الخواطر المبهمة التي تمر بها؟ ذلك شيء لا يحدثك فرانس عنه، وذلك ضعف تجده في كل تآليفه؛ فبطلاته الجميلات نسوة لا ذاتية لهن. ولعل سبب هذا الضعف أن نفس فرانس كانت أقوى من أن تتمثل نفس امرأة كملت فيها حياة المرأة. وهذه «تريز» بطلة الزنبقة الحمراء، وهي مثال المرأة في نظر الكاتب الكبير، لا تزيد صورتها على صورة تاييس وضوحا. أو لعل سبب الضعف ما يسبغه فرانس على هاتيك البطلات من ثوب حكمته، وما يجريه بين شفاههن من حديث لا عهد لامرأة به من عهد حواء! ... أم إن تشابه صور النساء في كتب فرانس لم يكن ضعفا، وإنما كان مرجعه عقيدة فرانس في المرأة؛ فهو لم يكن يراها خاضعة لحكم العقل ولما يدعو إليه من تردد واضطراب يؤدي إلى اختلاف نفوس الرجال في الصور والألوان والمشارب، بل كان يراها تسير في الحياة متأثرة بهدي الفطرة وشهواتها السليمة غير خاضعة لتمويه الفكرة البديع الألوان. وهو لذلك لم يكن يرى موضعا للتفرقة بين صور نفوس نسائه، فهن عنده سواسية في السمو فوق مدارك الفكر، وفي الانحدار مع ميل الهوى. وتاييس الراقصة، وتريز زوج الوزير، وألودي أخت المصور، وكاترين بائعة الدنتلا، وملاني خادمة البيت، جميعا سواء؛ يختلفن في المظهر، لكنهن يلتقين عند دوافع شهوات الفطرة. ولم تقصر ريشة فرانس في رسم اختلاف المظهر وتباين الميول الاجتماعية رسما صادقا دقيقا. فأما وصفه لنفس أية من نسوة كتبه فيصدق عليهن جميعا؛ فكل امرأة تهوى في الرجال محبتهم إياها وإعجابهم بها، وتحرص من حياتها على ما يجلب هذا الإعجاب وتلك المحبة، وتعجب من الرجل الذي يحبها وتقسو في محبته قسوة الشحيح على ماله.
وهل بين النسوة امرأة مهما تبلغ من الطهر، ومهما تكن زوجا وأما، تتوهم ذبول جمالها في غير الصورة التي رسمها أناتول فرانس لتاييس وقد عادت يوما من المسرح إلى منزلها الغني المترف، فجلست في «كهف العذارى» تبتغي الراحة من عناء رقص بالغت في إتقانه، فأحيت به ما مر بخاطر كل مصور وكل رسام وكل شاعر من بديع الخيال، «ثم استشفت في مرآتها نذر انحدار جمالها، وفكرت في فزع أن اقترب حين الشعر الأبيض وتجاعيد الوجه، وعبثا حاولت تسكين روعها بما حدثت به نفسها من أن إحراق بعض الأعشاب والنطق ببعض تعاويذ السحر يكفيان لإعادة نضارة اللون، فإن صوتا لا أثر للرحمة فيه صاح بها: «إن الهرم مدركك يا تاييس لا محالة.» وأثلج جبينها عرق الفزع، لكنها عادت فنظرت إلى نفسها في المرآة نظرة كلها العطف، فألفت نفسها لا تزال جميلة بأن تحب. فابتسمت لصورتها وتمتمت: ليس في الإسكندرية امرأة تستطيع أن تنافسني في ميس القد وخفة الحركات وبهاء الأذرع؛ والأذرع أي مرآتي هي سلاسل الحب حقا.»
قد تختلف عبارة كل امرأة حين تعرب عن هذا الإحساس، لكنه يمر بنفوسهن جميعا على هذه الصورة يختلط فيه الخوف بالرجاء والضعف بالقوة، وتتأثر فيه أعصابهن وعواطفهن بأثر واحد. ذلك ما يؤمن به فرانس؛ ولذلك لا يكون تشابه نسائه ضعفا، بل يكون كمالا لصدقه في تصوير الطبيعة النسوية. •••
Неизвестная страница
فأما صورة بفنوس في قصة تاييس فبالغة حد الكمال في وضوحها. وهل قصة تاييس إلا صورة بفنوس، وهي صورة المؤمن العبوس الإيمان. وهي لذلك النقيض من صورة أناتول فرانس اللاأدري المتشكك الباسم في لاأدريته وتشككه، الساخر من اللاأدرية والإيمان جميعا، الضاحك للحياة ومما في الحياة ضحكة تشوبها مرارة الهزء بكل شيء، والإشفاق على كل شيء. ولعل أناتول فرانس قد انتقم في تصوير بفنوس للشك من الإيمان كما انتقم في تصوير نسياس للإيمان من الشك، وإن كان انتقامه من الإيمان قاسيا، وانتقامه من الشك لطيفا رفيقا.
فقد اعتزل بفنوس الحياة وانقطع لله فأزمعت الحياة انتقامها من احتقاره إياها، فسلطت عليه الزهرة آلهة الجمال والحب وألبستها صورة تاييس ومكنت لها من نفسه، وأقامت عليه الآلهة حربا بدأتها بالخدعة، فظلت به حتى قادته إلى المسرح ثم وقفته في حضرة تاييس، وهي فيما فعلت من ذلك إنما كانت تسخر من إيمانه أن جعلته يتوهم أنه صاحب السلطان على مشيئته، فكان باسم الإيمان يحب تاييس، وباسم الإيمان يعبد جمالها، فلما طالت الحرب وشعر الراهب بالزهرة تغالب الإيمان وتكاد تغلبه، تولاه الفزع وجعل يحارب نزغ الشيطان في نفسه. لكن سلطان الحب رفيق شديد، فلم يستطع بفنوس مغالبته، بل انتهى إلى الفكر حين عرف أن تاييس مشرفة على الموت.
في هذه الحرب بين الحياة والزهد في الحياة تجلت نفس بفنوس مملوءة حقدا على العالم وأنانية وكبرا؛ فهو يزعم لنفسه سلطانا على الكائنات جميعا، ويتهم كل خارج على عقيدته بالنقص والرذيلة، ولما كان التسامح مظهر الحياة فقد كان هذا الجاحد المتعنت عدوا للحياة. وماذا يستطيع الرجل إن هو نصب نفسه للحياة عدوا؟ ولو أن بفنوس صانع الحياة واتخذ الزهد لذة من لذائذها وجعل من انقطاعه لله فرضا يؤديه للحياة لما عصفت به وبإيمانه، لكنك تلقاه في طريقه إلى الإسكندرية وفي حضرة تاييس وفي مأدبة الفلاسفة وفي تعذيبه نفسه فوق العماد، وداخل القبر، قاسي النظرة يود أن يحترق كل ما لا يعجبه، وتستمع له فإذا حديثه سوط عذاب مسلط على أجمل ما في الحياة وأبهاه. ولست أذكر لك كيف صوره أناتول فرانس في حالاته، ولكنك إذ تقرأ «تاييس» لا تستطيع أن تحول بين نفسك وبين الإشفاق على رجل تتلاعب به صروف الحياة، وتجعل من عظمته ومن إيمانه ألم نفسه وسخرية سواه.
ولو أنه اتخذ الزهد لذة من لذائذ الحياة لما عصفت به. وهذا هو في طريقه إلى الإسكندرية قد لقي «تمكاس» المتشكك، فألفاه وقد أدى به ازدراؤه الحياة إلى التخلي عما فيها جميعا. مع هذا كان «تمكاس» راضيا؛ لأنه كان قد نزع من نفسه كل أثر للطمع في هذه الدنيا وفيما بعدها، واتخذ طقوس حياة بوذا وإن لم يؤمن بدينه. فالزهد لم يكن إذن سبب عذاب بفنوس، وإنما كان حرصه على النعيم سبب عذابه. وقل أن يحرص إنسان على نعيم الآخرة كلها ويزهد في متاع الدنيا ونعيمها جميعا.
هذا ما يريده أناتول فرانس حين فصل عذاب بفنوس وسخر منه، ولو أن بفنوس كان على إيمانه متسامحا وعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ولآخرته كأنه يموت غدا، وأوغل في الدين برفق، لما تقطعت به الأسباب، ولما انتقل من النقيض إلى نقيضه فكفر بعد إيمان وطلب لذة الحياة بعد الزهد فيها. •••
صورة بفنوس هي النقيض من صورة أناتول فرانس. وأناتول فرانس لم يدع واحدا من كتبه إلا رسم فيه صورة من نفسه؛ فهو «برجريه» في أربعة أجزاء (تاريخ العصر)، وهو «بروتو» في (الآلهة ظمأى)، وهو «بيير» في أربعة كتب كتبها عن طفولته وبدء صباه، وهو «جيروم كوانيار» فيما عزاء من قصص وذكريات ومذكرات إلى «جاك تورنبروش»، وهو «نسياس» في قصة «تاييس». وأي مؤلف ينسى نفسه حين يكتب؟ وأي مؤلف يكتب عن شيء غير نفسه؟ وأي قارئ يرى فيما يطالع غير نفسه؟ والذين يقرأون أناتول فرانس سعداء؛ لأنهم يجدون في صورة المؤلف ما يجذبهم إليها ويجعلهم يحبونها إن كان صاحبها قد اتسعت نفسه فوسع العالم وما فيه حبا، ووسع العالم وما فيه سخرا وإشفاقا.
نسياس أبيقوري مترف يتمتع من الحياة بكل لذائذها من غير تهافت على هذه اللذائذ أو حرص عليها، وقد استمتع «بتاييس»، فلما جاء صديقه القديم بفنوس لهدايتها وطلب إليه رداء يستر به مسوحه نصح إليه نسياس أن يحذر انتقام الزهرة، ولم يفكر في أن يصده عن غايته، فلما وثق بفنوس من تاييس صحبها إلى مائدة كان نسياس بين من دعوا إليها. وقضت تاييس الليل تسمع إلى حديث الفلاسفة، فلما آن الليل أن يولي كان القوم قد أمال الشراب أعناقهم ، فخرج بفنوس وتاييس إلى دارها فحرقا متاعها وانطلقا يبغيان الصحراء، فأحاط بهما أطفال رجموهما بالأحجار، ولم ينجهما منهم إلا أن جاء نسياس فنثر الدراهم بين الصاخبين فشغلهم ونجا بصاحبيه. ثم كان بين الثلاثة حديث يمثل نفس نسياس، ويمثل نفس فرانس، ويمثل الشك واللاأدرية في أجمل صورها؛ فقد ذكر نسياس في أسف مطمئن مغادرة تاييس الإسكندرية، فأجابته أنها ملته وأمثاله المترفين وملت ما تعرف، وأنها تريد البحث عما لا تعرف، وترجو أن تجد المسرة في الألم كما قال لها بفنوس؛ لأن بفنوس قد ملك الحقيقة.
قال نسياس باسما: أما أنا أيتها النفس الصديقة فأملك الحقائق، ولئن لم يك لديه منها إلا واحدة فهي عندي جميعا؛ فأنا أكثر منه ثروة وإن لم أكن، والحق يقال أكثر منه لذلك كبرا ولا أعظم سعادة.
ولما رأى الراهب يسدد إليه نظرات كأنها اللهب قال: لا تحسب يا عزيزي بفنوس أني أراك سخيفا كل السخف أو بعيدا كل البعد عن موجب العقل، ولو أني قارنت حياتي بمثالك لأرتج علي القول أيهما أفضل لذاتها. فهأنذا ذاهب الآن أغتسل في الحمام الذي أعدته كروبيل ومرتال، ثم آكل بعد ذلك صدر دراج من دراريج فاز، ثم أقرأ للمرة المائة بعض أساطير «آبيوليه» أو بعض رسائل «بورفير»، أما أنت فستذهب إلى صومعتك فتنيخ كما ينيخ الجمل الوادع، وتلوك من التسابيح ما طال بك عهد مضغه ولوكه؛ وإذا أمسيت تبلغت بالفجل من غير زيت. أترى يا صديقي أننا فيما نقوم به من هذه الأعمال المختلف ظاهرها ألا يذعن كلانا لعاطفة واحدة هي وحدها المحرك لأعمال بني الإنسان طرا؟ فكلانا يسعى وراء لذته يبغي غاية مشتركة هي السعادة، هي هذه السعادة المستحيلة. فليس من حسن الذوق يا صديقي أن أنسب إليك الخطأ إذا أنا نسبت إلى نفسي الصواب. «وأنت يا تاييس فاذهبي وتمتعي، وإن استطعت فكوني في الزهد والتقشف أكثر سعادة مما كنت في الغنى والمسرة، وإنك على كل حال لتحسدين. فإذا كنت أنا وبفنوس قد أطعنا طبعنا ولم نسع إلا وراء لون واحد من ألوان الرضا، فإنك أيتها العزيزة تكونين قد طعمت في الحياة لذائذ متضادة قلما كان لإنسان من الحظ أن يعرفها. والحق أني أود أن أكون مدى ساعة قديسا كعزيزنا بفنوس، لكن ذلك ما ليس لي إليه سبيل. فالوداع إذن يا تاييس، اذهبي حيث تقودك القوى الخفية في طبيعتك وفي حظك، اذهبي تصحبك خير أماني نسياس. ولئن تكن هذه الأماني خلاء فهل أستطيع أن أمنحك خيرا من عقيم الحسرات وفارغ الأماني ثمنا لما اشتملني بين ذراعيك من لذيذ الأحلام التي لا يزال خيالها إلي باقيا؟! الوداع يا من أحسنت إلي! الوداع يا رحمة لا تعرف أنها رحمة! يا فضيلة تحوطها الأسرار! يا لذة الناس طرا! الوداع يا أبدع صورة ألقت بها الطبيعة على وجه هذا العالم لغاية غير معروفة؟»
فلما أتم حديثه كان الراهب قد نفد صبره، فانسابت من فمه لعنات نظمها أناتول فرانس خير نظام، فكان جواب نسياس أن نظر إليه نظرة رفق وعطف وقال: الوداع يا أخي، ولعلك مستطيع أن تحتفظ حتى الفناء الآخر بكنوز إيمانك ومقتك وحبك! وداعا يا تاييس! عبثا تنسينني ما دمت حفيظا على ذكراك.
Неизвестная страница
كذلك قال نسياس. ولا يحسب القارئ أني أحسنت النقل، فكل نقل لعبارة أناتول فرانس إلى غير لغته يجني عليها، وما أحسب أحدا ممن حملوا أنفسهم عناء ترجمته إلى غير لغته إلا نظر إلى ما صنع فذكر قول نسياس: لو أن الفضيلة حصرت في المجهود وحده لكانت الضفدعة، التي تنتفخ لتعظم حتى تصير كالعجل، مؤدية أكبر عمل من أعمال الرواقيين. •••
تاييس وبفنوس ونسياس هم أكثر أشخاص قصة تاييس حياة وحركة، وقد أحاطهم فرانس بعدد جم من الرهبان أمثال بفنوس، والرواقيين أمثال نسياس، وبجميلتين تأكل الغيرة صدرهما حقدا على تاييس لتفوقها عليهما في الجمال. ولئن لم يكن لهذا العدد الجم غير دور ثانوي في القصة، فقد رسم فرانس صورة كل واحد منهم بما طبع عليه من دقة؛ فالجميلتان فلينا ودروزيه تنفسان على تاييس جمالها وتنافسانها في استهواء الشبان، كما تنفس كل امرأة على كل امرأة وتنافسها. والرجال ينظرون إلى النسوة الثلاث بما ينظر به كل رجل إلى كل امرأة من عطف، ويملقونهن بالكلام الرقيق العذب الذي يسحر به الرجل المرأة كما يسحر الطاووس أنثاه بريشه والبلبل أنثاه بصوته. فأما الفلاسفة زنوتوميس وهرمدور ودريون والمسيحي ماركوس وأصدقاؤهم في الوليمة، فليسوا أشخاصا ذوي حياة تتجلى في صلات أفراد الرواية بعضهم ببعض، وإنما هم أمثال للمذاهب الفلسفية والدينية التي كانت إسكندرية ذلك العصر الذهبي مهدا لها. على أنك لا تعدم مع ذلك أن تجد في حديث كل واحد منهم ما يرسم أمامك منه صورة تميزه عمن سواه من أهل مذهبه، وتجعله إنسانا يخضع رأيه وإيمانه لميوله وشهواته، شأننا جميعا في الحياة.
أما الرهبان والقديسون متدينة الصحراء فبينهم من الشبه في ازدراء الحياة ما بين النساء في محبتها والحرص عليها. •••
تلك قصة تاييس، وأولاء هم أشخاصها، وهي عند كثيرين أفضل كتب فرانس. ولعلك إذا دخلت حديقة أو عند جوهري تتردد كثيرا أي أزهار الحديقة البديعة النظام أبهى وأي أحجار الجوهري الدقيقة الصنع أكرم! وذلك رأينا في كتب أناتول فرانس. وهو عندنا على ما قال جول لمتر: «أسمى خلاصة للروح اللاتينية وأبهاها.»
أناتول فرانس (4)
الآلهة ظمأى
أناتول فرانس - ذلك الشيخ الذي ذهب أول هذه الحرب رغم مجاوزته السبعين من العمر، يريد أن ينتظم جنديا للدفاع عن وطنه فرنسا - هو رأس طائفة المتشككة من كتاب هذا العصر في فرنسا وفي العالم أجمع؛ فهو لا يؤمن بمذهب ويعتقد كل المذاهب، وهو يرى الحياة سخرية سخيفة لا معنى لها، ويجدها ذات لذة وجمال، وهو يحب الفقراء ويحتقر الضعفاء، ويعجب بالقديم ويولع بالجديد، وهو يهزأ من كل شيء، ويسخر من كل عمل، ويضحك مما يجله الناس، ويبسم أمام ما يقدسون. وهو مع ذلك لا يخفي ميله للأبيقورية على أنها أعقل من سواها من المذاهب الأخرى العاقلة جميعا؛ لذلك كانت كتبه ورواياته ليست تلك الغابة القطوب التي تأخذ لبك وتدلك بقطوبها على عظمة شجر السنديان أو البلوط وقوته على كل ما سواه؛ ولكنها الحديقة الغناء تنتقل فيها من زهرة إلى فاكهة إلى فرش سندسية إلى خرير النبع الجميل المنحدر من قمة التل تتوجه الأشجار الكبيرة تغرد فوقها الطيور المختلفة اللون والصوت. وهذه الحديقة ليست متروكة للطبيعة ينمو بعض أجزائها على حساب البعض الآخر، بل هي مشمولة بعناية الإنسان ورعايته؛ فكل ما فيها من زهر وفاكهة وغرس ونبع وتل وشجر وطير مختلف جمالا وصحة ونضارة، وكله يأخذ بنظرك ويستدعي التفاتك ويبعث إلى نفسك أبدا سرورا رقيقا، حلوا يجعلك دائم الابتسام؛ لأنه سرور النفس والعقل وليس سرور الحس المضطرب بتيارات يستدعي الضحكة العالية ليعقبها بدمعة مرة.
ومن العسير أن يقال أي كتبه المفضل، فمن بين كتبه الأربعة والثلاثين أو الستة والثلاثين يقع كل قارئ على عدد منها غير قليل يستدعي كل إعجابه. على أن ما لا شك فيه أن كتابه عن الثورة الفرنساوية الذي وضعناه عنوانا لهذا المقال هو من خير كتبه، وأدقها تصويرا لعصر كثر عنه الكاتبون. وناهيك بالثورة الفرنساوية؛ فما نحسب مؤرخا ولا سياسيا ولا شاعرا ولا روائيا ولا خطيبا ولا صحفيا، إلا تناولها في ما كتب عنه، واستشهد به ووصفه واستظهره. وكثير من أولئك قام بما قام به بطرافة وقوة لا ينكرها عليه أحد، لكن أناتول فرانس من بين هؤلاء جميعا كان أدق مصور فني يمكن تذوقه؛ فهو لم يكن فوتوغرافيا جمع رجال الثورة، وفي يد كل منهم مجموعة خطبه وكتبه ليأخذ منهم صورة كصورة الموظفين الذين يجتمعون تذكارا لسفر أحد رؤسائهم؛ بل كان ذلك المصور النابغ الذي يلقي نظرة عامة على ما أمامه ثم يتجه لركن يأخذ بنظره، فيستظهر المحيطات الدقيقة والجليلة التي حول ذلك الركن والأضواء المتسلطة عليه والغمام المتراكم فوقه. وأنت فلا تلبث أن ترى الصورة التي أبدعتها ريشة المصور حتى يظهر أمامك مجموع الثورة ناطقا قويا ظاهرا ببوارزه وخوافيه وبفظائعه وفضائله وبما فيه من جمال وقبح. ترى في هذه الصورة التي رسمها فرانس ما كان قواما للثورة من فظيع المجازر؛ وترى فيها تحت الفظائع والفضائل النفس الإنسانية كما هي، مدفوعة بطبائعها في الطريق الذي لا تعرف لسيرها في سبيله سببا. في هذه الصورة تظهر العواطف والشهوات والعلاقات الجنسية طبيعية بسيطة لا تعرف هياج روسو ولا أوهام شاتو بريان، كما تظهر فيها نفسية الشعوب في حالة الثورة نفسية عادية تافهة ميالة للركود لولا النفوس القوية المتطلعة للكمال، والتي تؤثر بسحرها على نفس المجموع المطبوع على عبادة القوة والبطولة. ويظهر فيها كذلك ما لقوة الإيمان من أثر في الوصول إلى ما يريده المؤمن مهما تقم في وجهه المصاعب والعقبات، ما دام لا يرى إلا الغاية التي يحددها له إيمانه، وما دام لا يحول نظره إلى غاية سواها. ••• «أفارست جاملن» بطل الرواية نقاش شاب يعيش مع أمه العجوز في حي القنطرة الجديدة من أحياء باريس الثائرة، ويهتم للسياسة اهتماما صرفه عن المثابرة على النقش وعن كسب ما يعيش منه هو وأمه عيشا معقولا. وكان له أخت هجرت البلاد مع شاب من الأشراف الذين هاجروا أول الثورة. ويسكن في أعلى غرف الدار التي يقطن حكيم اسمه (برتو)، كان شريفا وكان ذا مال ونعمة، فلما استولت الثورة على أموال الأشراف وامتيازاتهم ترك برتو ماله ولقبه غير آسف، وقنع من الحياة بوكره الذي كان يتسلق إليه تسلق الحيوان إلى عش الطائر، وعكف على قراءة (لوكريس)، وعلى صنع لعب للأطفال يجد منها ما يقيته. وكان لبرتو صديقة قديمة من الأشراف تدعى مدام رشمور، عرفت كيف تنتقل من العصر القديم إلى الثورة مع الاحتفاظ بمالها ونعمتها، ومع الاستمرار على دعوة الكبراء والمعروفين إلى حفلاتها الراقصة. فعرض لها ذات يوم خاطر أن تسعى لتعيين جاملن محلفا في المحكمة الثورية. ومع ما أظهره لها برتو من التخوف من هذه المحكمة التي تدفع إلى (الجليوتين) المرأة البغي وماري أنتوانيت، والتي تؤلب الفرق المتنازعة ضدها بما تصبه عليهم جميعا من جامات غضبها، فقد نجحت رشمور وتعين جاملن محلفا. ومن ذلك اليوم ازدادت حبيبته (ألودى) تعلقا به وشغفا. ولما استفسرها عن ماضيها أخبرته أن شابا من الأشراف استغواها، فملكت هذه الفكرة على المحلف الجديد نفسه ، وجعل يرقب في كل شريف يعرض للمحاكمة مغري محبوبته، فلما اتجهت شبهاته لأحد الأشراف الذين قدموا للمحاكمة والذين كانت الأدلة عليهم تافهة لم يأل جهدا في إقناع زملائه بأنه رجل مجرم خطر على البلاد قدير على قلب الحكومة، وكأنما كان يقول في نفسه: إن أولئك الذين لا يعبأون بالعرض ولا بالشرف بالنسبة لفتاة تستسلم إليهم جديرون أن يكونوا كذلك مع أمة يجدون إلى استلام زمامها الوسيلة. ومع عدم اقتناع أكثر الباقين، فقد انتهى الحال بأحد المحلفين إلى أن قال لجاملن: يجب أن يتبادل الزملاء الخدمات في ما بينهم حتى هنا يا صديقي. وانضم لصف جاملن وحكم على الشريف بالإعدام وأعدم.
وجاملن شاب طاهر القلب طيب النفس قوي الإيمان بمبادئ الثورة، حقيق أن يكون من أتباع مارا وروبسبيير اللذين كانا آلهة العصر وموضع إعجابه وعبادته؛ لذلك لم يخطر بباله أن يبرئ أحدا إلا مرة أول تعيينه، أما بعد ذلك فقد كان يرى في القواد الذين انهزموا، وفي الفتيان الذين يصيحون «يحيا الملك» في الميادين العامة، وفي الأشراف الذين يتهمون بالارتباط مع الأعداء أخصاما للثورة، قديرين جميعا إذا لم يكبح جماحهم بالقتل أن يقبلوها ويعيدوا نظام العهد القديم. وكان يعتقد أن شرف المساواة الذي نشرته مبادئ الثورة ليس مقصورا على الحقوق التي يتمتع بها الأفراد، بل هو ممتد إلى العقوبات التي تنزل بهم أيضا. على أن شرف المساواة في العقوبة هو الذي كان في يده دون شرف الإمتاع بحقوق الحياة الذي لم يكن في يد أحد؛ لذلك حقق هو وزملاؤه المحلفون والقضاة أعضاء المحكمة الثورية الشرف الأول، ولم يستطع أحد أن يحقق الشرف الثاني.
ولما عرض أمر رفيق أخته على المحكمة لم يكن أكثر إشفاقا في هذا الظرف منه في أي ظرف آخر، بل رفض أن يرد نفسه قائلا: إن سلام الجمهورية أعلى من أن تؤثر فيه علاقة أو عاطفة. وكذلك أعدم «دشاساني» مع من أعدم.
Неизвестная страница