В свободное время: коллекция литературных, исторических, этических, философских писем
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Жанры
ثم هب يا صديقي أن قارئك كان رجلا صالحا من أهل الأزهر الذين تعودوا قراءة الكتب مطبوعة على الورق الأصفر أو النباتي ولا تزيد على الكتاب الذي تفضلت بنقده بهاء ولا رواء. وهب أن قارئك كان من الذين يولعون باستقصاء ما في الكتب مهما يحملهم هذا الاستقصاء من عناء، وهب أنه كان من الذين لا يحفلون بالظواهر، ولا يعنون كثيرا باللباس، ولا يفهمون قيم الناس بأرديتهم، ويحسبون التأنق لهوا، فماذا يكون حكم هذا القارئ على ما كتبت حين يراك اقتصرت على نقد الطبع والورق. وهلا تخشى أن يقول لك إن وضع صحيفة في آخر الكتاب لبيان الخطأ والصواب كانت تكفي لرد نقدك الألفاظ. وإنه كان أحوج إلى العلم بشيء من موضوع الكتاب.
أما نقدك غياب الفهرس والتبويب فكنت أود أن أشاركك رأيك فيه لولا أن هذا الجزء الثاني من كتاب جان جاك في غير حاجة إلى فهرس أو تبويب. فهو يلخص رواية هلويز الجديدة وكتاب التربية وينقدهما. وليس فيه شيء آخر. فهل كان يكفيك أن يكتب بدل 9 و10 و11 - هلويز الجديدة، وإميل، وصوفيا، كما فعل فاجيه ولمتر وغيرهما من الذين كتبوا عن روسو؛ وهل تحسب أن الفارق كبير في نظر العلم والأدب إلى حد لا يصبح معه نقدك مشوبا بشيء غير قليل من الإسراف الذي ذكرت أنك لا ترضاه.
وتقول: لو أنك كنت غنيا لقمت بطبع الكتاب في صورة تليق بروسو وبهيكل. وإني أشكر لك حسن ظنك ورقيق شعورك.
وربما رأيت أنت كتابي على غير ما رأيته لو أنني كنت غنيا. على أني لا أقول لك ذلك عن ثقة. فإن بي عيبا آخر قد يحول دون إتقان الطبع وأظنك تعرفه؛ فإني تتحكم في صفتان ليس أضر منهما على تجارة الحياة وتبادل المنافع. هاتان الصفتان هما الأنفة والحياء. وقد أسرف الحظ فيما خلعه علي من كل منهما إلى حد انقلب معه ما يجده الناس في كل منهما من فضل عيبا عندي ونقصا. وليس لي من سبيل إلى محاربة هذا الإسراف في الصفتين إلا أن يستطيع الإنسان محاربة طبعه.
هاتان الصفتان تحولان بيني وبين الناس وتجارتهم. وأشهد أني ما اغتبطت يوما لهذا العجز. كما أشهد أني ما حزنت له يوما. فهو يحميني من شرور كثيرة، ويدع المجال أمامي فسيحا لأحظى من نعيم الحياة بما تيسره المقادير من غير أن أخشى مداخلة الناس في أمري لتكدير صفو نفسي. ثم هو في نفس الوقت يمنع علي الاستفادة من معاملة الناس والاستعانة بذوي الأخصاء منهم في طبع كتبي وتصحيحها، وتوزيعها واسترداد نفقاتها لطبع كتب أخرى، كما يمنع علي الاستفادة من معاملتهم في غير هذه من شئون الحياة، ويضطرني إلى القناعة من علاقاتي بالناس بما ييسر لي أقل حظ من النعيم أطمع فيه. فأنت تراني أشد ما أكون غبطة ما دمت جالسا إلى مكتبي متصلا بالناس في غير حاجة إلى معاملتهم والاتجار معهم؛ وتراني أشد ما أكون حياء وحيرة ما اتصلت بالناس في تجارة. وهذا يا صديقي هو السر فيما رأيت من سوء ورق كتابي وطبعه. وهذا هو السر فيما تتهمني به خطأ من ازدراء الناس. ولو أنصفت لقلت: إنه عكوف النفس على ذاتها وقناعتها بالرضا الداخلي الذي لا يعنى كثيرا بحكم الناس؛ لأن حكمهم لا يصل إليه. وإن وصل فلا يعلق عليه.
وقد لا يسوؤك في هذا المقام أن أخبرك أني حين قرأت نقدك ابتسمت أن رأيتك تأثرت فيه بصداقتك إياي أكثر مما تأثرت بموضوعك. فإنك قد عالجت إخفاء ما تبعثه المودة في نفسك من محبة صادقة، فنم حرصك على التعرض لشكل الكتاب دون موضوعه، مع إظهارك الإعجاب بالموضوع عرضا، على أنك كنت تود أن يكون ما يظهر للناس من صاحبك بالغا ما يستطاع بلوغه من الكمال.
لكنك يا صديقي تعلم ما انطوت عليه نفسي، وتعلم أني لا أكتب إلا ما يكون متاعا لي ولذة؛ فإذا نشرته بعد ذلك فإني لا أستطيع المحافظة عليه، وأخشى أن يضيع، وقد أحتاج إليه يوما لأتلذذ بمجهوداتي الماضية في الساعات المجدبة من حياة الحاضر. وهذا هو ما دعاني لتقسيم ما كتبت عن روسو إلى ثلاثة أجزاء، فكنت كلما فرغت من قسم من بحثي وهجمت على مشاغل الحاضر. وخشيت أن أوخذ بها إلى حد نسيان ما كتبت قدمته للطبع لكي لا يضيع. وهذه غاية يكفي لبلوغها أن يطبع بأقل نفقة ممكنة ومن غير عناء كبير.
على أني أعدك يا صديقي إن أراد الحظ لي أن أظهر للناس كتبا أخرى بأن أجاهد لأحرص على رضاك، وإذا أنا وجدت من عناية الأقدار ما يسمح لي بإتمام الجزء الثالث من كتاب روسو - وهذا ما لا أعدك به - فلن أكتفي بما اكتفيت به في الجزأين الأولين، ولن أتركه بغير فهرس أو تبويب، ولن أطبعه إلا على ورق يعجبك، ولن أتركه بغير بيان لما فيه من خطأ مطبعي، ومن زلات القلم حين الكتابة.
لكني مع ذلك كنت أرجو أن لا يقف نقدك عند الغضب لي مني، وإظهار هذا الغضب في ثورة صريحة؛ وكنت أود أن تتناول موضوع الكتاب وأن تبين لقارئك في شيء من التفصيل ما تراه من وجوه حسنه وقبحه وكماله ونقصه. فقد يمكن ملافاة ما كان من نقص في الطبع والورق عند إعادة طبع الكتاب، سواء أعدت أنت الطبع أو أعدته أنا أو أعاده غيرنا. لكن ملافاة نقص الموضوع لا تكون إلا إذا دل النقاد المؤلف على مواقع الخطأ في البحث ومواضع التواء الدليل. وأصدقك القول: إني أحوج إلى هذا النقد مني إلى نقد الشكل والصورة؛ فنقد الشكل والصورة أعرفهما وأعرف أسبابهما من غير حاجة إلى أن يدل عليهما أحد، كما أعرف وسائل علاجهما. وهذه الوسائل على ما تعلم يسيرة لمن أراد الإصلاح. فأما النقص في الموضوع، وأما التواء الدليل فيحتاج إصلاحهما إلى تنبيه خاص من أمثالك الأصدقاء المخلصين ذوي الفضل والعلم. فهل لك أن تكلف نفسك هذا العناء فتنفعني وتنفع الناس، ويكون الشكر لك مضاعفا.
وما أحسبك حين تعرض لهذا النقد مضيعا وقتك سدى. فإن في رواية الهاويز تحليلا نفسيا شائقا ومباحث فلسفية غير تافهة. وكتاب التربية هو خير ما كتب روسو. وأحسبني حين لخصتهما ونقلتهما لم أترك شيئا جوهريا مما جاء فيهما أو ورد عليهما، وإن كنت قد أوجزت في التلخيص والنقد فذلك لأوفر على القارئ وقته؛ ولأحول بينه وبين الملال ولأعصم نفسي من زلة ادعاء العلم بما لا أعلم.
Неизвестная страница