В свободное время: коллекция литературных, исторических, этических, философских писем
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Жанры
وظلت الحال كذلك وقاسم يشتغل في ميادين العمل الحكومي، ويدل على مواهب نادرة، ولكن من غير أن يظهر في ميدان الحياة العامة حتى ظهر كتاب الدوق داركور في سنة 1893 عن المصريين. ويرمي هذا الكتاب إلى وصف المصريين بالتأخر في مدنيتهم وفي تربيتهم وفي تفكيرهم، وينعي عليهم حبسهم النساء وتركهم إياهن بعيدات عن العلم، ويضع أساسا لذلك كله العقيدة الإسلامية التي يدينون بها، ويرى بالتالي ضرورة تمدين نصف المتوحشين هؤلاء على أساس آخر. هنالك أخذت قاسم النخوة وهزته وطنيته أن يدافع عن قومه. وليست حرب الأقلام بأقل مرارة وقسوة من حرب السيوف؛ فبأقلام كتابها تنصر الأمم مدنياتها، وبأقلامهم ترفع احترام كل فرد منهم لذاته، وبأقلامهم تكسب أنصارا يقفون إلى جانبها عند الحاجة، وآثار الأقلام هي الخالدة وآثار السيوف الدمار والبوار. فوضع قاسم في سنة 1894 كتابه «المصريون»، فند به مزاعم الدوق داركور وأظهر فيه فضائل مواطنيه من غير أن ينسى الاعتراف ببعض عيوبهم التي أرجعها لا إلى عقيدتهم كما يزعم داركور وجماعة من الكتاب معه، ولكن إلى توالي الحكومات الفاسدة عليهم، ونشر هذا الكتاب بالفرنسية ليطلع عليه من يقرأ كتاب داركور فيجد فيه الفضائل المصرية من ذكاء وكرم وقوة وبأس في الحروب مؤيدة بالوقائع والأسماء، وعندئذ ينقلب الأثر السيئ الذي تركه كتاب الكاتب الفرنسي إلى أثر حسن برد الكاتب المصري المجيد.
كان قاسم رجلا عصبيا حساسا سريع التأثر شديده، قوي العاطفة ثابتها، لا يسهل أن تتركه إذا ملكته؛ لذلك لم يطو أوراقه بعد أن نشر هذا الكتاب ولم يعتبر نفسه قد انتهى من القيام بالواجب عليه، بل شعر من يومئذ أن واجبه تضاعف. صحيح أن دوق داركور غالى في مطاعنه على المصريين، وصحيح أنه أخطأ تمام الخطأ في رد سبب التأخر إلى عقيدتهم الدينية، وصحيح أنه اختلق عليهم معايب هم برآء منها، لكن هناك في بعض جهات الحياة الاجتماعية نقصا؛ فالحياة المصرية يومئذ لم تكن الحياة الإنسانية الكاملة في نظر قاسم. فما هو موضع الضعف الذي يتغذى منه ذلك النقص؟ موضع الضعف هو لا شك فقد الحرية، فقد الحرية عند الرجل والمرأة. والحرية كما قال قاسم هي قاعدة ترقي النوع الإنساني ومعراجه إلى السعادة، لكن فقد الحرية عند المرأة كان أشد خطرا وأفعل أثرا. فلنجاهد أولا إذن لتحرير المرأة.
هذه هي الفكرة التي دعت قاسم لتأليف كتاب تحرير المرأة. ويظهر أنه تردد كثيرا قبل أن ينشره؛ تردد مخافة الرأي العام الذي كان محافظا متأخرا يومئذ. وكم ثبط هذا التردد من عزائم، وكم قتل من أفكار عند شبابنا في الماضي! ولا يزال أثره قويا اليوم، بل كم كان قاسم يكون لولاه أكثر إنتاجا وأغزر مادة. وظل في تردده وقتا ليس بالقصير، لكن الفكرة انقلبت عنده من مجرد رأي يقال إلى عقيدة ثابتة وإيمان قوي. والرجل المؤمن لا يقف دون الدفاع عن معتقده وإن عظمت الحوائل. وهذه الكلمة التي نشرها في أول كتابه تدل على مبلغ إيمانه بفكرته، قال: «هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وصارت تشغلني بورودها وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.» وعلى أثر ذلك نشر كتابه داعيا فيه إلى تحرير المرأة من رق الجهل ومن رق الحجاب.
وقد تطورت فكرة قاسم أمين نوعا من الفترة التي مرت بين نشره كتابه الأول ردا على الدوق داركور وكتابه الثاني عن تحرير المرأة. وهذا التطور طبيعي؛ لأن موقفه الأول كان غير موقفه الثاني: موقفه الأول كان موقف دفاع عن قومه، وموقفه الثاني كان موقف إرشاد لقومه؛ لذلك تراه وقد كان في الحالين في صف الأحرار لا في صف المحافظين أكثر مناصرة في كتابه الثاني لمذهب الأحرار وأكثر إعلاء لشأن الحرية.
تردد قاسم طويلا ثم دفعه إيمانه فأظهر كتابه، وهنا ظهر هذا الرأي العام المحافظ الجامد في محافظته، وانبرى للرد عليه كثيرون لم يقرأوا الكتاب، انبروا وهم لا يقلون في الحقيقة اعتقادا بالنقص من قاسم أمين، لكنهم كانوا «يخشون الخروج من وكرهم لتصيد الخيرات الغامضة المبعثرة في ظلام المستقبل». ليكن هذا الوكر فاسد الهواء، ليكن مملوءا بالمكروبات القتالة، ليكن بحيث تنهمر عليهم من جوانبه الأفاعي والعقارب، لكنهم يخشون الخروج؛ لأنهم يخافون أن يجدوا في الخارج سباعا وفيلة وهم أجبن وأضعف من أن يتصوروا مقابلة الخطر، ولو لم يكن هناك خطر.
تعرض هؤلاء للرد على قاسم في تحرير المرأة، فأظهر كتابه المرأة الجديدة في سنة 1900 ردا عليهم وتأييدا لرأيه. وبعد هذا الكتاب لم تظهر له مؤلفات حتى ظهرت في عالم الطبع كلماته التي نشرت بعد وفاته.
هذه الكتب الأربعة وبعض الخطب هي كل ما تركه قاسم للجمهور، ومما يوجب أكبر الأسف أن تنوء نفس قوية عبقرية كنفس قاسم بحمل الرأي المحافظ، وأن يختزل الموت حياته فلا تظهر من آثارها الكتابية والفكرية إلا هذه الصحائف المعدودة. •••
في هذه الكتب الأربعة - إلى جانب ما فيها من الأفكار - صور كثيرة للمشاهد وللحوادث العامة والخاصة، وهذه الصور مرسومة بدقة مدهشة حتى يكاد الإنسان يلمسها بيده في كثير من الأحيان، وأنت تراها مرصودة بعضها تلو بعض كلما أريد التدليل على رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؛ ذلك بأن قاسم كان أميل إلى الاستقراء منه إلى الاستنتاج، كانت تأخذ بنظره الجزئيات فيبحث عن نظائرها، ويجاهد ليكون لنفسه رأيا كليا من مجموع هذه الجزئيات، وكان لذلك يحب دائما أن يحلل هذه الجزئيات، وأن يقف على دقائقها حتى لا تدعوه الملاحظة السطحية إلى الخطأ. على أنه لم يكن ميالا إلى الأخذ بهذه النتائج التي يرتبها على الجزئيات وإلى ترتيبها والاستنتاج منها هي الأخرى والاستمرار في ذلك لإقامة بناء مذهب فلسفي عام شأن الأشخاص الذين تتغلب عندهم موهبة الفكر المجرد على المواهب الأخرى، مواهب الإحساس والعاطفة والتشكك، بل كان يعتقد «أن عقل الإنسان المحدود لا يسع غير المحدود، وأن علمه القليل لا يصل إلى إدراك المجهول الذي لا نهاية له؛ ولذلك ترى هذا الإنسان متى ترك دائرة معلوماته الحسية دخل في الظلام وسار كالأعمى يتخبط يمينا وشمالا لا فرق في ذلك بين الغبي الجاهل والذكي العالم». هذه هي كلمة قاسم، وهي تدل على أنه لم يكن من عشاق النظريات البحتة، كما كان يرى «أن المطلق ليس له وجود ذاتي، وأن الذوات الجميلة التي نحبها ونقدسها؛ كالخير والحق والعدل، لا يمكن أن توجد في الخارج إلا مختلطة بنقيضاتها».
على أن ذلك الاقتصار على الاستقراء في التفكير لم يكن ليبعده عن النظر في الوجود العام، أو ليصده عن الإمعان في بدائع الكون، بل إنك لتجد له في هذا الباب كلمات أدق ما يكون، كلمات صادرة من أعماق قلبه يستجمع لإصدارها إلى جانب فكره الاستقرائي عاطفته القوية وإحساسه الشديد. وهل أبدع من هذه الكلمة في التعبير عن دخيلة نفس صاحبها: «لا بد أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة، العفو عن أكبر خطيئة، العفو عن كل خطيئة.
هل المخطئ مسئول أو غير مسئول؟ وما هي درجة مسئوليته؟ مسألة عظيمة يجب على من يريد الحكم على غيره أن يحلها، لكن حلها يكاد يكون محالا؛ إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تتركب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي. والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة، وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تتنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة، ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا. وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه إن لم يكن متولدا عن الحيوان المفترس مباشرة، فهو مشابه له في شرهه وأطماعه وشهواته؛ خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم، خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية مصادفة سعيدة وعارضا مؤقتا.
Неизвестная страница