В свободное время: коллекция литературных, исторических, этических, философских писем
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Жанры
على أن النقد الموضوعي الذي يقصد إلى استعراض الأثر الفني من الوجهة التي أرادها الفنان قصد غاية معينة ليحكم بعد ذلك على مبلغ توفيق الفنان في اختيار غايته والوسائل التي سلكها لبلوغ هذه الغاية - لا يخلو من ذاتية النقد بمقدار قل أو كثر. فالناقد كما قلنا قاض. ومهما يتقيد القاضي بالوقائع والأدلة التي أمامه، فإن لنوع تعليمه ولإدراكه وحسه أثرا مباشرا في تقدير قيم هذه الوقائع والأدلة، والقاضي في أمور الفن أقرب للتأثر بالذاتية من القاضي في معاملات الناس؛ لأن الفن لا يرتبط بقوانين مرصودة النصوص كما ترتبط المعاملات، والفن لا يتقيد بقواعد مقررة عند السواد كما تتقيد الأخلاق، بل فيه مزية اللين والمرونة وله فضل الفيض والسيولة. لكنه مع لينه وفيضه ليس حرا إلى حد الفوضى، بل تمسكه الحياة بضروراتها وتخضعه لنواميسها الأزلية الخالدة التي تتحكم في كل مظاهر الحياة. وإذا كنا لم نصل بعد لكشف ضرورات الحياة ونواميسها جميعا في دقة وتحديد علميين فلن يعفينا ذلك من الارتباط بها في كل ما نعمل، والفن بعض ما نعمل.
لكن للنقد الموضوعي على النقد الذاتي فضل سعة الأفق ومزية العدل. فالناقد الموضوعي يعمل عمل القاضي السمح يسعى ليجيء تحت نظره عند النقد بالظروف الفنية وغير الفنية التي أحاطت بالفنان. ولا يتبرع برفض كل ما لا يلذه لذة خاصة، وكل ما لا يرى فائدته إلا بعد إيمان بأن ما كره لا يمكن أن يكون سائغا في الحياة؛ وليتكون هذا الإيمان في نفسه يجب أن يرد هذا النوع الذي ينقد إلى نظائره وأشباهه، ويرى هل لهذه النظائر والأشباه مثل في الحاضر. فإن لم يكن لها مثل في الحاضر رأى مثلها في الماضي، وما كان لهذا المثل من قيمة. ثم هو يستأني قبل أن يصدر حكمه ليرى أهذا المثل القديم قد قضت عليه الحياة قضاء أخيرا فلا سبيل إلى بعثه، أم إنه كانت له الشهرة زمنا ثم كسفه غيره وقد تعيده ظروف إلى الشهرة من جديد. وإذا كانت هذه الثانية هي الحال فهل هذه الشهرة متعلقة بشهوات الناس الأصيلة التي تبدو زمنا ثم تخبو ولكن لتبدو من جديد، أم هي من نوع أقوى حياة وأحرى بالبقاء بل بالخلود.
وقد يظهر فضل النقد الموضوعي على النقد الذاتي واضحا صريحا إذا دخل جماعة من النقاد متحفا كمتحف اللوفر بباريس أو كالمتحف البريطاني بلندره أو غيرهما من هذه المتاحف الكبيرة، التي تضم بين جدرانها آثار الفن في العصور والبلاد المختلفة. هذا الناقد الذاتي تراه إذا وقف أمام قطعة أعجب بها أخذته عن نفسه وملكت عليه لبه، ودفعته إلى أن ينكر ما لا سبيل لإنكاره من جمال الفن في غيرها إذا هو رأى بينهما خلافا أساسيا. أما الناقد الموضوعي فيرى لكل أثر جماله وإن اختلف عنده مقدار ما يخلعه جمال كل أثر على عصره، وعلى العصور الأخرى من نعمة الحياة التي يرجوها كل إنسان في آثار الفن.
وأكاد أحسبني لا أغلو إذا قلت: إن النقد الذاتي ليس نقدا وإنه إلى فن القصص أقرب. وهل تراه يزيد على وصف التأثرات الخاصة لشخص معين أمام مظهر من مظاهر الفن. فإذا كان هذا الشخص عاديا كان قصصه عاديا. وإن كان ممتازا كان قصصه ممتازا. لكنه على كل حال قصص وليس بنقد.
وقد يكون هذا الحكم الذي نصدره أصدق ما يكون على الأدب العربي في هذا العصر. فليس نقد لهذا الأدب جديرا باسم النقد وبالبقاء لمن بعدنا على أنه نقد، إلا ما كان من نوع النقد الموضوعي، وما كلف صاحبه من العناء ما يحتاج إليه النقد الموضوعي. فأما الأدب الغربي فقد يجمع نقده الذاتي بين القصص والنقد. وسبب هذا الفرق راجع إلى نوع الثقافة في الغرب والشرق من جهة، وإلى تاريخ الأدبين من الجهة الأخرى.
فثقافة الغرب قد تأصلت جذورها وتشابكت فروعها، وبلغت من الغزارة مبلغا عظيما. وهي بعد ترجع إلى أصول متشابكة على ما في ثمرها من مظاهر التناقض. ثم إن ما أطعمت به من ثقافات أجنبية قد جاءها على هون وفي أناة وجاءها على يد أبنائها، فتمثلته وأساغته وصار منها وسار في تيارها. ولما كان الأدب مظهرا من مظاهر الثقافة كان تيار الأدب الغربي في كل أمة مرآة لهذه الحياة الغزيرة. وكان كل كاتب وكل ناقد ينهل مع أصحابه من ورد مشترك، فيشارك بذلك غيره من الكتاب والأدباء في أكثر من ناحية من نواحي حسهم وذوقهم.
ولقد عنيت أمم الغرب فيما وضعت من قواعد التربية والتعليم بأن لا تجني على هذه الشركة القومية العقلية. ومع ما تراه من شدة نضال الطوائف ومن اختلاف منازع الأحزاب وتقاتل آرائهم، ومع شدة أوار هذه الحرب العقلية الدائمة الاستعار في الغرب يدرك أهل هذه الأمم تمام الإدراك أن الحزبية والمذهبية يجب أن تكون ثمرات للثقافة، وأن لا تكون أصلا من أصول الحياة. فكما أنك تبعث بأبناء الأمة يتلقون جميعا علوما معينة على طريقة معينة، وكما أن ذلك يظل شأنهم حتى يبلغوا الرشاد العقلي، ويومئذ يختار كل منهم ما يشعر بالميل إليه من أنواع العلوم؛ فينقطع واحد للحقوق وآخر للطب وآخر للهندسة وآخر للتعليم وهلم جرا، ثم يتخصص الطبيب بعد تمام دراسته لطب العيون أو للجراحة أو للطب الباطني، ويتخصص القانوني للمحاماة أو للقضاء أو للتشريع، ويتخصص المهندس للري أو للعمارة أو للكهرباء. فإذا تخصص كل من هؤلاء جاز أن تكون له نظريات جديدة في فنه يدعو إليها، ويطالب أمثاله بالأخذ بها. كذلك لا تكون الحزبية المذهبية في الأدب أو في السياسة إلا بعد الأخذ من تلك الثقافة الغزيرة المشتركة بنصيب وافر.
فالنضال الذي نرى واختلاف المذاهب والأحزاب في الغرب هو كاختلاف ألوان الزهر والثمر في الشجر. هذه الألوان لا يكون اختلافها آخذا بالنظر داعيا إلى التفضيل إذا كانت باهتة ذابلة؛ لأن الأشجار التي أثمرتها ضعيفة السوق ومادة الحياة. وإنما تأخذ بالنظر إذا كانت أمهاتها من الأشجار قوية مملوءة حياة، وكانت تستمد هذه الحياة والقوة من أرض خصبة التربة لا ينفك صاحبها يعمل ليزيدها خصبا وقوة.
وأنت إذا تحدثت هناك إلى مثقف من رجال الدين أو من رجال العلم أو الأدب، أو من رجال الفن، رأيت لأول وهلة الأصل الثابت من الثقافة العامة بادي الأثر عند هؤلاء الرجال جميعا. وهذه الثقافة هي - كما تقدم - متأصلة متشابكة غزيرة. وهي ترجع إلى أصول مشتركة تمثلت كل مطعوم وكل طارئ؛ لذلك صح لنا القول بأن النقد الذاتي لآثار الفن الأدبي في الغرب يجمع بين النقد والقصص؛ لأن آثار الفن ذاتها تصدر عن الثقافة العامة، وتقصد إلى الغاية التي جعلتها هذه الثقافة غايتها.
أما النقد الذاتي للأدب العربي فقصص صرف وليس في شيء من النقد؛ لأنك لا تستطيع - مع أكبر الأسف - أن تقول: إن ثمة في هذا العصر الحاضر ثقافة عربية غزيرة مشتركة الأصول. ولا تستطيع أن تزعم أن أدبنا العربي مظهر هذه الثقافة. فالبلاد التي تكتب العربية وتتكلمها في هذا الزمان الذي نحن فيه قائمة ثقافتها على أرض جرداء، فيها أكثر الأمر نبت مستقيم من مخلفات الماضي المجيد، ومجهودات تنفق لتطعيم هذا النبت السقيم بمظاهر مدنية الغرب الحاضرة. بل إن من الجهود ما ينفق ليطعم بمدنية الغرب غير فرع ولا شجر، ولكن ليلقى بها في هذه الأرض المكسو ظاهرها بالصدأ والمحمل باطنها بميراث الماضي، فلا يستطيع أن ينبت نباتا منقطع الصلة تمام الانقطاع بهذا الميراث . وتلك لعمري جهود ستبقى عقيمة حتى يجيء الزمن الذي يربط ما بينها وبين مدنية شرقية قائمة.
Неизвестная страница