عينيه، يجلس اليوم على عرشه كما يجلس القرد الخائف المذعور تذهب عيناه يمينا وشمالا حيث اتجهت عصا صاحبه، وقد علمت أن هذا البائس المنكود أمر أن تنقش على النقود أسماء ثلاثة من أمراء الديلم بعد أن أصبح بينهم لعبة تشدها ثلاثة خيوط!
وإذا اتجهنا إلى ناحية الروم، رأينا أنهم لم ينسوا ثأرهم عند العرب الذين ثلوا عروشهم، وبددوا ملكهم، فأخذوا في مدى هذه القرون يعدون العدة، وينفثون في رجالهم روح الحقد على المسلمين، ويلوحون لهم بأمل براق، ويمنونهم الأماني، ويصورون لهم ذلك اليوم الموعود الذي تعود فيه مملكة الروم التي اغتصبها المسلمون إلى حوزتهم. وهاهم أولاء اليوم رابضون بالقرب من طرسوس يتحينون الفرصة للوثوب، ويغتبطون بما أصاب دولة الإسلام من تمزق، وبما شجر بين أمرائها من حقد وعداء وانقسام.
وهنا قال أبو فراس في صوت تكاد تخنقه العبرة: إن الأمم تموت حينما تنسى أخلاقها، وتغفل عن تاريخها. ولن تعود دولة العرب إلا إذا عاد أهلها إلى أخلاق العرب!
بهذا وأمثاله كان ينشأ أبو فراس في دراسة الأدب والتاريخ. وقد دفعته هذه الدروس إلى الاستزادة والتوسع والانصباب على العلم حيثما وجده؛ فكان يخلو بنفسه ساعات في خزانة الكتب بالقصر ينتقل بين كتبها كما تنتقل النحلة من زهرة إلى زهرة لتجني العسل طيبا شهيا.
أما تدريبه على الفروسية وأساليب القتال، فكان يقوم به واصل بن عبد الله أعظم المدربين مهارة، وأبرعهم ضربا بسيف أو طعنا برمح أو إصابة بسهم، ولم يكن يجد في تدريب الفتى الناشئ عنتا أو مشقة، وكأنما كان يعلم السمك أن يسبح في الماء، والطير أن يحلق في السماء، فإن أثر الوراثة في أبي فراس كان عميقا بعيد الغور، فلم يمض شهر حتى حذق فنون الحرب، وركوب الخيل، وأخذ يفاخر أنداده ويصاولهم، ولم يعقد رهان إلا كان فيه المجلي السباق، وكم أغراه التمكن من فنون الفروسية بكثير من التهور والمجازفة، فكان يركض فرسه ويلهبه بالسوط ليثب به فوق مسيل ماء يبلغ عرضه عشر أذرع، دون أن يبتل حافر فرسه، وكان يقيم سدا مرتفعا من جذوع الأشجار، ثم يهمز جواده فيثب فوقه كأنما يطير في الهواء. وقد أفزعت هذه الأفانين واصلا، وخاف عليه مغبتها، فأفضى إلى أمه بمخاوفه، ولكن أمه لم تلبث حين سمعت حديثه أن هزت كتفيها في قلة اكتراث، ونظرت في وجه واصل بعد أن أطبقت عينها اليسرى في غرور وكبرياء، وقالت: ما عليك من هذا يا بن عبد الله. إن بني حمدان يجب أن يعملوا ما لا يستطيع عمله الناس. وإلا فلمن أعدت خطيرات الأمور؟
الفصل الثالث
شغلت الشام وبخاصة في مدينة حلب في هذه الأيام بالحديث عن نجلاء الخالدية، وسرت شهرتها بالجمال البارع من فم إلى فم، وتناقل الناس في إعجاب وإكبار ما ازدانت به من خلق ودين ولطف وأدب وخفة روح وعلو نسب. وكانت نجلاء حقا كما يصفون وفوق الذي يصفون، فقد وهب الله لها وجها واضح الجبين، رائع القسمات،
1
به عينان يتألق فيهما الطهر ويشع منهما النبل وكرم المحتد، ومنحها نفسا أصفى من قطرات الغمام، وأقرب إلى نفوس الملائكة الأطهار. نشأت في بيت علم وأدب ينتمي إلى أسرة رفيعة المجد باذخة الشرف، وقد بلغ في هذا الحين أخوها محمد وسعيد الخالديان منزلة أثيرة عند سيف الدولة بن حمدان أمير حلب، وكانا يشرفان على خزائن الكتب في قصره. فنمت نجلاء في هذا البيت الكريم، وتعهدها أخواها بالتعليم والتهذيب حتى برعت في فنون الأدب، وقالت الشعر الجيد الرصين. وكانت دارها مثابة الأدباء والشعراء والعلماء يغشونها لينعموا بطرائف الأحاديث والأخبار، وروائع الشعر والأدب، ولينالوا من كرم نجلاء وحسن ضيافتها ما يعز على موائد الملوك.
وكثيرا ما أشاد بمديحها الشعراء، وكثيرا ما غنى المغنون بحسنها فرددت آفاق حلب هذا الغناء عذبا مشجيا ، وكثيرا ما كانت نجلاء تسمع هذا الغناء فتبتسم وتهز كتفيها في أنفة وشيء غير قليل من الخجل.
Неизвестная страница