والطير أقعدها الكرى
والناس نامت والوجود
ومن الواضح أن شوقي لم يقل هذه القصيدة وهو مقيم بباريس أيام شبابه، وإنما قالها وقد تقدم به العمر عندما عاد في إحدى رحلاته إلى «غاب بولون»، وإن المرء ليحار في افتقاد أصداء الحياة الباريسية في شعره المبكر، ولكن هذه الحيرة يمكن أن تخف إذا ذكرنا أن شوقي لم يستطع قط أن يكون شاعرا وجدانيا، وأن شعر المناسبات هو الذي غلب على شعره، ولعله رأى في هذا النوع من الشعر ما يواتي طموحه أكثر من شعر الوجدان، أو لعل مزاجه الخاص لم يكن يطاوعه، أو لعل في ظروفه الاجتماعية وطبقته المترفعة المتزمتة ما منعه من أن يستسلم لوجدانه مترفعا عن أن يعرضه على القراء أو السامعين، وأيا ما يكون الأمر فإننا نعتقد أن أحمد شوقي لم يستطع - لسوء الحظ - أن يغذي طاقته الشعرية الفذة بآداب الغرب وحياة الغرب، كما أنه لم يستطع أن يطلق طاقته على سجيتها، وأن يخلص لنفسه وأن يرتفع بشعره إلى الآفاق الإنسانية الرحبة التي لا تتقيد بمناسبات الظرف وبملابسات المكان والزمان؛ حتى ليصعب على أي ناقد اليوم أن يستشف من شعر شوقي شخصيته ومعالمه الروحية وأية فلسفة خاصة في الحياة، وكل هذه الحقائق هي التي مكنت لمدرسة التجديد التي قادها شكري والمازني والعقاد من الهجوم على شوقي ومدرسته، ذلك الهجوم العنيف الذي نطالعه في الجزأين اللذين ظهرا في سنة 1921 من كتاب «الديوان» الذي قدر له كاتباه المازني والعقاد أن يصل إلى العشرة أجزاء، وقد خصصاه لمهاجمة المدرسة التقليدية كلها في الشعر والنثر، وذهب العقاد بنقد شوقي فاتهمه بعدم الصدق، وقرر أن الشاعر هو من أخلص لنفسه؛ بحيث لا يحجب الكذب والتكلف شخصيته عن شعره، كما اتهمه بالتقليد والصدور عن القوالب الشعرية المتوارثة دون قدرة على التجديد والابتكار ودون غوص وراء الحقائق العميقة والصور الجديدة، وكل ذلك سواء في شكل القصيدة أو مضمونها. وكانت جماعة الديوان متأثرة بلا ريب بالآداب الغربية وبخاصة الإنجليزية منها، بل وبالشعر الأوروبي الرومانسي بنوع أخص بدليل إجماعهم على الدعوة إلى شعر الوجدان.
ولكن المدرسة التقليدية التي لاقت نجاحا شعبيا واسعا لم تستسلم قط، بل ظلت تتشبث وتقاوم حتى اليوم.
مدرسة الديوان
وقادت مدرسة الديوان الدعوة إلى شعر الوجدان، واتفق ثلاثتهم على هذه الدعوة وإن اختلفوا بعد ذلك في الاتجاه وفقا لمزاج كل منهم الخاص؛ فذهب عبد الرحمن شكري بالتأمل الوجداني والاستبطان الذاتي على نحو ما رأينا سابقا في قصيدته التي يخاطب فيها المجهول، بينما صدر المازني في مستهل شبابه عن روح رومانسية شاكية باكية، متبرمة بالحياة ساخطة عليها، وظل يصدر عن هذه الروح حتى هجر الشعر كله، بعد الجزأين اللذين صدرا من ديوانه، إلى النثر الذي برع فيه وأصبح من أعلامه، كما تخلص من الشكوى والسخط بالسخرية والتهكم اللذين عرف بهما في نثره، ولعلنا نستطيع أن نحس بمدى سخطه وشكواه وتبرمه بالحياة في مثل قوله عن «الإخوان»:
سل الخلصاء ما صنعوا بعهدي
أضاعوه وكم هزئوا بجدي
ركبت إليهمو زهر الأماني
على ثقة فعدت أذم وخدي
Неизвестная страница