تصدير
الشعر وفنونه
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
الشعر والوجدان الفردي
المضمون والصورة
خلاصة
الشعر العربي وتطوره
مدارس الشعر العربي الحديث
تصدير
الشعر وفنونه
Неизвестная страница
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
الشعر والوجدان الفردي
المضمون والصورة
خلاصة
الشعر العربي وتطوره
مدارس الشعر العربي الحديث
فن الشعر
فن الشعر
تأليف
محمد مندور
Неизвестная страница
تصدير
لقد اعتمدت في استخلاص العصارة التي ضمنتها هذا الكتيب، العزيز على نفسي، على نوعين من الدراسة، أولهما: الدراسة التاريخية لتطور الشعر عندنا وعند غيرنا من الدول؛ لكي أظل مرتكزا على ما أنتجت البشرية فعلا من شعر. وثانيهما: النظريات الأدبية والفنية، والمذاهب التي ظهرت عبر التاريخ. وكل ذلك لكي أستخلص في النهاية المقومات الأساسية التي لا يمكن أن ينهض الشعر بدونها، طبقا لأهدافه. فالشعر لا بد أن يثير فينا إحساسات جمالية وانفعالات وجدانية، وإلا فقد صفته. ولتحقيق هذه الأهداف هناك عدة وسائل أو خصائص لا بد من توافرها فيه: كالوجدان في مضمونه، والصور البيانية في تعبيره، وموسيقى اللغة في وزنه.
فإن كنت قد وفقت إلى ما قصدت إليه بفضل المنهج الذي اخترته، كان هذا خير جزاء على ما بذلت من جهد في استخلاص هذه العصارة، وتقديمها إلى القراء عامة في أبسط تعبير وأوضحه، ودون أن أثقل صفحات الكتيب بهوامش أو مراجع مما لا يتفق وطبيعة هذه المكتبة الثقافية التي توخت الوزارة أن تكون في متناول أكبر عدد من القراء، وإن كان المتخصصون يمكن أن يجدوا فيها هم أيضا بغيتهم.
محمد مندور
الشعر وفنونه
لم يعد الحديث عن الأدب عامة والشعر بخاصة من البساطة واليسر على نحو ما كان عند أجدادنا السابقين من العرب، بل أصبح من العجز أن نردد اليوم في محاولة تعريفنا للأدب وفنونه أمثال تلك التعاريف الساذجة التي كان يرددها أجدادنا مثل قولهم: «إن الأدب هو الإلمام من كل شيء بطرف»، وقولهم: «إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى»، بعد أن أصبحت الثقافات العالمية تعج اليوم بمختلف الفلسفات الجمالية ومذاهب الأدب والفن؛ حتى أصبح لزاما علينا أن نعيد فهمنا للأدب عامة والشعر بخاصة على ضوء تلك الثقافات العالمية؛ حتى لا نظل متخلفين عن ركب الإنسانية العام.
ويحس من يريد أن يتحدث اليوم عن فن من فنون الأدب بحاجة جذرية إلى أن يبدأ من الكليات حتى يستطيع أن يرسي حديثه على أسس عامة تحدد وتوضح حقائق الأشياء، وكأنه يبدأ هذا الحديث بأبجدية الفن والأدب.
ومن هنا يجدر بنا أن نحاول أولا: الاتفاق على تعريف يجمع ما تصطلح الإنسانية اليوم على تسميته أدبا، ويمنع ما لا تعتبره داخلا في الأدب من أنواع الكتابات الأخرى؛ فنقول: إن الأدب هو كل ما يثير فينا - بفضل خصائص صياغته - انفعالات عاطفية أو إحساسات جمالية.
والأدب لا يزال ينقسم كما قال العرب القدماء إلى شعر ونثر، وإن تكن الفنون التي تنطوي تحت كل قسم تختلف اختلافا بينا عند الغربيين عنها عند العرب.
فالنثر - في تقاليد الأدب العربي - كان لا يدخل في مجال الأدب إلا إذا كان نثرا فنيا؛ أي في الغالب نثرا مصنوعا كنثر الرسائل والخطب والمقامات والأمثال السائرة، وذلك بينما يشمل النثر الأدبي عند الغربيين الكثير من الكتابات الفلسفية والتاريخية والاجتماعية، فضلا عن النثر في معناه الضيق الذي يشمل القصة والأقصوصة والمقالة والسيرة والمسرحية، وهو أدب أخذنا نحتذيه منذ نهضتنا المعاصرة؛ حتى وجدت لدينا كل الفنون النثرية، بينما اختفت فنون النثر العربي القديمة أو الكثير منها: كالمقامة وما إليها بعد أن تحلل نثرنا الحديث من الصنعة اللفظية التي كانت عماد تلك الفنون القديمة.
Неизвестная страница
وأما الشعر فقد ميز الأوروبيون في مجاله منذ عصر الإغريق القدماء ثلاثة فنون كبيرة، لكل منها خصائصه وأهدافه، وهي: شعر الملاحم، والشعر التمثيلي، والشعر الغنائي، وذلك بينما لم يعرف العرب القدماء في مجال الشعر غير فن واحد، وهو الفن الغنائي، حتى إذا اتصلنا بالغرب ودرسنا آدابه، وتبينا فيها تلك الفنون المختلفة، أخذنا نحاكيها كما فعلنا في مجال النثر الأدبي، وذلك حين كان بعض تلك الفنون الشعرية الكبيرة قد انقرضت في الغرب، أو أخذت سبيلها نحو الانقراض، وحل النثر محل بعضها كالشعر التمثيلي، على حين مات البعض الآخر ولم يعد يستطيع الحياة بعد أن تطورت الإنسانية، وأصبحت عاجزة عن أن تأتي فيه بمثل ما أتى الشعراء القدماء في فجر الإنسانية، ونعني بذلك شعر الملاحم، وكأننا بذلك نود أن نعود فنمر بجميع المراحل التي اجتازها الأدب في الغرب، وذلك بدلا من أن نجاري تطور الإنسانية العام، فندرك أن الشعر أوشك أن يصبح اليوم مقصورا على الفن الغنائي، وأن التجديد والإبداع في الشعر إنما يتركز اليوم في هذا الفن، وأن معارك الشعر الأدبية إنما تدور عند الغرب في العصر الحديث حول وسائل وأهداف ذلك الفن الغنائي.
ومع ذلك فإنه على الرغم من تطور فنون الشعر على النحو الذي ذكرناه، فإنه لا يزال من الأهمية بمكان أن نوضح وأن نتفهم أصول وأهداف كل فن من هذه الفنون؛ لكي نستطيع فهم مذاهب الأدب المختلفة، ومدى انطباقها أو تأثيرها على كل من هذه الفنون، كما ندرك أسباب نجاح كل مذهب في السمو بأحد تلك الفنون دون الفنون الأخرى على نحو ما نلاحظه من أن المذهب الكلاسيكي مثلا قد أدى إلى تفوق الشعر التمثيلي تفوقا لم يستطع أن يلاحقه أو يدنو منه الشعر الغنائي عند الكلاسيكيين، وذلك على حين نلاحظ على العكس أن الرومانسية قد أنتجت شعرا غنائيا يبذ في قيمته الإنسانية والفنية، الشعر التمثيلي الذي أنتجه الرومانسيون، كل هذا على حين فشل شعر الملاحم عند الفريقين بل عند جميع المحدثين.
أما شعر الملاحم فقد ازدهر في فجر الإنسانية، وهو الشعر الذي يقص أنباء المعارك والبطولة والأبطال على نحو ساذج خال من التعقيدات العقلية والفنية، حتى ليظن أن الملحمتين اللتين تعتبران المثل الأعلى لهذا الفن وهما: الإلياذة والأوديسة لم يبتكرهما شاعر بعينه إنما ابتكر أجزاءهما المختلفة شعراء شعبيون متعددون، ثم جاء هوميروس - إذا سلمنا بصحة وجوده التاريخي - فوعى في ذاكرته كل تلك الأجزاء، ولربما أضاف إليها أجزاء من ابتكاره، ثم أخذ يجوب بلاد اليونان ومعه قيثارته أو ربابته منشدا على نغماتها تلك الأشعار الرائعة بما فيها سحر البساطة ونضرة الجمال الذي يشبه جمال الطفولة، حتى إذا جاء القرن الخامس قبل الميلاد، رأى بيز ستراتوس حاكم أثينا أن يؤلف لجنة من الأدباء والشعراء؛ لتدوين هاتين الملحمتين حفظا لهما من الضياع. ولما كان الخيال الشعري قد احتفظ بذكرى هوميروس الشاعر الضرير، وتوارثت الأجيال أنباء شهرته الذائعة فقد نسبت الملحمتان إليه، وهما تقصان بعض أحداث تلك الحرب الضروس التي نشبت فيما بين القرنين العاشر والحادي عشر قبل الميلاد بين بلاد اليونان ومملكة طروادة في آسيا الصغرى، نتيجة لخطف باريس أحد أمراء طروادة لهيلانة زوجة منيالاس الملك اليوناني أثناء رحلته البحرية إلى بلاد اليونان. ولما كانت اللغة اليونانية عندئذ موحدة المستوى، ولم تكن هناك لغة عامية ولغة فصحى، كما كانت أوزان الشعر وأصوله موحدة؛ فإن هذا الشعر لم يعتبر شعبيا بالنسبة إلى غيره من الشعر الثابت النسبة لشعراء معينين، بل على العكس اعتبر التراث الأدبي الأول عند اليونان؛ حتى رأينا شعراء التمثيليات يعترفون بأن مسرحياتهم ما هي إلا فتات تساقط من مائدة هوميروس.
وسار الزمن سيرته، وأخذت الثقافة تنمو، وبنموها أخذت الطبيعة الإنسانية تتعقد وتبتعد عن الطفولة الأولى، كما أخذت فنون الأدب الأولى - وبخاصة الشعر - هي الأخرى تتعقد وتبدأ فيها بوادر الصنعة اللفظية، ومع ذلك استطاع فرجيل شاعر الرومان أن يضع لبني وطنه ملحمتهم، وهي: الإنيادة التي تقص أنباء جدهم الأعلى البطل أتيوس وتأسيسه لمدينة روما، وما كان له من معارك ومغامرات في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضا. وعلى الرغم من براعة فرجيل الفنية، ونمو ثقافته وتفكيره، فإن أدباء العالم كله لا يزالون يؤثرون الإلياذة والأوديسة على الإنيادة؛ وذلك لسحر بساطتهما وجمال شعرهما التلقائي.
وفي العصور الحديثة حاول عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر كتابة ملاحم، لكنهم فشلوا جميعا، وطوى الزمن ملاحمهم في جوف أمواجه، ولم تعد الإنسانية تقرأ وتعجب إلا بالملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة والإنيادة في الغرب، والمهبراته والرميانا في الهند، والشاهنامة في فارس.
والواقع أن الآداب الفنية في العصر الحديث، قد تركت فن الملاحم للآداب الشعبية، بل في استطاعتنا أن نلاحظ أن العصر الحديث قد أخذت تختفي منه أيضا الملاحم الشعبية، وذلك باختفاء شعراء الربابة المتجولين تدريجا بعد أن تطورت الإنسانية وتعددت لديها وسائل التسلية الآلية كالراديو وغيره، بل بعد أن تعقدت الطبيعة البشرية بنمو الثقافة والتفكير الوضعي، وانقضاء روح الطفولة الغضة بين البشر.
وهكذا نستطيع أن نسجل أن فن الملاحم انتقل بعد العصر القديم من الأدب الفني إلى الأدب الشعبي، ثم انتهى به الأمر إلى الاختفاء فلم تعد الإنسانية تبتكر ملاحم جديدة، وإن ظلت تطرب للملاحم القديمة فنية كانت أم شعبية؛ بحيث يتضح لنا أن محاولة بعض شعرائنا المحدثين كتابة ملاحم إنما هو ضرب من المجازفة التي تتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية. وما نظن أن أحدا منهم يستطيع أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة والسذاجة الساحرة التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة.
هذا، والملاحظ أن الملاحم كانت تتناول معارك وبطولة الماضي السحيق الذي جعل منه الخيال الشعبي والرواية الشفوية ما يشبه الأساطير وخوارق الأمور. والعالم اليوم لم يعد يخترع أساطير، كما أن اختراع الكتابة وتدوين التاريخ لم يعودا يسمحان بتحويل أحداث الماضي إلى خوارق وأساطير، ومن باب أولى أحداث الحاضر؛ بحيث يستطيع أحد شعرائنا المعاصرين أن ينظم قصيدة قصصية أو حماسية طويلة عن حرب فلسطين مثلا دون أن نستطيع إدخالها في فن الملاحم الذي تميز بخصائصه المحددة التي لم يعد يجهلها أحد من عامة الأدباء والدارسين في الغرب.
هذا، وقد ترجم سليمان البستاني إلياذة هوميروس شعرا، وكتب لها مقدمة ضخمة عن الشعر ونشأته وفنونه وأوزانه، لكننا نلاحظ أن هذه المقدمة هي التي تقرأ اليوم أكثر مما تقرأ الترجمة؛ وذلك لجهامة الأسلوب الذي استخدمه، وبعده عن سحر الأصل اليوناني وسذاجته.
كما ترجمت هي وغيرها من الملاحم القديمة إلى اللغات الأوروبية الحية جميعها، ومن بين تلك التراجم النثرية والشعرية ما يقارب الأصل في جماله، لكنه لا يلحق به، ومع ذلك فباستطاعة القارئ لترجمة إنجليزية أو فرنسية، فضلا عن الأصل اليوناني؛ أن يتبين عناصر السحر في تلك الملاحم، وملامح تلك السذاجة الغضة التي تتفتح لها النفس، بل باستطاعتنا أن نحيل السامع لحسن الحظ إلى عدة ترجمات ودراسات ظهرت حديثا في لغتنا العربية عن الملاحم القديمة، مثل: الترجمة الدقيقة التي نشرها الأستاذ أمين سلامة للإلياذة في مطبوعات «كتابي»، ومثل ترجمة ودراسات أديبنا الكبير الأستاذ دريني خشبة لأشعار هوميروس، وأساطير اليونان الأقدمين، ومثل التراجم التي صدرت لبعض ملاحم الشرق مثل: ترجمة أستاذنا المرحوم عبد الوهاب عزام لشاهنامة الفردوسي، والمحاولات التي بذلت لترجمة المهباراتة.
Неизвестная страница
ولا أدل على السذاجة الساحرة لتلك الملاحم من أن نرى هوميروس مثلا لا يحاول أن يستقصي وصفا، أو يحلل نفسا بشرية أو موقفا إنسانيا، بل يقذف تلقائيا بصفة أو يلون صورا عابرة، ومع ذلك يوحي بأسمى خصائص الجمال وأقوى عناصر التأثير. فهو مثلا يتحدث عن هيلانة مثال الجمال الأعلى التي كانت السبب في نشوب الحرب بين طروادة وبلاد اليونان، كما يتحدث عن أندروماك زوجة هيكتور التي سبت الرجال بجمالها، ومع ذلك لا يصف جمال هيلانة إلا بصفة واحدة يلصقها باسمها، وتتكرر الصفة نفسها مع الاسم كلما جرى في شعره، وهذه الصفة هي «عمق الحزام» فاسم هيلانة لا يرد إلا مردفا بقوله «ذات الحزام العميق» وأندروماك لا يرد اسمها إلا مردفا بصفة لا تتغير وهي «ذات الذراع البيضاء» وأما ما دون ذلك من مواضع الفتنة والجمال عن هيلانة أو أندروماك فذلك ما لا يشير إليه هوميروس مكتفيا بتكرار اسميهما مردفا بكل منهما الصفة الخاصة به؛ بحيث يولد فينا هذا التكرار إحساسا عميقا بالجمال، ويطلق هذا الإحساس العنان للخيال لتصور ما شاء من مواضع الفتنة والجمال.
وأما عن فن هوميروس الخاطف في تصوير الحالات النفسية المعقدة بواسطة صور حية خاطفة دون تمهل عند التحليل النفسي أو الأخلاقي المعقد، فلسنا نجد له مثلا خيرا من موقف إنساني شعري رائع، صوره هوميروس في الأغنية السادسة من الإلياذة؛ حيث قص قصة وداع هيكتور بطل طروادة وزوجته الجميلة المحبوبة أندروماك ذات الذراع البيضاء قبل انطلاقه إلى المعركة التي لقي فيها حتفه، ولم تكن أندروماك تجهل خطورة تلك المعركة التي كان زوجها سيلقى فيها أخيل بطل اليونان «أخيل ذا القدم الخفيفة» وتشفق عليه من الموت الذي يتهدده، ومع ذلك لا تريد أن تنال من شجاعته ومن ثقته بنفسه بإظهار الجزع؛ فهي تتجلد، لكن الجلد يخونها عندما يتناول هيكتور من بين ذراعيها ابنهما الصغير لكي يقبله ثم يرده لأمه، في هذه اللحظة الحاسمة تظهر قدرة هوميروس الخارقة رغم بساطتها وانحصارها في صورة حسية خاطفة لقطتها ريشته، فجمعت فيها العواطف والانفعالات التي كانت تصطرع في نفس أندروماك في تلك اللحظة، وهذه الصورة هي قوله: «ورد إليها هيكتور الطفل فتلقته بابتسامة تبللها الدموع.»
وأما عن خصائص الصياغة الشعرية، فقد انفرد فيها أيضا هوميروس بوسائل تلقائية ساذجة هي مع ذلك غزيرة الشاعرية، ومن أبرز تلك الخصائص استخدامه لنوع من الصفات التي يسميها النقاد المحدثون بصفات «الماهية»
Epithètes de nature
وبيان ذلك أن الصفات في اللغات جميعها ليست كما نظن مجرد أدوات لتمييز شيء عن شيء آخر، مثلما نقول: رجل أبيض؛ لتمييزه عن الرجل الأسود أو الأصفر، إنما هناك نوع آخر من الصفات لا تستخدم للتمييز، بل تستخدم لإظهار الماهية؛ أي أنها صفات ملازمة لطبيعة الشيء الموصوف مثل قولنا مثلا «الله الخالد الباقي» فصفتا الخالد والباقي لا تستخدمان هنا لتمييز إله خالد باق عن إله غير خالد ولا باق، إنما تستخدمان لإظهار طبيعة أو ماهية الله. وقد أحس هوميروس بهذه الحقائق اللغوية فأكثر من استخدام صفات الماهية التي تكسب شعره قوة وجمالا ساذجا كقوله: «البحر المائي» وككل تلك الصفات التي يلحقها بأبطاله لإظهار بعض خصائصهم لا لتمييزهم عن غيرهم.
وها هو ذا وصف هوميروس لبدء المعركة، كما حكاه في الأغنية الرابعة من هذه الملحمة مأخوذا عن ترجمة الأستاذ أمين سلامة:
بدء المعركة «وكما يضرب البحر الثائر الشاطئ الصاخب موجة بعد موجة مسوقا بالريح الغربية، فترفع الأمواج رأسها على سطح اليم أولا كالصخرة العالية، ثم تتكسر بعد ذلك على الشاطئ مدوية بصوت كقصف الرعد ناثرة زبدها من الماء الملح ... هكذا تحركت فرق الدانيين في ذلك اليوم، صفا بعد صف، دون توقف، إلى القتال، وأصدر كل قائد أمره إلى رجاله، بينما تقدم الباقون في صمت، وما كان يخيل إليك أن لتلك الجموع المتحركة أي صوت، بل كانوا جميعا صامتين كأنهم يخافون قادتهم، وكانت الدروع المرصعة تتلألأ على جسم كل رجل، وهم يسيرون. أما الطرواديون فكما تقف النعاج في جماعات لا تحصى في ساحة أحد الأثرياء ليحلب لبنها الأبيض، وتثغو دون هوادة كلما سمعت أصوات حملانها. هكذا أيضا ارتفع صياح الطرواديين في جميع صفوف الجيش الفسيح؛ لأنهم لم يكونوا كلهم يتكلمون لغة واحدة، بل خليطا من اللغات، وقد جمعوا من بلاد كثيرة يدفعهم «أريس» كما كانت الربة «أثينا» المتألقة العينين تدفع الآخيين الأغارقة، وتدفعهم معها آلهة الهلع والشغب والشقاق، وكانت الأخيرة - التي لا تهدأ ثائرتها - هي شقيقة ورفيقة أريس قاتل البشر، وكانت تبدو قصيرة القامة في أول الأمر حتى إذا اعتدلت في وقفتها طاول رأسها السماء، ووطئت قدماها الأرض في وقت معا، وإنها لتشعل الآن روح البغضاء الشريرة وهي تطوف بين الجموع لتزيد في أنات الرجال.
فلما التقى الجيشان الآن، وأصبحا في مكان واحد، التحما معا بالتروس والرماح، وكان المحاربون جميعا يرتدون دروعا من البرونز، فاصطكت التروس المطعمة بعضها مع بعض، وارتفع رنينها الصاخب، وبعد ذلك سمع صوت الأنين وصيحات النصر في وقت واحد من القاتلين والمقتولين، وفاضت على الأرض الدماء، وكما يحدث عندما تتدفق سيول الشتاء هابطة من الجبال من ينابيعها العظيمة إلى مكان يلتقي فيه واديان، فيجتمع فيضها القوي ليصب في مضيق عميق، ويسمع الراعي صخبها من بعيد وسط الجبال؛ هكذا أيضا ارتفع الصياح والصخب من التحام أولئك وأولئك في القتال، وكان أنتيلوخوس أول من قتل محاربا طرواديا في كامل عدته الحربية، رجلا عظيما من مقاتلي الصفوف الأولى، هو «أنجيبولوس بن ثالوسيوس» وقد ضربه الأول على قرن خوذته المزينة بخصلة من شعر الخيل، فانطلق الرمح إلى داخل جبهته، ونفذت السن البرونزية داخل العظم؛ فخيم الظلام على عينيه ، وسقط في الصراع العنيف محطما كالجدار، وإذ ذاك أمسك «أليفينور» بالقتيل من قدميه - وكان هذا ابن «خالكودون» وقائد «الأيانتيس» ذوي النفوس العالية - وحاول جذبه من تحت السهام جاعلا همه أن يجرده من درعه بمنتهى السرعة، لكن لم تلبث محاولته هذه غير فترة وجيزة؛ إذ بينما كان يسحب الجثة أبصر به «أجينور» العظيم النفس، ولما كان جنبه بدون وقاية وهو منحن أهوى عليه هذا برمحه ذي الطرف البرونزي فقطع أوصال أطرافه، وفي الحال فاضت روحه، وانهال على جثته سيل مرير من الطرواديين والآخيين، وشرعوا كالذئاب يقفزون الواحد فوق الآخر، وراح الرجل منهم يدحرج الرجل على الأرض.»
وأما فن الأدب التمثيلي فقد كان يصاغ هو الآخر عند اليونان الأقدمين شعرا، سواء منه المآسي والملاهي، بل كان يجمع فيه من الشعر والغناء والموسيقى والرقص؛ حيث ترى أجزاء المسرحية الإغريقية القديمة تتكون من مشاهد حوارية، وأغنيات للجوقة مصحوبة بحركات من الرقص البدائي ونغمات موسيقية ساذجة، وتتعاقب هذه الأجزاء المختلفة؛ الواحدة بعد الأخرى حتى نهاية المسرحية. •••
وعندما بدأت حركة البعث الأوروبي في القرن الخامس عشر، وعاد الأوروبيون إلى الأدب الإغريقي القديم يحتذونه، بل يستمدون منه مواضيع مسرحياتهم؛ رأيناهم في أول الأمر يجمعون في المسرح بين الحوار وبين المقطوعات الغنائية، لكن هذا النوع من المسرحيات لم يدم طويلا؛ فلم تلبث الكلاسيكية أن تكونت، وفيها انفصل فن التمثيل القائم على الحوار عن الغناء، وإن ظلت المسرحيات الجدية والهزلية تنظم شعرا على نحو ما نلاحظ عند كورني وراسين وموليير في فرنسا مثلا.
Неизвестная страница
وإذا كان بعض كبار شعرائنا المعاصرين كشوقي وعزيز أباظة قد كتبوا بعض المسرحيات الشعرية، فإن محاولتهم قد استهدفت للكثير من النقد على الرغم من قوة الشاعرية، كما أن نجاحها المسرحي ظل محدودا. •••
وأخيرا هناك فن الشعر الغنائي، وهو شعر القصائد والمقطوعات، وهو إذا كان قد اتخذ عند العرب صورة محدودة ثابتة هي القصيدة ذات الوزن الواحد والروي الواحد والقافية الواحدة والمستقلة الأبيات؛ فإنه قد اتخذ عند الغربيين منذ القدم صورا وأشكالا متباينة، وكان لكل صورة تركيبها الموسيقي الخاص، كما ارتبطت بعض التركيبات الموسيقية بالأغاني الشعرية المختلفة؛ فلأغاني الحماسة والنصر مثلا تركيب موسيقي يختلف عن أغاني الغرام أو أغاني الرعاة أو الأغاني الريفية، وإذا كانت النزعة الذاتية قد غلبت على الشعر العربي فإن الشعر الغنائي عند الغرب قد جمع بين الذاتية والموضوعية، بل إن هناك من القصائد التعليمية الطويلة ما يرتفع إلى ذرى الشعر، كقصيدة «الأعمال والأيام» لهزيود اليوناني، وقصيدة «طبيعة الأشياء» للوكريتوس الروماني، وذلك بفضل خصائص صياغتها الشعرية.
هذا والملاحظ أن الشعر الغنائي كان يتغنى به فعلا في فجر الإنسانية سواء عند العرب أو الإفرنج، وكلمة
Lirigue
الغربية مشتقة من كلمة
Lyre ؛ أي «عود». وفي موسوعة الشعر العربي وهي كتاب الأغاني نجد المؤلف يورد المقامات الموسيقية الخاصة لكل قصيدة وإن تكن اصطلاحاته قد أصبحت بالنسبة إلينا طلاسم ليس من السهل حلها، وإذا كان هذا النوع من الشعر قد تطور في الشرق والغرب من الغناء إلى الإنشاد بل وإلى القراءة الصامتة، فإن العنصر الموسيقي المتمثل في الوزن والإيقاع والانسجامات الصوتية لا يزال بالغ الأهمية في هذا الشعر، بل وأخذت أهميته تزداد في أواخر القرن التاسع عشر حتى رأينا الرمزيين يقولون إن الشعر موسيقى قبل كل شيء، وإن العنصر الموسيقي فيه يبذ في الأهمية المعاني والعواطف والصور الشعرية ذاتها باعتبار أن الموسيقى هي أقوى أداة للإيحاء، والشعر عندهم إيحاء أكثر منه تعبيرا لغويا صريحا واضحا.
هذا، والملاحظ كما سبق القول أن فن الشعر قد أوشك في العصر الحاضر أن ينحصر في هذا النوع الغنائي بعد أن اختفى شعر الملاحم، وبعد أن حل النثر محل الشعر في الأدب التمثيلي.
وبعد الفراغ من هذا الاستعراض السريع لتطور فنون الشعر، ننتقل إلى استعراض مماثل لتطور فلسفة الفن عامة والشعر بخاصة؛ لنرى كيف ساير التطور التاريخي السابق.
التطور الفلسفي
الكلمات التي يسمى بها الشعر في اللغات الأوروبية الحديثة مأخوذة كلها من الكلمة اليونانية القديمة
Неизвестная страница
، وهذه الكلمة الأخيرة مشتقة بدورها من الفعل اليوناني
ومعناها «يعمل» أو «يصنع» أو «يخلق»، وعلى هذا الأساس يكون معنى «الشعر » الاشتقاقي عندهم «الخلق» أو الإبداع، ومع ذلك نرى الفيلسوف الأول أرسططاليس يرجع الشعر، بل الفنون الأخرى جميعها إلى ما يسميه بالمحاكاة: أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بشتى الوسائل التي تملكها الفنون المختلفة، وهي في حالة الشعر اللغة والموسيقى، وعند الفهم الصحيح لنظرية المحاكاة كما تحدث عنها أرسطو لا نجد هناك تعارضا بين معنى الشعر الاشتقاقي وحقيقته القائمة على المحاكاة؛ فأرسطو لم يقصد هو ولا غيره من المفكرين القدماء والمحدثين إلى القول بأن المحاكاة الفنية نقل آلي أو شبه آلي عن الطبيعة أو الحياة، ومثل هذا النقل هو وحده الذي تنتفي معه صفة الخلق والإبداع في الشعر بخاصة والفنون عامة، فالفنان أو الشاعر لا ينقل عن الطبيعة أو الحياة رأسا وبطريق مباشر آلي، وإنما ينقل عن الصورة التي تنعكس في نفسه عن بعض مشاهد الطبيعة أو الحياة، ولا أدل على ذلك من أن أرسطو لم يحصر المحاكاة فيما هو واقع في الطبيعة والحياة، بل رأى أنها كثيرا ما تكون محاكاة لما يمكن أن يكون أو لما يجب أن يكون، ولا يمكن أن تقتصر على ما هو كائن، وعلى هذا الأساس يميز أرسطو بين التاريخ والأدب؛ فالتاريخ يتقيد بما كان، بينما الأدب يحق له، بل يجب أحيانا، أن يعمل فيما كان من الممكن أن يكون؛ ولذلك يبحث الأدب عن العام المشترك، بينما ينحصر التاريخ في الخاص المفرد؛ فهو قد يصور مثلا استبداد «نيرون» ولكنه لا يصور الاستبداد في ذاته منطلقا من إطاري الزمان والمكان؛ ولذلك يقدم التاريخ أفرادا وشخصيات بينما يستطيع الأدب أن يقدم نماذج بشرية، وفي كل هذا ما يفسح المجال أمام الأدب عامة للخلق والإبداع؛ بحيث تقترب حقيقته عند أرسطو من المعنى الاشتقاقي للفظة الشعر في لغة أرسطو نفسه، أي اليونانية القديمة، وهو معنى الخلق والإبداع.
على أنه يلوح لنا أن أرسطو عندما أرجع الشعر إلى محاكاة الطبيعة والحياة إنما كان ينظر إلى فنين بالذات من فنون الشعر، وهما: فن الملاحم، وفن التمثيليات الشعرية؛ أي الفنين الموضوعيين قبل كل شيء ، وذلك بدليل أنه لم يتحدث عن فن الشعر الغنائي في كتابه الذي تحدث فيه عن الشعر عامة، وهو كتاب «الشعر»؛ إذ نراه يكتفي بأن يقسم الشعر إلى فنونه الثلاثة ثم يغفل بعد ذلك الحديث عن الشعر الغنائي؛ ليأخذ في تفصيل القول عن الفنين الآخرين اللذين يستقيم فهمهما، أو يمكن أن يستقيم، على ضوء نظرية المحاكاة باعتبار أن الملاحم والمسرحيات تعرض قطاعات من الحياة؛ أي تحاكيها بالمعنى الواسع للمحاكاة سواء أكانت تلك القطاعات من الماضي كما كان الحال في الملاحم والتراجيديات أو من الحاضر كما كانت الحال في الكوميديات، وبخاصة كوميديات أريستوفان.
وعلى ضوء هذا التفسير نستطيع أن نفهم كيف أن الفلسفة الأدبية الكلاسيكية التي تقيدت بآراء أرسطو في الفن وبنظريته عن المحاكاة؛ قد اتجهت وأنتجت بنوع خاص في فن موضوعي من فنون الشعر كفن الشعر التمثيلي، كما نستطيع أن نفهم كيف أن الرومانسية التي تمردت على الكلاسيكية وعلى فلسفة أرسطو في الفن عامة والشعر بخاصة؛ قد اتجهت وأنتجت بنوع خاص في فن الشعر الغنائي الذي تفوقت فيه، وجعلت أساسه الفلسفي التعبير لا المحاكاة، فالشعر عند الرومانسيين تعبير عن الذات الشاعرة قبل كل شيء، ومن الغريب أن نلتقي هنا مع الرومانسية عندما ننظر في المعنى الاشتقاقي لكلمة «شعر» في لغتنا العربية؛ إذ من الواضح أن الشعر من الشعور، أي إنه هو ما أشعرك كما كان يقول شاعرنا الكبير عبد الرحمن شكري وإخوانه من رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر؛ إذ نلاحظ أن دعوتهم تلك لم تكن إلا رجوعا إلى المعنى الاشتقاقي للفظة «شعر» ولغتنا العربية، وإن يكن من الواضح أن اتصالهم بالشعر الغربي الغنائي هو الذي ردهم إلى هذا المعنى الاشتقاقي الخالد.
كان الرومانسيون إذن هم العامل الفعال في تغيير الأساس الفلسفي للفنون عامة والشعر بخاصة من المحاكاة إلى التعبير، وبفضلهم قوي الشعر الغنائي بينما أخذ الشعر الموضوعي يتراجع، وبخاصة في الفن الأدبي التمثيلي ليخلي مكانه للنثر.
وإغفال أرسطو الحديث عن الفن الغنائي في كتابه عن «الشعر» عامة؛ لا يزال موضع مناقشات وتكهنات بين المفكرين والباحثين، فمنهم من يرجح ما أشرنا إليه من عدم تمشي الشعر الغنائي باتجاهاته جميعها مع نظرية المحاكاة التي جعلها أرسطو أساسا للشعر بخاصة والفنون عامة، بينما يرى البعض الآخر أن أرسطو إنما أغفل الكلام عن الشعر الغنائي في كتابه «الشعر»؛ لأنه رأى أن الشعر الغنائي أدخل في مجال الموسيقى وألصق به من مجال الأدب. ويزعم أصحاب هذا الرأي أن أرسطو لم يكن يؤمن بأن الشعر الغنائي نفسه يخرج عن مجال المحاكاة؛ بدليل أن شعراء الإغريق ومفكريهم السابقين عليه كانوا أنفسهم يرون أن الشعر كله ضرب من المحاكاة، وباستطاعتنا أن نعثر في أقوالهم على ما يؤيد هذا الرأي مثل قول شاعرهم الغنائي سيمونيدس: «إن الرسم شعر صامت، والشعر تصوير ناطق.» وواضح من هذه العبارة أن الشعر عند سيمونيدس شبيه بالرسم، ومن البديهي أن الرسم يسهل إرجاعه إلى المحاكاة، ولكننا نحسب أن مثل هذا القول إنما يصح على الشعر الوصفي، بينما يصعب تطبيقه على الشعر الوجداني الذي يبدو لنا أن أساسه الفلسفي هو حاجة الشاعر إلى التعبير لا ميله الغريزي إلى المحاكاة، وذلك ما لم ندفع الجدل إلى حد السفسطة الميتافيزيقية، فنزعم أن التعبير عن الوجدان ما هو إلا تصوير لحالات نفسية ومحاكاة لها.
ونحن إذ نفرغ إلى أن الشعر الغنائي بنوع خاص قد أصبح أساسه الفلسفي منذ الرومانسيين الحاجة إلى التعبير لا الميل الغريزي إلى المحاكاة.
ننتقل إلى النظر في هدف هذا التعبير لنرى هل هدفه كما يرى الفيلسوف كروتشي: التنفيس عن الذات الفردية دون نظر أو اعتبار إلى الجمهور المتلقي؛ أي إن الفنان يبدع لنفسه أولا وينفس عن عاطفته قبل أن يخاطب الجمهور، وبذلك نعثر على الأساس الفلسفي لما سميناه الشعر المهموس، أم أن الفنان يبدع كما قال تولستوي ليخاطب الغير ويعديه بمثل حالته النفسية التي يعبر عنها، وبذلك نجد أساسا فلسفيا لما يسمونه بالشعر الخطابي أو شعر المحافل ذي النغمات الرنانة الجهورية.
وإذا فرغنا إلى أن الشعر الغنائي تعبير عن الوجدان، ليشفي الشاعر نفسه، أو ليخاطب الغير وينقل إليه عدوى نفسه، فلا بد أن ننظر بعد ذلك في طبيعة هذا الوجدان، وهل هو الوجدان الفردي فحسب أم من الممكن أن يكون أيضا الوجدان الجماعي؛ بحيث لا يتحدث الشاعر عن آلامه وآماله وأشواق روحه الخاصة فحسب، بل يتحدث أيضا عن آمال شعبه وآلامه وأشواق روحه باعتبار أن وجدان الشاعر لا يمكن أن يكون ذاتيا خالصا في الأحوال العادية، وفي غير حالات الانعزال، أو الانطواء المرضي، أو الأثرة المسرفة، أو الغفلة التي لا تجعله يدرك أن وجدانه جزء من وجدان مجتمعه، متأثر به مؤثر فيه، وأن الشاعر مهما كانت أصالته إنما يتكون من رواسب ماضيه وماضي قومه، وإشعاع حاضرهم، وإرهاصات مستقبلهم.
ولا بد لنا أيضا من أن ننظر بعد كل ذلك في وسائل التعبير وطرائقه، وهل يكون هذا التعبير بالطريق المباشر وبالأسلوب التقريري الذي يكشف به الشاعر عن ذات نفسه، ويعرضها عارية محللة إلى عناصرها الأولية على القراء والسامعين، كما يفعل الرومانسيون، أم يحسن به أن يلجأ إلى الصورة والرمز فلا يفصح عن حالته النفسية، بل يلتقط صورا ترمز لتلك الحالة كما يفعل الرمزيون، وبذلك نعود إلى قول سيمونيدس إن الشعر تصوير ناطق، أو كما يقول بعض نقادنا العرب القدماء تصوير بياني.
Неизвестная страница
وإذا فرغنا إلى أن الشعر عامة، والغنائي خاصة، تصوير بياني يجب أن ننظر في مجالات هذا الشعر، وهل للشعر كواحد من الفنون التعبيرية المتعددة مجال خاص كما حاول أن يثبت الناقد الألماني الكبير «لسنج» في كتابه «لاوكون» أم أن كل المجالات مباحة له حتى ولو اختلفت وسيلته عن وسائل الفنون الأخرى، كما يريد بعض الفلاسفة والنقاد المحدثين؛ بحيث يحق للشاعر أن يلج جميع الميادين دون أن يخشى التخلف في قوة التعبير والإيحاء عن غيره من الفنانين كالمصورين والنحاتين والموسيقيين.
وأخيرا لا بد أن نواجه مشكلة الصورة الشعرية التي كثيرا ما تقوم على المجازات والتشبيهات والاستعارات، لننظر في وظيفة هذه الصورة، وهل هي مخاطبة الحواس فحسب بأن يستند التشبيه إلى جامع من المظهر الشكلي، أم يخاطب الروح فيكون الجامع بين المشبه والمشبه به هو الواقع النفسي لكليهما؟ وبذلك ننتقل إلى الطرائق الرمزية في التعبير على نحو ما نحس في قول شاعر كبير مثل رابندرانات طاغور «السكون المشمس»؛ إذ من الواضح أنه لا يشبه هنا السكون بالإشماس، ولا يصفه به، وإنما يشبه وقع ذلك السكون المبهج في نفسه بوقع ضوء الشمس المشرقة؛ لأن المقصود بالتصوير البياني هو الإيحاء لا الإخبار، وهنا تجرنا نظرية الإيحاء إلى النظر في موسيقى الشعر، ومدى أهميتها في التعبير الشعري، هل هي جوهرية كما يزعم الرمزيون، أم أنها مجرد وسيلة كغيرها من وسائل التعبير الشعري!
كل هذه رءوس مسائل نرجو أن نعالجها في الأبواب القادمة مع ضرب أمثلة منتقاة من الشعر العالمي والشعر العربي على السواء، وتحليل تلك الأمثلة، وتطبيق النظريات الجمالية المختلفة عليها.
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
لقد عرف اليونان القدماء الذين يعتبرون رواد الشعر العالمي منبعين أساسيين للشعر، قالت بأحدهما الأساطير الشعبية التي زعمت أن للشعر إلها يوحي به هو أبوللو، وربات لكل فن من فنونه كانوا يسمونها «الميز»، فلشعر التراجيديا ربة، ولشعر الكوميديا ربة، وللشعر الغنائي ربة ثالثة، وباستطاعتنا أن نجد شبيها لهذا التصوير الشعبي عند الكثير من الشعوب القديمة، فالعرب القدماء كانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا في مثل قولهم «لولا هبيد ما كان لبيد.» وإذا كان اليونان القدماء قد تصوروا أن لآلهة الفنون جبلا تقيم فيه هو جبل «البرناس»، فإن العرب قد زعموا أن شياطين الإلهام تأوي إلى واد في بلادهم سموه وادي «عبقر»، ومنه اشتقت لفظة «العبقرية» التي تعتمد على الإلهام.
ولقد اعتنق أفلاطون هذا الخيال الشعبي في فلسفته أخذا عن أستاذه سقراط الذي كان يؤمن ويبشر بالوحي والإلهام، ويزعم أنه كان يتلقى هذا الوحي عن عرافة الإله أبوللو التي تقوم على معبده في مدينة «دلفوس»، وقد نمى أفلاطون نظرية الإلهام كمنبع للشعر في عدد من محاوراته وبخاصة في محاورة «أيون» ولكن هذا الاتجاه الغيبي لم يلبث أن عفى عليه أرسطو بفلسفته العقلية الخالصة؛ فرأيناه في كتابه عن «الشعر» يجعل منبعه - كما قلنا - المحاكاة؛ أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح، وبتخلي أرسطو عن نظرية المثل الأفلاطونية لم يعد الشعر محاكاة لتلك المثل! وإن كان أرسطو قد قرر أن تلك المحاكاة يمكن أن تكون لما يجب أن يكون لا لما هو كائن أو محتمل أن يكون فحسب، ولكن دون تقيد بعالم المثل الذي يمكن أن يفتح الباب لما سماه أفلاطون وسمته الشعوب القديمة بالإلهام، بينما يسميه علماء التحليل النفسي المحدثون كما سنرى ب «اللاوعي» أي مختزنات العقل الباطن ومكبوتاته التي تنطلق من مكامن النفس الخفية فيما يشبه فيض الإلهام.
ولما كان أرسطو يكاد يكون المفكر الوحيد الذي لم تمت مؤلفاته، بل ظلت حية نامية مؤثرة، بل مسيطرة خلال القرون الوسطى ذاتها وبعد ركود الثقافة الإنسانية القديمة؛ حيث لم تجد فيه الديانات السماوية الموحدة كالمسيحية والإسلام، اللتين سيطرتا سيطرة كاملة على جميع نواحي الحياة الفكرية والعاطفية والفنية خلال القرون الوسطى؛ ما يتعارض مع تعاليمهما، بل على العكس وجدتا في فلسفته العقلية ومنطقه ما يعين على تأييد مبادئهما الروحية العقلية مما ثبت سيطرته ونماها، بحيث نلاحظ أنه عندما ابتدأت حركة البعث العلمي بأوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي كانت فلسفة أرسطو لا تزال حية مؤثرة، وبقوة القصور الذاتي ظلت هذه الفلسفة مسيطرة أيضا في عصر البعث، ثم في عصر النهضة التي تلته وازدهرت في القرن السابع عشر قرن الكلاسيكية الأدبية الفنية، بينما ظلت فلسفة أفلاطون منزوية حتى القرن التاسع عشر؛ حيث بعثها الرومانسيون ومكنوا لها، فعادوا يقولون: إن الشعر إلهام وإن منبعه هو الحاجة إلى التعبير عن الوجدان المنفعل بالطبيعة، والحياة والله لا غريزة المحاكاة التي رد إليها أرسطو النشاط الأدبي والفني.
ونتيجة لطغيان نظرية المحاكاة على المذهب الكلاسيكي لم يزدهر من الشعر في هذا المذهب غير الشعر الموضوعي الذي تمثل في الشعر التمثيلي عند شعراء فرنسا الكبار: راسين وكورني وموليير مثلا، وأما الشعر الغنائي، أي شعر القصائد والمقطوعات، فقد ظل خافت الصوت ضيق الإنتاج، وإذا كان هذا الشعر الغنائي، الذي يمكن أن يستند إلى الأساس الفلسفي للمذهب الكلاسيكي وهو المحاكاة، بحيث يأخذ هو الآخر طابعا موضوعيا؛ قد ازدهر في فترة من فترات أدب عالمي كالأدب الفرنسي، فإن هذا الازدهار لم يحدث في العصر الكلاسيكي؛ أي في القرن السابع عشر، وإنما حدث بعد ذلك بقرن كامل؛ أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عندما ظهر شاعر غنائي شاب راح ضحية روبسبير إبان الثورة الفرنسية الكبرى، وهو الشاعر أندريه شينيه الذي ولد من أب فرنسي وأم يونانية، وكان يعشق الأدب اليوناني القديم من كل قلبه، فنادى بما سماه مؤرخو الأدب «الكلاسيكية الجديدة» التي لخصها الشاعر في بيت له يقول فيه: «فلنصغ أفكارا جديدة في ثوب قديم» وبالفعل نراه يكتب في حياته القصيرة باقة جميلة من القصائد التي اتخذ لكل منها موضوعا صب فيه أفكاره وأحاسيسه الحضارية الجديدة في أسلوب بسيط سهل جميل خال من كل تعقيد لفظي أو معنوي، وكأنه أسلوب أحد شعراء الإغريق القدماء، وإن لم تمنعه الموضوعية من أن يعبر عن ذات نفسه من خلال موضوعه على نحو ما نحس في قصيدة الحرية التي صاغها في صورة حوار بين راعي غنم وراعي معز، أحدهما عبد والأخر حر، ومن الواضح أن الإحساس بمرارة العبودية والعطف على العبيد إنما هو شعور حديث؛ فالعصور الوسطى بل والعصر القديم كانت ترى في نظام الرق ظاهرة اجتماعية طبيعية، وإذا كانت الديانات قد أوصت بالشفقة بالرقيق فإنها لم تحرم هذا النظام الذي ظل موجودا حتى العصر الحديث الذي قضى عليه وحرمه باتفاق دولي.
وقصيدة «الحرية» لأندريه شينيه تعتبر مثلا واضحا للشعر الغنائي الذي يمكن أن يقوم على أساس نظرية المحاكاة؛ فالشاعر يريد أن يظهرنا فيها على نزعات الخير التي لا بد أن تنمو في نفس الرجل الحر مقابل نزعات الشر التي لا بد أن تنمو في نفس العبد، وكأنه بذلك يعطينا صورة لنفس الرجلين كما يراها، وإن يكن قد عبر في الوقت نفسه عن وجدانه الخاص وطريقة انفعاله بالوضعين وسخطه على أحدهما ولكن بطريق غير مباشر، وإن يكن من القوة والوضوح بحيث يخرج هذا الحوار الشعري من مجال الأدب التمثيلي إلى مجال الأدب الغنائي.
وها هي ذي القصيدة:
Неизвестная страница
راعي المعز :
أيها الراعي، كيف أنت؟ وما بك؟ ما هذه الشعور السوداء التي نشرتها الآلهة فوق بصرك؟
راعي الغنم :
هيه! نعم! وأما أنت فذو شعر جميل أصفر، أهذا ما تريد أن أعلمه! هيه! نعم! جبينك أوضح من جبيني، ونظراتك أرق من نظراتي، أليس كذلك؟
راعي المعز :
قل لي إذن، أمن هذه الجبال الموحشة أتيت من حيث لا تلقى أحدا سواك والسبيل وعرة مخيفة؟
راعي الغنم :
وأما أنت فتنعم بلا ريب بالمروج والغابات، وذلك في متناولك، لك أن تجلس بين الحشائش المزهرة، أما أنا فمأواي الكهوف المقفرة؛ حيث يطيب لي أن أجلس على الصخر حتى ينصرم ضوء النهار.
راعي المعز :
ولكن إلهة الخصب «سيريس» قد أنزلت بتلك الصخور لعنتها، فهناك تتدفق السيول حصباء حاملة قاتم الموج، وقد أحرق لهيب الشمس أديم الصخر؛ يكوي أرجل عابري السبيل الذين يخفون عنها، وقد عريت عن جميل الزهر وحلو الفاكهة فلا تجد بها البلابل من الظلال الوارفة ما تأوي إليه إلا أن تكون أشجار الزيتون المنتثرة على مسافات بعيدة، وفي منظرها الجاف وقلة ما تعطيه من خيرات ما يزيد الجدب المحزن وضوحا، كيف تستطيع إذن أن تجد بين تلك الصخور من الحشائش ما تغذي به غنمك الجائعة؟
Неизвестная страница
راعي الغنم :
وماذا يعنيني من أمر الغنم؟ أهي لي؟ ما أنا إلا عبد.
راعي المعز :
لا أقل إذن من أنك وجدت في ناي الغاب ما تؤنس به وحشتك وسط جدب الصخور، خذه! أما تريد هذا الناي؟ لقد صنعته بيدي خذه، ولترسل أنفاسك في غابه، وغابه عذب الأغاني، ولتسمعنا من النغمات ما تحاكي به تغريد الطيور.
راعي الغنم :
لا، احتفظ بعطائك، ما أريد أن أسمع إلا طيور الظلام من بوم وعقبان، وفي نعيبها بالغناء ما يكفيني، ولا أريد أن أحاكي غير أغانيها ... وأما نايك فأنا محطمه تحت أقدامي، إنني لأبغض كل مسراتكم، وقلبي لا يخفق لجمال الزهر ولا لرقة الندى ولا لزفرات البلابل العذبة، لقد أغلقت حواسي دون ذلك كله، ألست عبدا؟
راعي المعز :
وا حسرتاه! إنك لجدير بالرحمة، نعم ما أقسى الرق! نعم، لكل حي أن يخشى نيره، ونيره ثقيل الحمل، ما أتعس أن نعيش لغيرنا وقد سلبنا ذلك الغير كل شيء! أيتها الحرية، أيتها الحرية العزيزة، ابسطي فوقي جناحيك، يا أم الفضائل، يا أم الوطن.
راعي الغنم :
اغرب عني، ما الفضائل وما الوطن إلا كلمات خاوية، ثم إن في حديثك ما يجرحني، وفي سعادتك المدعاة ما يحزنني ويثير حفيظتي، بودي أن لو كنت مثلي عبدا.
Неизвестная страница
راعي المعز :
وأما أنا فأود أن أراك مثلي حرا سعيدا، ولكن أما عند الآلهة من دواء لبلواك؟ لدينا بلاسم عذبة ومياه صافية تسكن بها جراح النفوس، لدينا من سحر الأغاني ما يجفف دمع الجفون.
راعي الغنم :
لكم ذلك، أما أنا ... فلا ... ليس لي إلا الآلام، لقد حكم القضاء أن أكون عبدا، ولا بد من نفاذ حكمه، وإلى جواري كلبي أسترقه بدوري حتى لترعده إشارتي، وما لدي غيره، ينتقم منه يأسي الصامت لما ينزل بي من آلام.
راعي المعز :
وتلك الأرض التي عنها صدرنا، وخصبها العذب أما تستطيع أن تشفي من آلامك؟ انظر إلى جمالها المشرق، انظر إلى الصيف البهيج؛ يغدق نعمه وقد أقبل تسوقه أشعة الشمس، يحنو على المروج فيباين من رداء الربيع الأخضر، انظر إلى حبات المشمش وقد أخذت عذوبتها تذكو، ولونها يصفو كعسل النحل، انظر إلى زهر الخوخ البنفسجي وقد زين أشجاره معلنا ما سوف يتبعه من حلو الفاكهة، انظر إلى حقول الغلال وقد تكاثفت سنابلها في غابات صفراء منتظرة مناجل الحصاد، إن في ذلك لحفلا نبيلا من إلهة الطبيعة. ها هي ذي إلهة السلام وآلهة الخصب الصافيتا النظرات، الهادئتا اللحاظ تخفان إلينا وبأيديهما سنابل، وقد تبعتا آثار إله الأمل؛ لتسكبا من القرن الذهبي مشرق الخيرات.
راعي الغنم :
لا شك أنها تظهرك على مواقع أقدامها، أما أنا فلا أستطيع أن أراها، وعيناي عينا رق، أرسل الطرف فلا أرى إلا أرضا مجدبة مهلكة، حملتها كارها على أن تدر الخير على غيري، تحت الشمس المحرقة أكدح لأحصد ما يتغذى به غيري وأنا أتضور جوعا، وذلك كل ما أعرف عن تلك الأرض، حتى لكأنها لم تكن لي أما كما كانت لكم بل زوجة أب، والطبيعة كلها ليست أشد وقعا على بصري، وألما لنفسي من وادي الموت الذي تراه هنا والذي يملؤك رعبا.
راعي المعز :
ومهام غنمك وهمس ثغائها الرقيق الهادئ، أما في ذلك ما يدخل السرور على نفسك الجامدة، أما تطربك رؤية حملانك الوادعة النظرات؟ كما تطربني مداعبة صغار معزي، وقد أخذت تمرح وتجري مرسلة في الهواء أصواتها الرقيقة! لكم من مرة أراها تهرول فوق الندى، ولامع الحشائش إلى جوار أمهاتها؛ فأقفز معها فرحا طروبا.
Неизвестная страница
راعي الغنم :
المعز معزك، وأما أنا فنصيبي من الحياة غير نصيبك، فتلك الغنم هي مصدر بلواي، أسرح بها مرتين في النهار، وكلما عدت وجدت سيدي في انتظاري، والظنون تساوره وقد عز رضاه: «لم ينم صوفها، لقد ضوت أجسامها، وتثاقلت خطاها، و... و...» فلا شيء يروقه. إذا سقط بها ذئب واختطف واحدة منها موليا إلى الغابة فالذنب ذنبي، لقد كان علي أن أغالب أنيابه الماضية، بل من واجبي أن أستأنس الذئاب!! ثم ينهال علي صياحا وتهديدا وسبابا وقسوة مبرحة يسميها عقابا.
راعي المعز :
لقد عهدت الآلهة رءوفة بالبريء، فلم تهجر رحابها وفي رحابها نصر للمستضعفين! لم لا تأتي إلى مذابحها وقد حلتها الزهور فترقص معنا حولها، وقد حملت إليها متواضع الهدايا، قليلا من حشائش المروج وزهر الغابات، وأنت بذلك نائل عطف «زيس» وعرائس الطبيعة الرحيمة.
راعي الغنم :
لا، إن قلبي الحزين لا يعرف رقص الرعاة ولا ألعابهم ولا مسراتهم، كل ذلك غريب عني، وفيم حديثك عن الآلهة وهداياها، أو عن عرائس الطبيعة، وما عندي للآلهة ورد ولا ريحان؟ إني أخشى آلهتك وقد رأيت رعدهم وبرقهم، وهم الذين وضعوا بيدي الأصفاد.
راعي المعز :
هه! ولم لا تحب؟ وأي ألم مر يقوى على ابتسامة عذبة تبسمها عذراء القلب؟! لقد أتيت أول أمس إلى حبيبتي مهديا باكورة ما أنتجت معزى هذا العام؛ ماعزا صغيرا، تلقته وقد استحالت نظراتها رقة وجمالا ومحبة، وأخذ صوتها نبرة لا أزال أحس بوقعها الجميل في نفسي.
راعي الغنم :
وأي عذراء تقبل أن تنظر إلي، أعندي من المعز ما أستطيع أن أقدم منه هدية مثلك؟ وكل يوم يعد سيدي الفظ الغليظ حملانه في حرص بشع حتى ليثلج قلبي عندما لا يطالبني بأكثر مما أعطاني. «تميزيس» آلهة الانتقام! أقسم أن لو أصبحت يوما سيدا لأكونن قاسيا فظا غليظا، ولأنزلن الويل والثبور بأرقائي كما أنزل بي هذا الرجل.
Неизвестная страница
راعي المعز :
وأما أنا فأستشهدك آلهتي، أن أكون رقيقا حليما بخدمي المخلصين، وأن أرضي أماني نفوسهم، حتى يشعروا بالسعادة، فيحبوا سيدهم، وحتى يرضوا عن الحياة، فيباركوا يوم ولدوا.
راعي الغنم :
وأما أنا فأصب اللعنة على تلك الساعة المشئومة التي أتيت فيها إلى هذه الحياة لأشقى بها، لأكون تحت إمرة آخر يأمرني وينهاني، وقد جردت من كل شيء، واستحال علي أن أروق لأي إنسان، والجوع يضويني، وقد انصرف كدي وألمي إلى آخر يشبع به بطالته وكبرياءه.
راعي المعز :
أيها الراعي البائس، إن في حزنك الشاكي ما يحمل الأسى إلى قلبي، انظر إلى هذه الماعزة وولديها، وفي بياضهما ما يشبه ما ادخرت لهما من لبن، هي لك، خذها وإلى عناية الله، ولتسأله أن يجعل في هذا القليل الذي أمنحك ما يمحو من ذاكرتك آثار آلامك، وأن تجد في العناية بها ما يصرفك عن بلواك.
راعي الغنم :
هاتها وعليك اللعنة، وأنا أعلم أن في هديتك ما سينغص حياتي، فسوف ينظر إليها سيدي شزرا منكرا أن يمنحني إياها مانح وهو الخبيث الحسود، سيقول إني اختلست منه ثمن الأم وثمن ولديها، سيتذرع بتلك الدعوى ليسلبني إياها، وعهدي به ملتمسا للظلم كل عذر.
هذه القصيدة تعتبر مثلا واضحا لشعر الغناء الموضوعي النيوكلاسيكي، وباستطاعتنا أن نجد لها شبيهات عند شاعرنا الكبير «خليل مطران» في مطولاته من أمثال قصائد «فنجان قهوة» و «الجنين الشهيد»، وإن لم تتخذ عنده صورة الحوار، ولكنها تتفق معها في أنها تصب أفكارا ومشاعر جديدة في ثوب كلاسيكي متين، وإن يكن هناك فارق كبير بين فن شينيه الساذج البسيط الأنيق وفن مطران المركب المتقن الصنعة إلى حد الخفاء.
ومن البديهي أن نظرية المحاكاة وسطوة أرسطو العقلية لم تستطع أن تتغلب على حاجة الإنسانية إلى التعبير عن ذاتها خلال الوجدان الفردي للشعراء، فلم يتوقف قط إنتاج الشعر الغنائي المنبعث عن الحاجة إلى التعبير عن الذات، ولم تنتظر الإنسانية ظهور الرومانسية لتعطيها حق التعبير عن الوجدان الذاتي؛ فقد ظل هذا الشعر حيا في عصور الإنسانية جميعها منذ القدم حتى اليوم، وأما الذي أحدثه الرومانسيون فهو تغليب هذا المنبع الشعري على غيره من المنابع، وجعله المنبع الأول لتلك الثروة الشعرية الضخمة التي خلفها لنا أمثال: هيجو، ولامارتين، وموسيه، وشيلي، وبيرون، وكلوردج، وكيتس، ووردزويرث، وكل ذلك العدد الكبير من العمالقة الذين نادوا بأن الشعر وجدان، أو على الأدق تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر، وعلى نحو أخص من خلجات قلبه وأحاسيسه بجمال الطبيعة أو حماسة الإيمان؛ حتى لنرى عندهم قصائد يوحي عنوانها بأنها قصائد وصفية مثل قصيدة «البحيرة» للامارتين، ومع ذلك نقرأ هذه القصيدة التي كتبها على ضفاف بحيرة بورجيه في جبال السافوي بفرنسا فلا نجد فيها أي وصف لتلك البحيرة، وقد استحالت إلى مجرد إطار لتجربة عاطفية عاناها على ضفافها مع حبيبته «الفير» التي قضى معها على ضفافها خمسة عشر يوما سنة 1816 ثم تواعدا على العودة إليها في العام القادم، ولكن شاء القدر أن يعود لامارتين وحده، أما الحبيبة فكان الموت قد طواها بذات الرئة، فكتب هذه القصيدة الرائعة باسم «البحيرة» وما فيها من وصف البحيرة غير ملامح خاطفة، أما بقية الشعر فعن ذكرياته مع الحبيبة، ولواعجه على موتها المبكر وما يسوقه إلى الشاعر من تأملات في الحياة والموت، وتلقف الغناء لفترات السعادة التي نصادفها في حياتنا العابرة. فالقصيدة كلها تعبير عن ذات الشاعر لا وصف للبحيرة أو محاكاة لصورتها الشعرية التي انعكست في نفسه؛ وبذلك يمكن القول بأن الكلاسيكية المستندة إلى نظرية المحاكاة الأرسططالية ونظرية التعبير عن الوجدان الفردي، وهي النظرية التي يسهل ربطها بالإلهام الشعري قد وضعتا نهائيا القطبين اللذين لا يزال الشعر يتأرجح بينهما منذ فجر الإنسانية حتى اليوم، وإليهما ترجع في أيامنا هذه النظريتان الكبيرتان اللتان يتنازعان العالم، وسيظلان يتنازعانه إلى أمد طويل، وهما «نظرية الواقعية والنظرية الرومانسية».
Неизвестная страница
غلبت إذن النظرية الرومانسية الحاجة إلى التعبير عن الوجدان الذاتي على غريزة المحاكاة الموضوعية حتى رأينا هذا الوجدان يطغى على كل شعر رومانسي، ولو أوحى بأنه شعر وصفي موضوعي، وها هي ذي قصيدة البحيرة للامارتين شاهدا على ذلك:
أنظل هكذا منساقين أبدا إلى شواطئ جديدة،
محمولين دائما وسط الليل الأبدي بغير رجعة؟
أوما نستطيع أن نلقى بمرساتنا يوما
على شاطئ الزمن اللجي؟ •••
أيتها البحيرة، لم يكد العام يتم دورته، ومع ذلك انظري ها أنا وحدي جالسا فوق هذه الصخرة
التي رأيتها تجلس عليها،
وإلى جوار أمواجك العزيزة التي كانت ستعود إلى رؤيتها. •••
هكذا كنت تهدرين تحت هذه الصخور العميقة،
وهكذا كنت تتكسرين على جوانبها الممزقة،
Неизвестная страница
وهكذا كانت الرياح تلقي بزبد أمواجك
فوق قدميها المعبودتين.
أوما تذكرين كيف كنا نجدف صامتين ذات مساء،
وكنا لا نسمع عن بعد فوق الموج وتحت السماوات
غير حفيف المجاديف وهي تضرب في صمت
أمواجك الناغمة؟ •••
وفجأة ترددت في الشاطئ
أصداء نغمات تجهلها الأرض،
فأنصت الموج وتساقطت من الصوت الحبيب
هذه الكلمات: •••
Неизвестная страница
أيها الزمن، قف جريانك.
وأنت أيتها الساعات السعيدة قفي انسيابك،
واتركينا ننعم باللذات العابرة،
التي تتيحها أجمل أيامنا. •••
كثير من منكوبي الحياة يضرعون إليك
فأسرعي! أسرعي عنهم،
واحملي مع أيامهم الآلام التي تنهشهم،
وانسي السعداء.
ولكنني أسألك عبثا فضلا من اللحظات؛
فالزمن يفلت ويهرب،
Неизвестная страница
وأقول لهذا الليل تمهل،
والفجر سيبدد الليل. •••
فلنحب إذن، فلنحب!
ولنسرع إلى المتعة باللحظة الهروب؛
فالإنسان لا مرفأ له، والزمن ما له من شاطئ،
إنه ينساب وننساب معه. •••
أيها الزمن الغيور،
هل يجوز أن تنساب عنا لحظات النشوة،
التي يسكب لنا فيها الحب السعادة جرعات طوالا،
بالسرعة نفسها التي تنساب بها أيام الشقاء؟
Неизвестная страница
ثم ماذا؟ أوما نستطيع أن نستبقي الأثر؟
أهكذا تمر إلى الأبد؟ أهكذا يضيع كل شيء؟
وهذا الزمن الذي منحها والذي محاها،
لن يردها إلينا قط. •••
أيها الأبد، أيها العدم، أيها الماضي، أيتها الأغوار الداكنة، ماذا تفعلين بما تبتلعين من أيام؟
تكلمي، هل ستردين إلينا تلك النشوات العلوية
التي تسلبينها منا؟ •••
أيتها البحيرة، أيتها الصخور الصامتة، والكهوف والغابة الحالكة،
أنت التي يستبقيك الزمن أو يجدد شبابك،
احتفظي من هذه الليلة، أيتها الطبيعة الجميلة،
Неизвестная страница
على الأقل بالذكرى. •••
وفي لحظات هدوئك أو صخبك،
أيتها البحيرة الجميلة، وفي شواطئك الباسمة،
وفي صنوبرك الأسود وصخورك الموحشة
الحانية فوق أمواهك، •••
وفي النسيم الذي يرتعش ويمر،
وفي النغمات التي ترددها شطآنك،
وفي النجم الفضي الذي يضيء صفحتك
بأشعته الرخية، •••
وفي الريح التي تئن والغاب الذي يتنهد،
Неизвестная страница
وفي العطور الخفيفة المنسابة في أريج هوائك،
وفي كل ما يسمع وما يرى وما يتنفس،
ليتردد في كل هذا: أنهما كانا حبيبين.
هذا، ومن الخير دائما أن نذكر مع الفيلسوف فيكو أن محور الأدب في تاريخ الإنسانية كلها قد تطور من الآلهة إلى الأبطال، فالإنسان، وأنه ما دام قد انتهى إلى الإنسان فلم يكن بد من أن يصبح دافعه ومنبعه الأول هو التعبير عن ذات ذلك الإنسان، وما ينطبع فيها من مشاهد الحياة والطبيعة، أو ينبع من داخلها وحاجاتها وأشواق روحها، وهذا هو ما انتهت إليه الرومانسية التي جعلت من الوجدان الفردي نبع الشعر الثري، وإن تكن قد اختلفت بعد ذلك مع المذهب الرمزي في طريقة التعبير عن انطباعات الذات الفردية، وهل يكون هذا التعبير عن طريق التقرير المباشر أم عن طريق التصوير، وبذلك نعود فنذكر قول الشاعر الإغريقي القديم سيمونيدس: «إن الرسم شعر صامت، بينما الشعر رسم ناطق.» وهذه هي مشكلة التعبير بين الرومانسية والرمزية على نحو ما سنفصل في الحديث القادم.
الشعر والوجدان الفردي
من المؤكد أن الرومانسيين قد وضعوا للشعر الغنائي فلسفته النهائية عندما أخرجوه عن دائرة المحاكاة، وقالوا إنه تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر بحيث نستطيع أن نقول إن جميع المذاهب الأدبية التي تلت الرومانسية لم تستطع أن تغير جوهر تلك الفلسفة؛ فقد ظل الشعر الغنائي منذ ذلك الحين حتى اليوم شعرا وجدانيا، فالرمزية لم تهاجم الطابع الوجداني للشعر الغنائي، بل أرادت أن تغير من فلسفة التعبير، فتستعيض بالصور عن التقرير المباشر، ولا تأتي بالتشبيهات والاستعارات والمجازات لجامع شكلي بل لجامع نفسي؛ أي كوسيلة للتعبير عن انطباعات النفس لا عن مظاهر الشكل الخارجي، والسيريالية لا تغفل الوجدان الفردي، بل تحاول أن تغوص إلى أغواره لتكشف عن عالم اللاوعي ومكبوتاته، والمذهب التعبيري يستهدف هو الآخر إبراز انطباعات النفس المتولدة عن مشاهد الطبيعة أو عن تجارب الحياة.
أما الواقعية والطبيعية اللتان تعتبران امتدادا لنظرية المحاكاة الأرسططالية فقد انحصرتا في فنون الأدب الموضوعية كفن القصة وفن المسرحية، وأما الشعر الغنائي فقد ظل دائما وجدانيا حتى في الآداب التي يطغى عليها التيار الواقعي، وإذا كان أديب كبير مثل مكسيم جوركي أو كوموجو الصيني يؤكدان أن الأديب الكبير لا بد أن يجمع بين الرومانسية والواقعية، فأكبر الظن أن رأيهما هذا ينصرف قبل كل شيء إلى الشعر الغنائي باعتبار أن الوجدان لا بد أن يكون منبع هذا الشعر، وإن كان يتحول في ظل الاتجاه الواقعي العام من وجدان ذاتي أناني إلى وجدان جماعي غيري، ولكنه يظل دائما وجدانا فرديا منبعثا عن ذات الشاعر الذي قد يدرك في ظل الواقعية الاشتراكية أن ذاته غير منفصلة عن مجتمعه وبيئته وطبقته الاجتماعية، وأن معظم هذا الوجدان متأثر بمحيطه ومؤثر فيه، وطبيعة الشعر الغنائي الوجدانية هي أيضا التي تدفع أديبا فيلسوفا كبيرا صاحب مذهب عالمي كجان بول سارتر زعيم الوجودية إلى أن يؤكد في كتابه «ما هو الأدب» أن الشعر الغنائي لا يمكن أن يخضع لمبدأ الالتزام الذي يريد سارتر أن يأخذ به فنون الأدب الأخرى كلها وبخاصة الموضوعية منها، كفن القصة وفن الأقصوصة وفن المسرحية. •••
فعندما نادت الرومانسية بأن الشعر تعبير عن الذات الشاعرة وبخاصة عن آلام الشاعر وشكواه من قيود الحياة الاجتماعية ولهفته إلى الانطلاق والتحليق، حتى قالوا إن خير الشعر ما كان أنات خالصة، انتشرت هذه الدعوة، وسط ظروف الحياة القاسية التي انبثقت منها، انتشار النار في الهشيم حتى عمت الإنتاج الأدبي كله، وسرعان ما انتهت إلى المبالغة والإسراف؛ فاستحال الشعر عند صغار الرومانسيين المقلدين إلى افتعال عاطفي وهلوسة روحية وتهويمات أثيرية وهروب من الحياة أو انطواء قاتل على الذات، ووسط كل هذه الاندفاعات أهمل التجويد الفني في وسائل التعبير، بل أهدرت في أحيان كثيرة القيم الفنية والجمالية للأدب كله، حتى انحدر التعبير إلى مستوى التقرير المباشر الضحل القليل الإيحاء، القريب الغور.
وقد أحدث هذا الإسراف في التيار العاطفي من الحياة والمحلق في أوهام الخيال دون اهتمام كاف بالناحية الفنية الجمالية للشعر، حتى لكأنه قد أصبح مجرد وسيلة للتعبير عن الذات الفردية، أحدث رد فعل مزدوج، فإلى جوار الرومانسية ظهر خلال القرن التاسع عشر المذهب الواقعي الذي يطالب بأن يسلط الأديب طاقته الخلاقة على واقع الحياة؛ لينتزع منه التجارب البشرية التي يريد أن يصوغها أدبا، وذلك لينصرف الأديب عن ذاته إلى موضوعه، ولكنه من الواضح أن هذا الاتجاه الواقعي لم يكن من الممكن أن يتسلط إلا على فنون الأدب الموضوعية كالقصة والمسرحية، وأما الشعر الغنائي فلم يستطع هذا التيار أن ينفذ إليه؛ ولذلك لا نكاد نجد شعرا يمكن أن يوصف بالواقعية بمعناها الفلسفي المحدد، وإنما نجد قصصا ينطبق عليها هذا الوصف كقصص «بلزاك وزولا»، كما نجد مسرحيات مثل مسرحيات «هنري بيك» وأقاصيص «جي دي موباسان».
وأما رد الفعل الذي كان له أثره في مجال الشعر الغنائي فقد كان فيما نادى به «تيوفيل جوتييه» وجماعته التي انسلخت عن المعسكر الرومانسي، ونادت بأن الشعر لا يجوز أن ينظر إليه كوسيلة لغاية أخرى حتى ولو كانت تلك الغاية هي التعبير عن ذات الشاعر؛ لأن الشعر في رأيه فن جميل يعتبر غاية في ذاته، وهذا هو مذهب «الفن للفن» الذي يقول بأن الشعر خلق لقيم جمالية تنحت من اللغة، حتى لنحس في قصيدة «الفن» لجوتييه، وهي القصيدة التي تعتبر إنجيل هذا المذهب، بأن جوتييه لا يفرق بين الشعر والنحت؛ فهو يطالب الشاعر بأن ينحت من اللغة أبياته، وأن يختار من مادة اللغة أصلبها، كما يختار النحات من الرخام أصلبه، ولا يزال يصارعه حتى يلين بين يديه ويخضع للصورة التي يريد أن ينحتها فيه؛ حيث يقول للشاعر:
Неизвестная страница