راعي المعز :
وأما أنا فأستشهدك آلهتي، أن أكون رقيقا حليما بخدمي المخلصين، وأن أرضي أماني نفوسهم، حتى يشعروا بالسعادة، فيحبوا سيدهم، وحتى يرضوا عن الحياة، فيباركوا يوم ولدوا.
راعي الغنم :
وأما أنا فأصب اللعنة على تلك الساعة المشئومة التي أتيت فيها إلى هذه الحياة لأشقى بها، لأكون تحت إمرة آخر يأمرني وينهاني، وقد جردت من كل شيء، واستحال علي أن أروق لأي إنسان، والجوع يضويني، وقد انصرف كدي وألمي إلى آخر يشبع به بطالته وكبرياءه.
راعي المعز :
أيها الراعي البائس، إن في حزنك الشاكي ما يحمل الأسى إلى قلبي، انظر إلى هذه الماعزة وولديها، وفي بياضهما ما يشبه ما ادخرت لهما من لبن، هي لك، خذها وإلى عناية الله، ولتسأله أن يجعل في هذا القليل الذي أمنحك ما يمحو من ذاكرتك آثار آلامك، وأن تجد في العناية بها ما يصرفك عن بلواك.
راعي الغنم :
هاتها وعليك اللعنة، وأنا أعلم أن في هديتك ما سينغص حياتي، فسوف ينظر إليها سيدي شزرا منكرا أن يمنحني إياها مانح وهو الخبيث الحسود، سيقول إني اختلست منه ثمن الأم وثمن ولديها، سيتذرع بتلك الدعوى ليسلبني إياها، وعهدي به ملتمسا للظلم كل عذر.
هذه القصيدة تعتبر مثلا واضحا لشعر الغناء الموضوعي النيوكلاسيكي، وباستطاعتنا أن نجد لها شبيهات عند شاعرنا الكبير «خليل مطران» في مطولاته من أمثال قصائد «فنجان قهوة» و «الجنين الشهيد»، وإن لم تتخذ عنده صورة الحوار، ولكنها تتفق معها في أنها تصب أفكارا ومشاعر جديدة في ثوب كلاسيكي متين، وإن يكن هناك فارق كبير بين فن شينيه الساذج البسيط الأنيق وفن مطران المركب المتقن الصنعة إلى حد الخفاء.
ومن البديهي أن نظرية المحاكاة وسطوة أرسطو العقلية لم تستطع أن تتغلب على حاجة الإنسانية إلى التعبير عن ذاتها خلال الوجدان الفردي للشعراء، فلم يتوقف قط إنتاج الشعر الغنائي المنبعث عن الحاجة إلى التعبير عن الذات، ولم تنتظر الإنسانية ظهور الرومانسية لتعطيها حق التعبير عن الوجدان الذاتي؛ فقد ظل هذا الشعر حيا في عصور الإنسانية جميعها منذ القدم حتى اليوم، وأما الذي أحدثه الرومانسيون فهو تغليب هذا المنبع الشعري على غيره من المنابع، وجعله المنبع الأول لتلك الثروة الشعرية الضخمة التي خلفها لنا أمثال: هيجو، ولامارتين، وموسيه، وشيلي، وبيرون، وكلوردج، وكيتس، ووردزويرث، وكل ذلك العدد الكبير من العمالقة الذين نادوا بأن الشعر وجدان، أو على الأدق تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر، وعلى نحو أخص من خلجات قلبه وأحاسيسه بجمال الطبيعة أو حماسة الإيمان؛ حتى لنرى عندهم قصائد يوحي عنوانها بأنها قصائد وصفية مثل قصيدة «البحيرة» للامارتين، ومع ذلك نقرأ هذه القصيدة التي كتبها على ضفاف بحيرة بورجيه في جبال السافوي بفرنسا فلا نجد فيها أي وصف لتلك البحيرة، وقد استحالت إلى مجرد إطار لتجربة عاطفية عاناها على ضفافها مع حبيبته «الفير» التي قضى معها على ضفافها خمسة عشر يوما سنة 1816 ثم تواعدا على العودة إليها في العام القادم، ولكن شاء القدر أن يعود لامارتين وحده، أما الحبيبة فكان الموت قد طواها بذات الرئة، فكتب هذه القصيدة الرائعة باسم «البحيرة» وما فيها من وصف البحيرة غير ملامح خاطفة، أما بقية الشعر فعن ذكرياته مع الحبيبة، ولواعجه على موتها المبكر وما يسوقه إلى الشاعر من تأملات في الحياة والموت، وتلقف الغناء لفترات السعادة التي نصادفها في حياتنا العابرة. فالقصيدة كلها تعبير عن ذات الشاعر لا وصف للبحيرة أو محاكاة لصورتها الشعرية التي انعكست في نفسه؛ وبذلك يمكن القول بأن الكلاسيكية المستندة إلى نظرية المحاكاة الأرسططالية ونظرية التعبير عن الوجدان الفردي، وهي النظرية التي يسهل ربطها بالإلهام الشعري قد وضعتا نهائيا القطبين اللذين لا يزال الشعر يتأرجح بينهما منذ فجر الإنسانية حتى اليوم، وإليهما ترجع في أيامنا هذه النظريتان الكبيرتان اللتان يتنازعان العالم، وسيظلان يتنازعانه إلى أمد طويل، وهما «نظرية الواقعية والنظرية الرومانسية».
Неизвестная страница