وسيحمل أكثر من قارئ - مختارا - على عد تجارب المختبر التي قامت عليها التجارب السابقة خاصة، فيزعم أن الأمور في مجرى الحياة تسير على وجه آخر.
والأمر غير ذلك، فمن غير احتياج إلى البحث التجربي يمكن أن يشار، عند العود من رحلة، إلى مقدار الشرود والخطأ في ذكرياتنا عندما نكتبها من ذاكرتنا، فنقابل بينها وبين ما في كتب الدليل من أوصاف، أو نقابل بينها وبين الصور الفوتغرافية.
قال الدكتور تولوز: «إذا ما بين سائح ما يذكره بعد جولان دهش واغتم وخجل من الأشكال المضحكة المشوهة المغلطة التي احتفظ بها في أثناء نزهه، ومن ذلك أنني أحببت أن أقوم ببعض تجارب حول ذلك، فسألت بعض الطوافين عما شاهدوه قبل قليل من المناظر والمباني، فأتوني بأوصاف يرثى لها، ولشد ما ذهلوا حينما عرضت عليهم صور تلك الأمكنة الفوتغرافية.»
وفي جميع هذه الملاحظات السابقة لم يدر البحث في غير الوقائع التي لا يمكن أن تتدخل فيها أهواء المشاهد الدينية أو السياسية، فإذا ما تحركت هذه الأهواء جاوزت التشويهات الحد، ويمكن أن يستنتج من هذا كون الحوادث تمسخ في الأدمغة كلما تمت، وكون شهادة الأشخاص الذين يرونها لا تصلح لغير تشويهها تشويها تاما.
وقد أتى جول سيمون بمثال بارز عن فتنة وقعت أمامه، حيث قال: «كنت قد قصصت غير مرة خبر يوم 31 من أكتوبر سنة 1870، وكل قصة على شاكلته، ولا يمكن إلا أن يحار كثيرا من تناقض أناس كثير من ذوي الصلاح فيما بينهم عندما يقصون وقائع كانوا قد شاهدوها، وأجد في كل خطوة هذا المنظر الهائل، وهو أن أقل ما يطمئن إليه الإنسان هو نفسه، وهو لا يثق بعينيه، لما بين عينيه وذاكرته من ناحية وخياله من ناحية أخرى من صراع مستمر، هو يعتقد أنه يرى وأنه يذكر، فيخترع.»
والتشويه أشد ما يبدو عميقا في الحوادث الدينية، وهو يشاهد في قصص الخوارق والظهورات الزاخرة بها الكتب، ففي عشرة قرون رأى الشيطان ألوف الناس، فلو عدت الشهادة الإجماعية التي أتاها هؤلاء الناظرون الكثر دليلا لقيل إن الشيطان هو الشخص الذي يكون وجوده قد أثبت خيرا من غيره، ومما لاحظه لانغلوا في هذا الأمر وجود وقائع تاريخية قليلة قامت على مثل هذا العدد من الشهادات المستقلة. •••
وكان المؤلفون السابقون يفسرون هذا الاختلاف في الشهادات بقولهم إن بعض الشهود كان حسن النية وبعضا آخر منهم كان سيئ النية، ويدل علم النفس الحديث على أنه أتي بهذه الشهادات المتناقضة بأمانة تامة في الغالب، فكل ما يشاهده الناظر يمثل صورا استدعتها حادثة في خياله، لا الحادثة نفسها، والناظر يستكمل سلسلة من الخواطر والإنابات لم تلبث نتائجها أن تبدو له من الحقائق.
وفي الشهادة يمكن أن يقال على العموم إن الخطر في حسن النية لا في سوئها، فيسهل كشف سوء النية بتناقض الشاهد عندما يكرر قصة كاذبة، ولكن كيف تشخص الضلالات النفسية التي ذهب الشخص المخلص ضحيتها؟ ثم إن سوء النية يتحول إلى حسن النية بتلقين ذاتي، والواقع أنه يكاد يتعذر على الإنسان أن يكرر الكذب عينه لزمن طويل من غير أن يصدقه في آخر الأمر.
وإذا كان من الصعب أن تروى الوقائع بدقة؛ فذلك لأن القدرة على الملاحظة تظل قليلة النشوء حتى في أبسط الأحوال، كالنظر إلى بناء أو إلى ما يحدث في الشارع مثلا، ولا ريب في أن رجال الجامعة عندنا في كل وقت عدوا هذا الفن غير نافع ما داموا لا يعلمونه، وهذا يوضح السبب في كون تلاميذهم يجوزون الحياة من غير أن يروا شيئا فيها.
ومع ذلك يمكن أن تكتسب صفة الملاحظة عمليا بمناهج سهلة بعض السهولة قد عرضتها في مكان آخر.
Неизвестная страница