هناك وجهان لنظرية الوحدة الميتافيزيقية ينبغي التفرقة بينهما. هذان الوجهان ينشآن من كون مشكلة الواقع النهائي مسألة ذات طابع مزدوج في أساسها. فأولا: ما طبيعة الوجود؟ وثانيا: ما عدده؟ وعلى حين أن قليلا من الفلاسفة هم الذين يحتفظون فعلا بالتفرقة بين المشكلتين الكمية والكيفية، فمن المهم أن ندرك أن المشكلتين متميزتان من الوجهة المنطقية. ولو لم نقم بهذا التمييز لشعرنا بالحيرة والارتباك عندما نصادف مفكرا يقول بأن هناك نوعا واحدا فقط من الوجود (أي مادة أو جوهرا أو مبدأ واحدا)، ولكن يؤكد بنفس القوة أن عدد الموجودات الفعلية غير محدودة.
2
إن من الصعب أن نحدد لأول وهلة أي نوع من الأنواع المتعددة للمذهب الواحدي هو الأكثر إقناعا من غيره؛ ذلك لأن الاختيار محدود في نظر معظمنا، ممن نشئوا على نوع من الثنائية. ويرى الفلاسفة أنفسهم عادة أن المادية هي النوع الأكثر إقناعا عندما يصادفه المرء لأول وهلة، ولكنهم لا يقصدون من ذلك أن مجرد كونه يبدو أكثر إقناعا هو دليل ضروري على حقيقته. وهناك مدرسة مادية متطرفة تذهب إلى أن المادة في مختلف صورها هي التي تؤلف الوجود كله. فلا شيء يوجد ما عدا المادة، على الرغم من كل المظاهر التي تبدو مخالفة لذلك، ولكن النوع الأكثر شيوعا بكثير في أيامنا هذه، هو ذلك النوع المعتدل من المادية، الذي يرى أن المادة، وإن تكن هي الحقيقة الأساسية، فإن الذهن يمكن أن تعزى إليه حقيقة ثانوية أو نصف حقيقة، تستمد من المادة أو تتوقف عليها. وتبعا لهذا الرأي المعتدل يعد الذهن تطورا للمادة، أو تنظيما عضويا لها، أو ثمرة لها «مثلما تزدهر النورة على الشجرة».
بعض مشكلات التعريف : نستطيع أن ندرك على الفور أن أي توحيد كهذا بين المادة وبين الواقع لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا عرف اللفظ تعريفا مرضيا. ولكن من سوء الحظ أن المادي ذاته كان في كثير من الأحيان غير دقيق في استخدامه لمصطلحاته الرئيسية. فقد كان، على وجه العموم، يكتفي بأن يستخدم لفظ «المادة» بنفس المعنى الذي يستخدمها به العالم. وهكذا نصل إلى نظرة إلى الواقع تجعله في هوية مع العالم الفيزيائي، الممتد مكانيا، والذي يسير وفقا لقوانين الحركة، بل إن المذاهب المادية القديمة كانت في العادة تعرف «المادة» و«الحركة» بأنهما هما الحقيقتان النهائيتان، ثم تحاول وضع مذاهب يرتد كل شيء فيها إلى هذين. أما اليوم فإن الفيلسوف المادي يعرف الواقع عادة بأنه مرادف لعالم الحوادث الفيزيائية الكيميائية. وعلى ذلك فالعالم الفيزيائي له الأولوية في نظر المذهب المادي؛ وبالتالي فإن المجالات الذهنية والروحية الأخلاقية ينبغي أن تخضع لهذا العالم الفيزيائي، وتقنع بأن تعد أنفسها أوجها له.
وكثيرا ما تثار أمام المادي مسألة كون مفهوم المادة يمر بتغير مستمر على يدي العلم، ويكون المقصود من هذه الإشارة هو أن تشييد نظرة إلى العالم على أساس مفهوم غير مستقر كهذا هو إجراء ميتافيزيقي مشكوك فيه. والواقع أن المادية تعترف بهذا التغير، ولكن دعاتها لا يخشون هذه الحقيقة. فهي بوصفها فلسفة، على استعداد تام لتشييد بنائها على العلم. وهي تفخر بصلتها الوثيقة بالعلوم، وتنظر إلى وصفها بأنها «فلسفة للعلم» وهو الوصف الذي يوجه إليها أحيانا بازدراء، على أنه مديح يدعو إلى الفخر. وفضلا عن ذلك، فإنها ترد على هذه التهمة القائلة إنها مبنية على مفهوم متغير، بالإشارة إلى أن المذهب الذهني، والمذهب الروحي، والمذهب المثالي، وجميع المذاهب الميتافيزيقية التي تبنى على الذهن أو الفكر بوصفه هو العنصر النهائي، تقف بدورها نفس الموقف. ذلك لأن مفهوم الذهن بدوره يمر بتغير مستمر، بل إن «الذهن» قد مر في نصف القرن الأخير بتغير أكبر مما مرت به «المادة». فقد أدى نمو علم النفس الحديث إلى تغيير عميق في مفاهيمنا عن أصل الذهن وطبيعته ووظيفته. ومن الجائز أن فرويد وحده، بنظريته في اللاشعور، قد أحدث في أفكارنا عن طبيعة الذهن تغييرا أعظم من كل ما أحدثه علماء الفيزياء في الأعوام الخمسين الأخيرة من تغييرات في آرائنا عن طبيعة المادة.
المادية الكلاسيكية في مقابل المادية الحديثة : كان المذهب الذي يمكن تسميته بالمادية الأقدم عهدا، أو الكلاسيكية، ينظر إلى المادة على أنها مؤلفة من جزئيات صلبة دقيقة يؤثر بعضها في بعض بطريقة آلية محضة؛ أي بالتصادم بعضها مع بعض ككرات البلياردو. وكانت المادة تعد جامدة أو «ميتة»، وكل التغيرات أو الحوادث تعد نتيجة لتعديل هذه الجزئيات لمواقعها. غير أن تقدم الفيزياء الحديثة قد أدى إلى القضاء على هذه النظرية القديمة، التي تعرف عموما باسم المذهب الذري الآلي. فلم تعد المادة تعد «ميتة»، أو حتى صلبة. والشيء الوحيد الذي ظل دون تغير هو تركيبها الانفصالي، أو طابعها الذري العام. وبدلا من الجزئيات الصلبة الجامدة، أصبحت المادة تعد الآن «طاقة منظمة مرتبة في نماذج أو أنماط»
3 ، بحيث إن العالم المادي يعد اليوم متصفا بكثير من الخصائص الدينامية التي كانت من قبل ترتبط بعالم الذهن أو الروح وحده. ولم تعد المادية اليوم تتحدث عن «المادة» وكأنها حد نهائي، وإنما أصبحت تقتدي بالعلم وتتحدث عن «الطاقة». وكثيرا ما أصبح يعترض اليوم بأن لفظ «المادية» لم تعد له أية صلة بالمذهب الذي يفترض أنه يصفه، وقد اقترح لفظ «مذهب الطاقة
Energism » بديلا عنه. ومع ذلك فإن المفكرين الذين يرون أن العالم الفيزيائي الكيموي هو النهائي، يفضلون في عمومهم الاحتفاظ باللفظ التقليدي - ولكن على أن يكون مفهوما أن «المادة» لا تعني تفسير الواقع على أساس ذرات متحركة، وإنما تشير إلى إرجاع التجربة والوجود معا إلى أية وحدات أساسية تقول بها العلوم الفيزيائية.
4 .
وسواء أقمنا بتغيير في المصطلح أم لم نقم، فمن الضروري أن نفهم الفارق بين المذاهب المادية القديمة والمعاصرة. ولو لم نفهم هذا الفارق لما كانت انتقاداتنا لهذا النوع الأول الكبير من المذهب الواحدي إلا من قبيل ذلك النشاط العقلي العقيم المعروف باسم «مهاجمة رجل من القش». والواقع أن كثيرا من الهجمات الموجهة إلى المادية، والتي تسمع اليوم في الأوساط المثالية، إنما تستهدف آراء لم يعد أي ممثل للمدرسة المادية يقول بها. ومما لا شك فيه أن الهجوم على الأشكال المعاصرة للواحدية المادية هو عمل يمكن أن يشغل المثالي بما فيه الكفاية، دون أن يضطر إلى أن ينفض الغبار عن آراء تاريخية لكي يسدد حربة إلى أجسادها التي تسهل إصابتها بالجروح.
Неизвестная страница