وهكذا يتضح لنا أن هناك عوامل معقدة في مشكلتنا التي كانت في الأصل مشكلة كمية بسيطة - وأعني بها مشكلة معرفة ما إذا كان الكون وحدة أم ثنائية أم تعددا، ولا بد أن تفيد هذه الحقيقة في جعل القارئ يتعاطف مع الفيلسوف في محاولاته الوصول إلى جواب، ويقدر أيضا أسباب إخفاقه حتى الآن في الوصول إلى حل يقبله الجميع. وإنه لمن الخير أن نواجه هذه الحقيقة، وأعني بها أنه لا يوجد حول هذه المسألة من الإجماع أكثر مما وجدناه في حالة المشكلات الأخرى للفلسفة، بل إن الاتفاق على هذه المسألة أقل. فهناك، إلى جانب التقابل المعتاد بين المذهبين المثالي والطبيعي، خلافات بين المدارس الكمية الثلاث، بحيث نجد مذهبا تعدديا هو في أساسه مثالي، يتصارع مع مذهب تعددي ذي نزعة طبيعية، أو مثالية ذات نزعة واحدية قاطعة تعارض مثالية ثنائية في أساسها. وقد يتساءل الناس أحيانا «هل ينبغي أن يختلف الفلاسفة؟» ولكن ينبغي أن يلاحظ أن هذا السؤال قلما يوجهه أولئك الذين يعرفون الكثير عن الفلسفة ومشكلاتها. ومن المؤكد أنه لا يصدر أبدا عن أي شخص ملم إلماما كافيا بتعقد البحث الميتافيزيقي عن الواقع النهائي. أما الشخص الذي تمرس طويلا في هذا الميدان، فإن الأمر الذي يدعو إلى العجب في نظره هو أن الفلاسفة قد وصلوا إلى هذا القدر من الاتفاق. وسوف يكون الهدف الذي نضعه نصب أعيننا، ونحن نبدأ هذا الفصل، هو أن نقلل عدد وجهات النظر الميتافيزيقية المتعارضة بقدر الإمكان. (1) الآراء الأساسية للمذهب الواحدي
يدور بين مؤرخي الفلسفة أحيانا جدال حول مسألة ما إذا كانت الواحدية أو الثنائية هي التي ينبغي أن تعد وجهة النظر البشرية «الطبيعية»، والنتيجة التي يسفر عنها مثل هذا الجدل عادة هي أن الاختيار لا بد أن يتوقف على وجهة النظر التي نقصدها، وهل هي وجهة النظر الساذجة، غير النقدية، عند من يسمى «بالإنسان العادي»، أم هي الموقف العقلي المعقد للفلسفة واللاهوت المنهجي. ففي نظر الذهن غير النقدي تبدو الثنائية مذهبا يكاد يكون غير قابل للنقد. ذلك لأن الشخص الساذج فلسفيا، متمدينا كان أم بدائيا، يعتاد بطبيعته النظر إلى عالم تجربته على أنه مؤلف من مجالين منفصلين: عالم مادي فيزيائي، يوجد فوقه أو من ورائه عالم مستقل ذهني أو روحي. ويمكن أن يسمى هذا المذهب ب «ثنائية الموقف الطبيعي»، وهو منتشر إلى حد أنه يكون دون شك أكثر الآراء الميتافيزيقية شيوعا، وذلك طوال التاريخ وفي أيامنا هذه أيضا. أما الفيلسوف فيبدو مهيأ منذ البداية، بنفس المقدار، للانجذاب إلى موقف واحدي. ويبلغ هذا الميل من القوة ما يسوغ لنا القول بأن الثنائية والتعددية معا يمثلان أفضل اختيار ثان بالنسبة إلى الفلسفة. ذلك لأن البحث الميتافيزيقي هو عادة، في نظر من ينصرفون إليه جديا، بحث عن عنصر واحد نهائي من نوع ما. وعندما تسفر النتيجة عن توأمين أو أكثر، فإن ذلك يكون راجعا إما إلى سبب منهجي،
1
وإما لأن هناك اعترافا ضمنيا بأن الباحث قد أخفق في إرجاع الكون إلى مادة أو مبدأ كامن. ولما كان هذا الكتاب مدخلا إلى الفلسفة المنهجية لا إلى التفكير الشعبي، فسوف نبدأ تحليلنا ببحث الموقف الواحدي.
العنصر المشترك بين كل المذاهب الواحدية : على الرغم من أن الواحدية الميتافيزيقية تتخذ صورا شتى، فإن لهذه الصور كلها رأيا مركزيا مشتركا: وهو أن أساس العالم واحد، وأن كل وجود يرجع إلى «مادة» واحدة أو مبدأ واحد. وعلى ذلك فإن الواحدية هي تلك النظرة إلى العالم، التي تبحث عن الوحدة في الواقع وتهتدي إليها. وبذلك تجعل من التنوع الزاخر للتجربة البشرية مجرد جوانب متعددة لنعصر نهائي واحد. وقد يتحقق هذا التوحيد على أساس مادة واحدة، أو على أساس روح أو ذات واحدة، أو قانون أو مبدأ واحد، وربما على أساس نشاط واحد أو عملية واحدة. ولقد وجدت المذاهب المتعددة التي تنتمي إلى المذهب الواحدي، مصدر الوحدة الذي تقول به في مواضع متباينة. ونتيجة لذلك فإن المذاهب الفكرية الكاملة كانت من التباين بحيث إن «الفردانية
Singleness » هي القاسم المشترك الوحيد بينها. وعندما يبلغ التقابل بين بعض هذه المذاهب وبعضها الآخر ما يبلغه التقابل بين بعض الأشكال المتطرفة للواحدية المثالية وللواحدية المادية، فإنه يصبح من الواضح أن المواقف الميتافيزيقية الأخرى في داخل المذهب الثنائي أو المذهب التعددي قد يكون بعضها أحيانا أقرب إلى البعض الآخر من بعض المدارس الواحدية.
عبء البرهان يقع على عاتق المذهب الواحدي : ليست الواحدية، كما أوضحنا من قبل، هي وجهة نظر «الموقف الطبيعي» أو رأي رجل الشارع في الأمور، بل إن قدرا كبيرا من تجاربنا اليومية يسير في طريق مضاد تماما للمصادرة الأساسية للمذهب الواحدي. ولكي نجد سببا كافيا للشك في آراء أي نوع من المذهب الواحدي، فإن كل ما علينا هو أن ننظر إلى إنسان آخر - أو إلى أنفسنا في المرآة. ذلك لأنه يبدو لنا بوضوح أننا مزيج من جسم وشيء واع نسميه عادة «بالذهن» أو «النفس» أو «الوعي». كذلك لا يستطيع الإنسان في موقفه الطبيعي أن يتصور كيف يمكن رد أي من هذين العنصرين إلى الآخر، فكل منهما يبدو نهائيا. ولو تحولنا من أنفسنا إلى العالم الخارجي، لما كان من الضروري أن يكون المرء صوفيا أو شاعرا لكي يحس وجود «حضرة
» أو «روح» تكمن في الطبيعة، بل إن الإنسان في موقفه الطبيعة ذاته كثيرا ما يكون لديه شعور بشيء في الطبيعة غير المادة التي تتخذ شكلا عضويا. وهكذا فإن تجربتينا الداخلية والخارجية معا تؤديان طبيعيا إلى إثارة السؤال عن الطريقة التي يستطيع بها القائل بالمذهب الواحدي أن يثبت موقفه - والأهم من ذلك، الطريقة التي يستطيع بها أن يحافظ عليه.
والواقع أن الواحدي ذاته، بغض النظر عن نوع الوحدة الذي يدعو إليه، هو أول من يعترف بأن موقفه لا يسهل الدفاع عنه. ذلك لأن الهجوم موجه إليه من كل النواحي. وكثيرا ما يتنافس «الموقف الطبيعي» والمذهب الثنائي، والتعددي، فيما بينهم، لكي يروا أيهم يستطيع أن يدس أكبر القنابل تحت بنائه الواحدي المحكم. على أن للهجوم الموجه من الموقف الطبيعي تأثيرا خاصا، ولو شاء الفيلسوف أن يحتفظ بأي اتصال بعالم التجربة البشرية اليومية، لكان عليه أن يصل إلى نوع من التفاهم مع الموقف الطبيعي في اعتراضاته هذه. ولما كان يبدو بوضوح أن تجربتنا تثبت على نحو قاطع وجود عالمين منفصلين، فإن عبء البرهان (أو البينة) ينبغي أن يقع على عاتق أي شخص يزعم أن هذه الثنائية ليست إلا مظهرا.
الواحدية والموقف الطبيعي : لا شك في أن عبء البرهان هذا أثقل على الواحدي منه على القائل بالمذهب الميتافيزيقي المضاد؛ أي التعددي؛ ذلك لأن من الممكن إقناع معظم الناس بأن العالم أعقد مما كانوا يظنون، وأن مكوناته الأساسية قد تكون مكونات لا حصر لها. ولكن الأصعب من ذلك بكثير أن نقنعهم بأن تباينه وتعقده الظاهر ليس إلا مظهرا فحسب، وأن كل الأشياء وكل التجارب - التي تشمل هذين العالمين المتعارضين ذاتهما، عالم «المادة» وعالم «الذهن» ترتد أساسا إلى وحدة نهائية واحدة. على أن من حسن حظ الواحدي أن هذا لم يعد اليوم يقتضي من الإسراف في الخيال ما كان يقتضيه من قبل، أو أننا أصبحنا اليوم على الأقل معتادين على مثل هذا الإسراف؛ ذلك لأن المثقفين مهيئون ذهنيا في الوقت الحالي لقبول رأي العالم الفيزيائي، القائل إن المادة تخرج إلى حد بعيد عن نطاق الموقف الطبيعي. وقد أصبح في استطاعتنا أن نقبل القضية العلمية القائلة إن قرص المنضدة ليس هو ذلك الشيء الصلب الساكن الذي تدركه حواسنا، كما أننا تكيفنا مع الفكرة القائلة إنها كتلة دينامية مؤلفة من ملايين البروتونات والإلكترونات الدائرة. وإذن فدهشتنا، على الأرجح، تكون أقل من دهشة أجدادنا عندما يعلن فيلسوف معين بكل جدية أن التباين الظاهري للعالم ليس إلا قناعا يخفي ما هو في أساسه واحد، أو أن كل الأشياء في نطاق تجربتنا ليست إلا مظاهر لمادة واحدة أو روح واحدة. وليس معنى ذلك أن في استطاعة الواحدي، باستخدام تشبيهات ضعيفة أو استدلالات متهافتة، أن يدعم موقفه الآن بسهولة أكبر مما كان يستطيع به ذلك في الماضي، بل إن كل ما يعنيه هو أن احتمال مواجهتنا لمثل هذه الاقتراحات بالهتاف «غير معقول» قد أصبح أقل. فنحن قد أصبحنا أكثر استعدادا للاستماع إلى وجهة نظر الواحدي، سواء أكنا متفقين معه أم لم نكن. (2) مدارس الواحدية: المادية
Неизвестная страница