فقام أيضا ومضى حول مكتبه، وسارت نحو الباب فتبعها، وهو يرنو إلى رسم ظهرها البديع، حتى وقفا وجها لوجه وراء الباب. تناول يدها وانحنى كأنما ليقبلها، ولكنه مد وجهه عند منتصف المسافة إلى خدها فلثمه. ولبث داني الوجه من وجهها، وأنفاسه ترعش الأهداب الحريرية المسدلة من كلفة الفستان أعلى الصدر، ثم تساءل برغبة محمومة: أما من قبلة؟
فأومأت إلى الأحمر في شفتيها وتساءلت: و ... هذا؟ - ولو!
فلثمت جانب فيه، ثم استدارت نحو الباب. •••
وقصد ثالث الثلاثة الشقة رقم 50 بالدور الثامن. كانت صورة الفتاة الجميلة ما تزال تعايش خياله معايشة لطيفة، مخالطة أفكاره ومشاعره وأنفاسه، وكان يتصور في نشاط حار خلاق الحياة العريضة التي يمكن أن يصنعها ذلك المثال من الجمال الحي. لكنها انطوت في ركن مجهول أمام السكرتيرة الدميمة الذكية التي ابتسمت لاستقباله. حياها برقة وهز رأسه هزة المتسائل، وهو ينظر نحو باب المدير، فقالت على الفور: إنه ينتظرك يا أستاذ.
ودخل فقام المدير باسم الوجه وهو يقول: أهلا أستاذ وديع، جئت في وقتك!
وتصافحا، ثم جلس وديع. أما المدير فمال نحو صوان قريب، فمد يده داخله مليا، ثم قدم إلى الأستاذ لفافة ماسية أدرك هذا لأول وهلة أنها «قرش»، ثم قال: هدية لك! لم أعرف إلا مصادفة أنك من أهل الكيف!
وابتسم وديع في شيء من الارتباك، وهو يدسها في جيبه، وجلس المدير وهو يقول: قرأت القصة، جميلة، نعم جميلة، لي عليها بعض الملحوظات سأحدثك عنها عندما يبدأ الاجتماع (ونظر في الساعة) .. وإذا كان لدى الآخرين ملحوظات أخرى، فرجائي أن تفرغ من إعادة كتابتها قبل نهاية الشهر، حتى يجد كاتب السيناريو مهلة لكتابته، وحتى ندخل الاستديو في الميعاد المتفق عليه.
القصة تتغير، ولكن قصة القصة وقصة جميع القصص، واحدة. هذه هي المسألة التي يتكرر وقوعها عند مناقشة أي من قصصه. قصتك جميلة يا أستاذ .. ولكن! هي جميلة ولكن يجب أن تؤلفها من جديد. وتساءل من خلال تنهدة لم تسمع عن ذلك الركن من الدنيا الذي تجري فيه الأمور على طبيعتها وتنطلق الطيور مغردة، بلا خوف ولا جهل ولا طغيان، ولم يداخله شك في أنه سيجد هنالك الفتاة الجميلة التي عايشت خياله حتى أثملته. وتحرك حركة لا معنى لها، وقال على سبيل الدفاع عن النفس: يا أستاذ مجدي، أنت سألتني إن كان عندي قصة فقدمتها، ثم أخبرتني أنك قبلتها، أليس كذلك؟ - طبعا، لكن القصة ليست إلا مشروعا، وعلينا أن نبدأ من أساس متين حتى نضمن إنتاج فيلم نظيف، شركتي عنوان الإنتاج النظيف، ألا تعلم أنهم يطلقون علي اسم المنتج المجنون لهذا السبب؟!
كان يتابع صوته بغيظ مكتوم، وينظر بغرابة إلى وجهه المطل عليه من وراء مكتبه، متضمنا جميع آيات الصحة والعافية والتحدي. كانت ملامحه جميعا تنطق بالتحدي، عيناه الجاحظتان، أنفه المدبب، فكاه العريضان القويان، وكانت عنايته بالأناقة فائقة الحد، ورائحة المسك تفوح منه رغم علم جميع المقربين إليه من أنه يتدهن بها لرأي قرأه عن إثارتها في أحد الكتب الجنسية. هذا المدير الكبير الذي قضى زهرة العمر مندوبا لشركة تأمين، وما زال يباهي بطلاقته في الفرنسية، ويستعمل منها الألفاظ والعبارات لمناسبة ولغير مناسبة، إلى درايته بأشياء كثيرة في الحياة العملية، وإن يكن الشيء الوحيد الذي لم يفقه فيه حرفا هو الفن بصفة عامة، والقصة بصفة خاصة. وتساءل وديع عن اللعنة الغريبة التي قضت عليه طوال حياته الفنية بأن يقف موقف المستأذن بفنه أمام أناس لا يربطهم سبب واحد بهذا الفن. وتنهد من الأعماق تنهيدة خفية حارة كمعركة في أعماق المحيط.
وفي تمام السادسة مساء جاء المخرج الأستاذ محمد طنطاوي، وتبعه بعد قليل الموزع مسيو دزرائيلي، ثم قامت الحجرة لاستقبال النجمة عواطف زهدي. وهلت المرطبات ألوانا وضج المكان بالأحاديث والنكات والتعليقات، على حين انكمش الأستاذ وديع في كرسيه ينتظر أن تبدأ محكمة التفتيش عملها. وجعل يسترق إلى وجوههم النظرات.
Неизвестная страница