Диван Мазини
ديوان المازني
Жанры
ولو كان الناس كلهم على شاكلة الريفي في سكينته وقنوعه؛ لما بقي لهم بعد أن يفيض الماء، ويسلم الجو، وينجب الزرع مطلب في الحياة، وما برح أهل المدن بأيديهم زمام العلم والصناعة والفنون، والكفاح يدفعهم إلى الحركة وطلب الانتقال؛ فتتقدم على أيديهم هذه الفنون وتنشأ من تقلبهم المذاهب الاجتماعية المختلفة؛ فترتقي حقوق الناس وواجباتهم، وترتقي الحياة تبعا لارتقاء هذه الحقوق والواجبات، وقد صدق «لاندور» حيث يقول على لسان بارو: «إن القانعين يجلسون ساكنين في أماكنهم، وأما الساخطون الناقمون فهم الذين يجني منهم العالم كل خير.»
ونظر أولئك الكتاب هذه النظرة إلى رجال العبقرية في الأزمان المتأخرة، فوجدوهم لا يسلم أحدهم من علة في الجسم، فظنوا أنهم قد وقعوا على السر، وقالوا: لو لم يكن هؤلاء العبقريون مرضى لما عمت فلسفة السخط، كأنه ليس بين هذا العصر وبين أن يكون أقدم العصور أخلاقا، وأرغدها عيشا، وأتمها نظاما، إلا أن يبرأ مائة رجل أو أكثر، أو أقل، من الداء!
بل لقد طاش بعضهم، فسمى عبقرية هؤلاء العظماء مسخا راقيا، وألحقهم بالممسوخين من زمنى الطبائع، ومرضى النفوس، الذين يخرج من بينهم القتلة والسرقة والمخبولون، ولو أنهم كانوا ألحن للغة الطبيعية، لعرفوا أنها لا تجمع بين المرض والعبقرية عبثا، وأن عظماء الأمم لو سلموا من الأدواء والعلل لوقفت الإنسانية اليوم عند حدود الآجام والكهوف.
ونحمد الله على أن ليست عقول هؤلاء الكتاب في رأس الطبيعة! فكانت تبدلنا من كل نبي وحكيم وشاعر مصارعا مضبور الخلق، عريض العنق، ولا ريب أن هذا العمل أريح لها من عناء تركيب الأمزجة، وتقسيم المواهب على قدر وحساب.
العبقري رجل أريد به أن ينسى نفسه ليخلص نفعه لنوعه، فلو أنه خلق مكين المرة، قوي الأسر، لصرفته دواعي اللحم والدم عن المضي لوجهته، ولشغله ما يشغل سائر الناس من أمور المعاش والأبناء عما خلق لأجله، ولا بد أن تضعف غريزة حفظ الذات فيه لتقوى بإزائها غريزته النوعية، ولن تضعف الغريزة الذاتية إلا بمرض في الجسد؛ أرأيت رجلا معافى البدن ينسى نفسه ليعيش بعد موته في ذاكرة نوعه؟ أم أنت تراه قاصر الهم على حياته لا يعنيه من الدنيا سواها؟
وللنوع فرض عام يطلبه من جميع أفراده، وهو التكاثر بالتوالد، بيد أنه كلما سفل النوع وسفل الفرد، كان التوالد أكثر، ويطرد هذا الأمر في الإنسان؛ فإن أكثر الناس توالدا هم أعجزهم عن حفظ النوع بغير وسيلة التوالد، وهم أحط الناس مدارك وعقولا، ثم ينشأ في بعض الأفراد قوى أدبية ينفعون بها النوع، ويحفظونه من جهات شتى، فتعدو هذه القوى على غريزة النسل، حتى يبلغ الأمر نهايتيه في النابغة، فيكون أنفع الناس لنوعه بقواه الأدبية، وأقلهم نفعا له بنسله؛ ولذلك لا يرغب النابغون في الزواج، وإن تزوجوا لا يلدون، وربما ولد لهم، ولكن لا يعيش أبناؤهم، أو يعيشون ولكنهم يهملون في الغالب تربيتهم وإنباتهم، وتلك لعمري حكمة بالغة، وسر دقيق من أسرار الاقتصاد الطبيعي في تقسيم العمل.
إن كان للأمة جهاز عصبي، فإن الشاعر العبقري أدق هذه الأعصاب نسجا، وأسرعها للمس تنبها، ولا غنى لجسم الأمة عن هذه الأعصاب المفرطة في الإحساس، لتزعج الأمة لأخذ الحيطة بينما تجمد الأعصاب الصلبة في صمم البلادة والأنانية.
فلا ينظرن الذين ينفقون فلسفة الرضى عندنا إلى المسألة من جهة واحدة، ولا يقولن نحن في عصر العمل، فزخرفوا لنا الحياة وشوقونا إليها، كلا! لسنا يا قوم في عصر العمل، فكم من عمل يدعو العاملين ولا يجيبونه! وكم من عامل يفتأ يدعو العمل فلا يجيبه! بل نحن في عصر التردد والاستياء، ولا بد لهذا الاستياء أن يأخذ مداه، ويطلع على كل نقص في أحوالنا، حتى إذا تمكن من النفوس فحركها إلى العمل، وعاد عليها العمل بالرضى، فلا ينس الناس يومئذ فضل شعر الضجر والاستياء.
فلئن توسم القارئون في شعر هذا الديوان هذه السمة، فليذكروا أنهم يقرءون ديوان شاعر يترجم عن زمنه «والمرء في نفسه يرى زمنه» كما يقول.
ويخيل إلي أن أخانا إبراهيم لو لم ينبغ في هذا العصر السوداوي، ونبغ في عصر فجر التاريخ، لكان هو واضع أسماء الجنة، عمار الغيران والجبال، وساقة السحب والرياح والأمواج، فإن به لولعا بوصفها، وإن أذنه لتتسمعها كأنها تنشد عندها خبرا، وأظنه لو كان خلق الدنيا، لما خلقها إلا جبالا عظيمة، وكهوفا جوفاء، ورياحا مدوية، وغماما مرزما رجاسا، وبحرا مصطخئا عجاجا، انظر كيف يصف الغار الذي يتمناه في قصيدة مناجاة الهاجر:
Неизвестная страница