Философские исследования (часть первая): в современной исламской мысли
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Жанры
فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين، وكأننا متفرجون عليه ولسنا أصحابه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسئولين عنه، نكرر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أن التراث القديم ليس منفصلا عنا، بل هو جزء منا، ونحن جزء منه، كوننا وأعطانا تصوراتنا للعالم، وأمدنا بموجهات للسلوك. نحن مسئولون عنه بقراءتنا له مثل مسئولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منا إزاءه في القراءة والتفسير والفهم والتأويل. نكرر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة، ولا نعرف كيف نشأت وأي أغراض خدمت. وبالرغم من تغير الظروف القديمة ونشأة ظروف جديدة تتطلب اختيارات بديلة، فإننا نكرر الاختيارات النمطية القديمة التي تعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروف الجديدة التي نعيشها اليوم وكأن التراث جسم ميت، وجثة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور، أو أصحاب أو أهل؛ ومن ثم يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيا يتصورونه «كتبا صفراء»، و«قيل وقال»، لا أمل فيه، لا يثير قضية، ولا يقدم حلا، فيتوجهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد «التغريب»، مما يجعل بعضهم يقوم برد فعل على ذلك، فيتمسك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة كلها، فتنقسم الأمة إلى فريقين؛ فريق يرى صلته بالتراث صلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثم وصال. الأول يرى في التراث كل شيء، والثاني لا يرى في التراث أي شيء.
ثم نقلناه كله، الصالح منه والضار . عممنا الأشعرية، ودرسنا الفلسفة الإشراقية، واجتررنا فقه العبادات، وشرحنا المحبة والفناء، ودعونا إلى التخلي عن العالم في مجتمع مهزوم مطحون، مسلوب الإرادة، غيبي أسطوري، منهوب الثروات، أزمته الفقر، ومأساته الاحتلال. درسنا أن النقل أساس العقل، وأن العقل قاصر في حاجة إلى وحي، وأن هذا الوحي هو النبي،
1
وأن أقصى ما للإنسان من فعله هو الكسب، وهو في نهاية الأمر تعليق لحرية الإنسان وإرادته بإرادة الآخر، وجعلها مشروطة بها، وأن مستقبل الإنسان خارج العالم، وأن الشهادتين تكفيان، وأن السياسة كلها مركزة حول شروط الإمام وصفاته الحميدة. ولما كان ذلك هو الموروث السائد، بعد أن حيكت مؤامرات الصمت على كل تراث آخر مناهض، وهو ما يساعد السلطة القائمة في سندها الشرعي أو في اقتضائها طاعة الناس لها، فقد درسناه واعتبرناه هو الصواب دون ما سواه، وأصبح ذلك عاملا مكونا رئيسيا في ثقافة الطلاب، فاستمرت المحافظة، واستمر تراث السلطة، وقدمنا بأيدينا إلى السلطات رعية مطيعة له، مؤمنة به وبالله، وقضينا بأيدينا على كل احتمال للتغيير والمعارضة والثورة.
لقد درسنا العقول العشرة، وخصصنا العقل الفعال، وتحدثنا عن الأفلاك العشرة، وبينا أن الكواكب والأفلاك أرواح ونفوس وعقول على أساس حركتها، يتم كل شيء في الأرض، فوجد وعينا القومي علل ظواهره في السماء وليس على الأرض. أما المعرفة فبمدد من السماء وليس بإحصاء كمي لواقع الناس. وشرحنا نظريات المحبة والفناء والحلول، وعرضنا قيم الزهد والورع والصبر والرضا والتوكل والشكر، وبينا أحوال الخوف واليأس والسكر والغيبة. وتساءلنا في الفقه: ما حكم وصية يكتبها رجل بين أنياب الأسد؟ هل يجوز أكل بيضة ولدتها فرخة نكحها إنسان؟ ما حكم رجل أقسم أن امرأته طالق إن هو جامعها في هذا الثوب، وإن لم يجامعها في هذا الثوب؟ ما هي أحكام الاستنجاء والغائط؟ وما حجم الحجر وشكله واتجاه الغائط وكيفية الجلوس؟ وما هي أحكام حلق عانة الميت؟ وكأن مظاهر المجتمع المتخلف وموضوعاته هي التي فرضت اختيار ثقافته. أما فقه الثورة، وفقه العدالة الاجتماعية، وفقه التحرر من الظلم، وهو ما يعاني الناس منه، فليس أساسا للاختيار أو موضوعا للتساؤل.
ولم ندرس علم أصول الفقه بأكمله وهو ما يعبر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيدا عن الاستشراق، وأحكام منطق اللغة بعيدا عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيدا عن الروايات الموضوعة التي تلهب الخيال وتتحول إلى جزء من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهج للسلوك بعيدا عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهج للرواية لضبط النقل أو وضع أصول المنطق الحسي الذي يقوم على المشاهدة ومجرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطق بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهد، وقياس الأولى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. لم نعتن بكيفية نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلا في إطار «تاريخ العلوم عند العرب» كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نحاول نحن معرفة الصلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوضع ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابن خلدون مع باقي المؤرخين دون إدراك للنوعية والاختيار. (2)
لقد فعلنا الشيء نفسه في التراث الغربي، فإذا درسنا الفلسفة الغربية فإننا ننتزعها من بيئتها وكأن ديكارت وكانط وهيجل وماركس ونيتشه وهوسرل وبرجسون وسارتر وميرلوبونتي وهيدجر نجوم لامعة نتأملها ونعجب بها، بل ونحكم عليها، على صدقها أو بطلانها، بحجج الذوق السليم أو العقل الصريح، وربما أيضا بالأخلاق الكريمة والقيم الفاضلة والنظم السياسية - وأحيانا الاجتماعية القائمة - والأعراف والتقاليد وكل الموروث القديم. ولما تشتتت المذاهب وتباينت الآراء وقعت الحيرة في الاختيار؛ هذا مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي، وذاك حسي؛ فالمحافظون يختارون المثالية، والتقدميون يختارون الواقعية، وينشأ الخلاف بيننا. والصراع على المذاهب في ظاهره غربي وفي حقيقته يكشف عن موقف حضاري خاص بنا، وهو أن المثالية وريث طبيعي للمحافظة والتقليد الديني ، والواقعية هي التطور الطبيعي للدين المثالي والأكثر قدرة على الدفاع عن حياة الناس ومصالح الشعوب.
وفي حقيقة الأمر فإن المذاهب الغربية وليدة بيئتها، بل إن فكرة المذهب إنما نشأت بعد أن تمت تعرية الواقع الأوروبي تماما من أغطيته النظرية القديمة الموروثة من العصر الوسيط المسيحي الكنسي. وجاء عصر النهضة، فأزاح كل الغطاءات النظرية الممكنة، رافضا الموروث باعتباره مصدرا للعلم الذي تحول إلى العقل والطبيعة. العقل والوحي شيء واحد، والطبيعة والدين شيء واحد (وحي العقل، دين الطبيعة).
2
نشطت المذاهب في القرن السابع عشر في محاولة لإيجاد نسق كلي شامل يقوم بدور الموروث القديم في تفسير العالم وإيجاد علاقة بين الله والطبيعة والإنسان. فنشأت العقلانية، ومنها المثالية النقدية، تعطي الأولوية للعقل وحقه في فهم الطبيعة. كما نشأت الحسية ومنها الوضعية؛ لتعطي الأولوية للحس وحقه في رؤية الطبيعة. وظل المذهبان يتصارعان مرة، ويتركبان في مذهب ثالث مرة أخرى؛ إما على نحو آلي خارجي ثابت (كانط) أو على نحو حيوي داخلي متحرك (هيجل). ثم أتت المذاهب الإنسانية الحيوية والإرادية والوجودية لتعطي الأولوية للإنسان على العقل والطبيعة، ولتحول العلوم الرياضية والطبيعية على السواء إلى علوم إنسانية، ففي سقراط الجديد يجتمع أفلاطون وأرسطو. وقد حكم تطور المذاهب قانون الفعل ورد الفعل، أو جدل الموضوع ونقيضه ومركبه، ثم طبع هذا الجدل الوعي الأوروبي في بنيته بقسمة ثلاثية ظاهرة؛ صورية، أو مادية، أو حيوية، وعادة ما يتم الخلط بين هذه المستويات دون تمييز بينها.
Неизвестная страница