Философские исследования (часть первая): в современной исламской мысли
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Жанры
الإهداء
مقدمة
موقفنا الحضاري1
أولا: مقدمة
ثانيا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
ثالثا: أزمة الموقف الحضاري
رابعا: الموقف من التراث القديم
خامسا: الموقف من التراث الغربي
سادسا: الموقف من الواقع
سابعا: خاتمة
Неизвестная страница
التراث والنهضة الحضارية1
أولا: التراث الذاتي
ثانيا: تراث الغير
ثالثا: النهضة الحضارية
الفلسفة والتراث1
أولا: مقدمة: ماذا تعني الفلسفة والتراث؟1
ثانيا: أزمة «الفلسفة والتراث»
ثالثا: مظاهر الأزمة
رابعا: تغير ظروف العصر
خامسا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين من خلال الذات
Неизвестная страница
سادسا: تطور الفلسفة: من الشرح والتلخيص إلى العرض والتأليف
سابعا: البنية الثلاثية للفلسفة: غياب الإنسان والتاريخ
ثامنا: خاتمة: مسئولية من؟
التراث والتغير الاجتماعي1
أولا: أنواع المجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها
ثانيا: النموذج التراثي
ثالثا: عيوب النموذج اللاتراثي
رابعا: نموذج إعادة بناء التراث
خامسا: مخاطر وشبهات
التراث والعمل السياسي1
Неизвестная страница
أولا: ماذا يعني التراث والعمل السياسي؟
ثانيا: العلوم التراثية ومعوقات العمل السياسي
ثالثا: العقائد التراثية ومواقع العمل السياسي
رابعا: خاتمة: ضرورة إعادة بناء التراث
كبوة الإصلاح1
أولا: مقدمة: وصف الظاهرة
ثانيا: الموقف من القديم
ثالثا: الموقف من الغرب
رابعا: الموقف من الواقع
خامسا: خاتمة: الوعي التاريخي
Неизвестная страница
الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي1
أولا: مقدمة: تحديد المصطلحات
ثانيا: مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه
ثالثا: مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته
رابعا: مدى قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل الأفضل وارتياد آفاقه، وبيان الطرق لتحويل الأفكار إلى واقع تطبيقي
خامسا: خاتمة
هل يمكن تحليل «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟
أولا: مقدمة: المراجعة كقراءة1
ثانيا: الموضوع والمنهج
ثالثا: الأقسام الرئيسية
Неизвестная страница
رابعا: مصر وتونس
خامسا: المشرق العربي والمغرب العربي
سادسا: العروبة وفلسطين
سابعا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية
ثامنا: حضور الاستشراق وغياب التراث الإسلامي
الإهداء
مقدمة
موقفنا الحضاري1
أولا: مقدمة
ثانيا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
Неизвестная страница
ثالثا: أزمة الموقف الحضاري
رابعا: الموقف من التراث القديم
خامسا: الموقف من التراث الغربي
سادسا: الموقف من الواقع
سابعا: خاتمة
التراث والنهضة الحضارية1
أولا : التراث الذاتي
ثانيا: تراث الغير
ثالثا: النهضة الحضارية
الفلسفة والتراث1
Неизвестная страница
أولا: مقدمة: ماذا تعني الفلسفة والتراث؟1
ثانيا: أزمة «الفلسفة والتراث»
ثالثا: مظاهر الأزمة
رابعا: تغير ظروف العصر
خامسا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين من خلال الذات
سادسا: تطور الفلسفة: من الشرح والتلخيص إلى العرض والتأليف
سابعا: البنية الثلاثية للفلسفة: غياب الإنسان والتاريخ
ثامنا: خاتمة: مسئولية من؟
التراث والتغير الاجتماعي1
أولا: أنواع المجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها
Неизвестная страница
ثانيا: النموذج التراثي
ثالثا: عيوب النموذج اللاتراثي
رابعا: نموذج إعادة بناء التراث
خامسا: مخاطر وشبهات
التراث والعمل السياسي1
أولا: ماذا يعني التراث والعمل السياسي؟
ثانيا: العلوم التراثية ومعوقات العمل السياسي
ثالثا: العقائد التراثية ومواقع العمل السياسي
رابعا: خاتمة: ضرورة إعادة بناء التراث
كبوة الإصلاح1
Неизвестная страница
أولا: مقدمة: وصف الظاهرة
ثانيا: الموقف من القديم
ثالثا: الموقف من الغرب
رابعا: الموقف من الواقع
خامسا: خاتمة: الوعي التاريخي
الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي1
أولا: مقدمة: تحديد المصطلحات
ثانيا: مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه
ثالثا: مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته
رابعا: مدى قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل الأفضل وارتياد آفاقه، وبيان الطرق لتحويل الأفكار إلى واقع تطبيقي
Неизвестная страница
خامسا: خاتمة
هل يمكن تحليل «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟
أولا: مقدمة: المراجعة كقراءة1
ثانيا: الموضوع والمنهج
ثالثا: الأقسام الرئيسية
رابعا: مصر وتونس
خامسا: المشرق العربي والمغرب العربي
سادسا: العروبة وفلسطين
سابعا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية
ثامنا: حضور الاستشراق وغياب التراث الإسلامي
Неизвестная страница
دراسات فلسفية (الجزء الأول)
دراسات فلسفية (الجزء الأول)
في الفكر الإسلامي المعاصر
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى كل من يفكر في جدل الأنا والآخر.
حسن حنفي
مقدمة
كتب هذا الجزء الأول «في فكرنا المعاصر» من «دراسات فلسفية» في وقت انقلاب الثورة المصرية على نفسها وتحولها إلى ثورة مضادة، وبداية ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة بتشجيع من الثورة المضادة أولا منذ 1971م، ثم انقلابا عليها ثانيا بعد 1981م، ثم اشتداد الصراع بين الإخوة الأعداء، الإسلاميين والعلمانيين.
Неизвестная страница
في هذا الإطار كتبت المقالات الثلاثة الأولى: «موقفنا الحضاري»، «التراث والنهضة الحضارية»، «الفلسفة والتراث»، من أجل تحديد ملامح المشروع الحضاري القومي في الثمانينيات: الموقف من التراث القديم من أجل تحرر الأنا من إسار الماضي، الموقف من التراث الغربي من أجل حمايتها من الوقوع في إسار بديل، الموقف من الواقع المعاصر من أجل مساعدتها على التنظير المباشر للواقع دون توسط النصوص القديمة أو الحديثة.
ويتعرض المقالان التاليان، الرابع والخامس «التراث والتغير الاجتماعي»، «التراث والعمل السياسي» لموضوع الربط بين تراث الأمة من ناحية والتغير الاجتماعي والعمل السياسي من ناحية أخرى، بعد أن توجهت الثورة المضادة مع بعض الجماعات الإسلامية للانقضاض على الإنجازات الثورية باسم التراث.
ثم كتب المقالان التاليان، السادس والسابع «كبوة الإصلاح»، «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»؛ من أجل رصد ظاهرة الكبوة في فكرنا الإسلامي المعاصر، منذ بداياته ومنطلقاته الأولى عند الأفغاني والطهطاوي وشبلي شميل، حتى نهاياته ونتائجه المعاصرة عند الجماعات الإسلامية، والوفد الجديد، والعلم والإيمان، ولبيان مسار الكبوة التدريجي من الجيل الأول حتى الجيل السادس، ومحاولة رفع الكبوة إلى مسار مستقبلي في خط صاعد جديد يلحق بالمنطلقات الأولى للرواد، ويطورها بطريقة أكثر علمية وجذرية.
والمقال الثامن والأخير: «الشخصية العربية» مراجعة لأحد رواد الفكر العربي المعاصر في تونس الشقيق، والتساؤل حول إمكانية دراستها من منظور استشراقي وبإطار مرجعي غربي.
حسن حنفي
القاهرة، مدينة نصر، يونيو 1995م
موقفنا الحضاري1
أولا: مقدمة
ليست الفلسفة مجرد فكر بلا زمان ولا مكان، بلا مجتمع وبلا حضارة. إنما هي نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به جيل، ويخدم مجتمعا، ويعبر عن حضارة. هذا ما حاول أصحاب المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار إثباته، مع أنه قضية بديهية ليست في حاجة إلى إثبات. وهذا ما وضعت لأجله علوم إنسانية بأكملها مثل علم اجتماع المعرفة أو الأنثروبولوجيا الحضارية، وما حاولته عدة نماذج من التاريخ : تاريخ الفلسفة، وتاريخ الأفكار، وتاريخ المذاهب ... إلخ.
قد تكون أزمة الفلسفة في جامعاتنا ومعاهدنا اليوم هي عدم الوعي بهذه البديهية وعيا علميا كافيا، وإن كانت ترددها، فيما يبدو، أول كل محاضرة، وفي نهاية كل درس دون تنفيذها وتطبيقها وإيجاد البراهين والاستدلال منها على نتائج معينة لجيلنا. وغالبا ما تكون الفلسفة تبنيا لمذهب اجتماعي؛ تقليدا لما هو موجود في بعض المراجع الأجنبية التي ينقل عنها، أو عن اقتناع مذهبي يظهر في السياسة أكثر مما يظهر في العلم، أو ردا على سؤال محرج لطالب ملتزم متحمس لقضايا المجتمع بناء على مذهب سياسي أو بدونه؛ تهربا من الإجابة. فما أسهل اللجوء إلى ظروف العصر أو ادعاء التقدمية الاجتماعية، وما أسهل ترديد الشعارات والتشدق بالمناهج الاجتماعية!
Неизвестная страница
هذا الوضع هو الذي دعانا، في حقيقة الأمر، إلى التفكير في علاقة الفلسفة بالموقف الحضاري لجيل محدد هو جيلنا. فنحن لا نتحدث عن أزمة كل العصور، فهذه لا وجود لها، أو عن الفلسفة العامة، فهذه أيضا لا وجود لها. هناك أبنية ذهنية ونفسية واجتماعية تظهر في كل عصر ولا يمكن تعميمها إلا بقدر عموم النفس الإنسانية وإطلاق العقل البشري. وهو في الحقيقة عموم لا يأتي إلا بعد خصوص، وعالم أذهان لا وجود له في الأعيان.
مما لا شك فيه أن الفلسفة في جامعاتنا وفي حياتنا العامة في أزمة. وجوهر هذه الأزمة أننا بعد أن أنشأنا جامعاتنا الحديثة منذ أكثر من نصف قرن - وجامعاتنا القديمة موجودة منذ أكثر من ألف عام - فإننا لا نستطيع القول بأن لدينا فلاسفة أو أننا أخرجنا فلسفة. وفي الحياة العامة بدأنا حركة الترجمة منذ أكثر من قرن ونصف منذ رجوع الطهطاوي، وتأسيس ديوان الحكمة الثاني؛ أعني مدرسة الألسن، ونحن حتى الآن ما زلنا نترجم، ونشكو من قلة الترجمات، بل إن مشروعنا القومي المتمثل حتى الآن في خطط دور النشر وبرامج وزارات الثقافة يتلخص في معظمه في مزيد من الترجمات. وحتى الآن لم تفعل هذه الترجمات فعلها، ولم تنتج عنها إبداعات، وكأن الترجمة غاية لا وسيلة، وكأن التحصيل هدف في ذاته. إننا ننتج، على أحسن تقدير، مؤلفات تعرض لمذاهب الآخرين اعتمادا على نصوص أصلية أو على دراسات ثانوية، فأصبحت الفلسفة لدينا تجميعا لأقوال، وعرضا لمذاهب، وشروحا على نصوص كما نفعل مع المتون القديمة، وكأننا استبدلنا متنا بمتن، والمحدثين بالقدماء، فإذا ما تحمس الكاتب والتزم فإنه يدافع عن المذهب المعروض ويهاجم خصومه في معركة ليس طرفا فيها، كاشفا بذلك عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يتلخص في الخطابة والجدل، وليس في القياس والبرهان، في منطق الظن وليس في منطق اليقين. لقد تحول المفكرون لدينا إلى وكلاء حضاريين ممثلين لمذاهب غريبة في معظمها عن بيئتنا؛ نظرا لريادة الغرب وغزوه الثقافي وانتشاره خارج حدوده، على عكس الشرق الذي لم نجد له بيننا ممثلين لفلسفاته في الهند أو الصين كما كان الحال عند مفكرينا الأوائل مثل البيروني وغيره. وهذا واضح من وضع الفلسفة الشرقية في جامعاتنا وكيف أنها لا تعطى إلا في أضيق الحدود، واعتمادا على مؤلف شهير كتب استكمالا لتاريخ الفلسفة في الغرب.
1
وقد يبدو ما في هذا البحث مكررا لما هو موجود سلفا سواء في كتب أو بحوث، ولكن الإصرار على ضرورة المشروع الحضاري القومي هو رسالة لا بد من تبليغها في كل لقاء مع مفكرين يهمهم الأمر.
2
ثانيا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
موقفنا الحضاري اليوم ذو أبعاد ثلاثة تعبر عن ضرورته، ولا حيلة لأحد فيها، ولا يمكن تغييرها ولا يمكن إغفالها، وإلا كانت الفلسفة بغير موضوع وبغير وطن؛ الأول: هو موقفنا من التراث القديم؛ وذلك لأننا مجتمع تراثي ما زال وعيه القومي مفتوحا على القدماء، وما زال القدماء يمثلون بالنسبة له سلطة يستشهد بها إذا ما نقصه الوعي النظري أو تحليل الظواهر. وما زالت تصوراتنا للعالم وموجهاتنا للسلوك مستمدة من التراث، لم تقم بيننا وبينه قطيعة، ولم تنشأ حركة نقد للتراث تضع تاريخنا الحديث في مرحلة جديدة. والثاني: موقفنا من التراث الغربي الذي بدأ يكون أحد الروافد الأساسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لثقافتنا العلمية والوطنية . وقد كان الآخر باستمرار حاضرا في موقفنا الحضاري منذ قدماء اليونان حتى محدثي الغرب. لم تحدث بيننا وبينه قطيعة إلا في الحركة السلفية، ولم تقم حركة نقد له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل، دون منهج النقد ومنطق البرهان.
والثالث: موقفنا من الواقع الذي نعيش فيه والذي نحتويه في شعورنا عن وعي أو عن لا وعي. وقد يكون هو الباعث على المعرفة، والموجه للاختيار. وقد يكون أحيانا هو المصدر الوحيد للمعرفة بالإدراك الحسي المباشر أو التنظير العقلي المباشر؛ وذلك أن الموقفين الأولين موقفان حضاريان بالمعنى الحرفي للكلمة، أي إنهما يتعاملان مع ثقافات مدونة في الغالب، ويغلب عليهما منهج النقل بصرف النظر عن مصدره: النقل من القدماء أو النقل عن المحدثين. في حين أن الموقف الثالث وحده هو الذي يتعامل مع مادة المعرفة «الخام» دون إدراك مسبق أو تنظير جاهز سواء من القدماء أو من المحدثين. وعادة ما يكون هذا الموقف الحضاري المثلث الأبعاد غير متوازن، ويكون حضور أبعاده فيه غير متكافئ؛ فقد يتركز أساسا على الموقف من التراث القديم ومن هنا تنشأ ثقافتنا الدينية وحركاتنا السلفية وتعليمنا التقليدي ونظمنا المحافظة؛ اقتناعا وإيمانا، أو نفاقا وتعمية عما يدور في الواقع بالفعل. وقد يرتكز على الموقف من التراث الغربي، ومنه تنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ونظمنا الحديثة؛ اقتناعا وإيمانا، أو دفاعا عن مصالح الحكام. وقد يرتكز الموقف الحضاري على البعد الثالث، أي الواقع ذاته، ومنه تنشأ ثقافتنا الشعبية وحركات التغير الاجتماعي، ومنه خرجت ثوراتنا الأخيرة. هذا الاتزان المفقود في الموقف الحضاري هو الذي يسبب فقدان وحدة الشخصية ويجعلنا نعيش في «فصام نكد» فتتضارب الثقافات ومناهج التعليم والمذاهب السياسية، ويقضى على الوحدة الوطنية في الممارسة، وعلى الشخصية القومية في النظر. وقد تتداخل هذه الأبعاد الثلاثة فيما بينها دون هذا الفصل الافتراضي المجرد؛ فقد يكون للوعي الفردي موقف إيجابي من التراث القديم يسبب موقفا آخر سلبيا من التراث الغربي، وقد يكون هناك موقف إيجابي من التراث الغربي يسبب موقفا آخر سلبيا من التراث القديم. وعادة ما يكون هذان الموقفان المتعارضان سلبيين بالنسبة للواقع؛ لأن المدخل الحضاري يكون بديلا عن الواقع المعيش، وكأن المعركة في الكتب وليست بين الناس. أما الذي يأخذ موقفا إيجابيا واعيا من الواقع فإنه يكون في العادة إيجابيا في موقفيه الحضاريين الأولين منتقيا ما يفيده منهما، فالأولوية للمصلحة على الكتاب، وللناس على الثقافة، وللحياة على الحضارة.
ثالثا: أزمة الموقف الحضاري
تتجلى أزمة الموقف الحضاري في موقفنا من كل بعد فيه، سواء كان التراث القديم، أو التراث الغربي، أو الواقع المعيش للناس. (1)
Неизвестная страница
فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين، وكأننا متفرجون عليه ولسنا أصحابه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسئولين عنه، نكرر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أن التراث القديم ليس منفصلا عنا، بل هو جزء منا، ونحن جزء منه، كوننا وأعطانا تصوراتنا للعالم، وأمدنا بموجهات للسلوك. نحن مسئولون عنه بقراءتنا له مثل مسئولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منا إزاءه في القراءة والتفسير والفهم والتأويل. نكرر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة، ولا نعرف كيف نشأت وأي أغراض خدمت. وبالرغم من تغير الظروف القديمة ونشأة ظروف جديدة تتطلب اختيارات بديلة، فإننا نكرر الاختيارات النمطية القديمة التي تعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروف الجديدة التي نعيشها اليوم وكأن التراث جسم ميت، وجثة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور، أو أصحاب أو أهل؛ ومن ثم يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيا يتصورونه «كتبا صفراء»، و«قيل وقال»، لا أمل فيه، لا يثير قضية، ولا يقدم حلا، فيتوجهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد «التغريب»، مما يجعل بعضهم يقوم برد فعل على ذلك، فيتمسك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة كلها، فتنقسم الأمة إلى فريقين؛ فريق يرى صلته بالتراث صلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثم وصال. الأول يرى في التراث كل شيء، والثاني لا يرى في التراث أي شيء.
ثم نقلناه كله، الصالح منه والضار . عممنا الأشعرية، ودرسنا الفلسفة الإشراقية، واجتررنا فقه العبادات، وشرحنا المحبة والفناء، ودعونا إلى التخلي عن العالم في مجتمع مهزوم مطحون، مسلوب الإرادة، غيبي أسطوري، منهوب الثروات، أزمته الفقر، ومأساته الاحتلال. درسنا أن النقل أساس العقل، وأن العقل قاصر في حاجة إلى وحي، وأن هذا الوحي هو النبي،
1
وأن أقصى ما للإنسان من فعله هو الكسب، وهو في نهاية الأمر تعليق لحرية الإنسان وإرادته بإرادة الآخر، وجعلها مشروطة بها، وأن مستقبل الإنسان خارج العالم، وأن الشهادتين تكفيان، وأن السياسة كلها مركزة حول شروط الإمام وصفاته الحميدة. ولما كان ذلك هو الموروث السائد، بعد أن حيكت مؤامرات الصمت على كل تراث آخر مناهض، وهو ما يساعد السلطة القائمة في سندها الشرعي أو في اقتضائها طاعة الناس لها، فقد درسناه واعتبرناه هو الصواب دون ما سواه، وأصبح ذلك عاملا مكونا رئيسيا في ثقافة الطلاب، فاستمرت المحافظة، واستمر تراث السلطة، وقدمنا بأيدينا إلى السلطات رعية مطيعة له، مؤمنة به وبالله، وقضينا بأيدينا على كل احتمال للتغيير والمعارضة والثورة.
لقد درسنا العقول العشرة، وخصصنا العقل الفعال، وتحدثنا عن الأفلاك العشرة، وبينا أن الكواكب والأفلاك أرواح ونفوس وعقول على أساس حركتها، يتم كل شيء في الأرض، فوجد وعينا القومي علل ظواهره في السماء وليس على الأرض. أما المعرفة فبمدد من السماء وليس بإحصاء كمي لواقع الناس. وشرحنا نظريات المحبة والفناء والحلول، وعرضنا قيم الزهد والورع والصبر والرضا والتوكل والشكر، وبينا أحوال الخوف واليأس والسكر والغيبة. وتساءلنا في الفقه: ما حكم وصية يكتبها رجل بين أنياب الأسد؟ هل يجوز أكل بيضة ولدتها فرخة نكحها إنسان؟ ما حكم رجل أقسم أن امرأته طالق إن هو جامعها في هذا الثوب، وإن لم يجامعها في هذا الثوب؟ ما هي أحكام الاستنجاء والغائط؟ وما حجم الحجر وشكله واتجاه الغائط وكيفية الجلوس؟ وما هي أحكام حلق عانة الميت؟ وكأن مظاهر المجتمع المتخلف وموضوعاته هي التي فرضت اختيار ثقافته. أما فقه الثورة، وفقه العدالة الاجتماعية، وفقه التحرر من الظلم، وهو ما يعاني الناس منه، فليس أساسا للاختيار أو موضوعا للتساؤل.
ولم ندرس علم أصول الفقه بأكمله وهو ما يعبر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيدا عن الاستشراق، وأحكام منطق اللغة بعيدا عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيدا عن الروايات الموضوعة التي تلهب الخيال وتتحول إلى جزء من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهج للسلوك بعيدا عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهج للرواية لضبط النقل أو وضع أصول المنطق الحسي الذي يقوم على المشاهدة ومجرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطق بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهد، وقياس الأولى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. لم نعتن بكيفية نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلا في إطار «تاريخ العلوم عند العرب» كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نحاول نحن معرفة الصلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوضع ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابن خلدون مع باقي المؤرخين دون إدراك للنوعية والاختيار. (2)
لقد فعلنا الشيء نفسه في التراث الغربي، فإذا درسنا الفلسفة الغربية فإننا ننتزعها من بيئتها وكأن ديكارت وكانط وهيجل وماركس ونيتشه وهوسرل وبرجسون وسارتر وميرلوبونتي وهيدجر نجوم لامعة نتأملها ونعجب بها، بل ونحكم عليها، على صدقها أو بطلانها، بحجج الذوق السليم أو العقل الصريح، وربما أيضا بالأخلاق الكريمة والقيم الفاضلة والنظم السياسية - وأحيانا الاجتماعية القائمة - والأعراف والتقاليد وكل الموروث القديم. ولما تشتتت المذاهب وتباينت الآراء وقعت الحيرة في الاختيار؛ هذا مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي، وذاك حسي؛ فالمحافظون يختارون المثالية، والتقدميون يختارون الواقعية، وينشأ الخلاف بيننا. والصراع على المذاهب في ظاهره غربي وفي حقيقته يكشف عن موقف حضاري خاص بنا، وهو أن المثالية وريث طبيعي للمحافظة والتقليد الديني ، والواقعية هي التطور الطبيعي للدين المثالي والأكثر قدرة على الدفاع عن حياة الناس ومصالح الشعوب.
وفي حقيقة الأمر فإن المذاهب الغربية وليدة بيئتها، بل إن فكرة المذهب إنما نشأت بعد أن تمت تعرية الواقع الأوروبي تماما من أغطيته النظرية القديمة الموروثة من العصر الوسيط المسيحي الكنسي. وجاء عصر النهضة، فأزاح كل الغطاءات النظرية الممكنة، رافضا الموروث باعتباره مصدرا للعلم الذي تحول إلى العقل والطبيعة. العقل والوحي شيء واحد، والطبيعة والدين شيء واحد (وحي العقل، دين الطبيعة).
2
نشطت المذاهب في القرن السابع عشر في محاولة لإيجاد نسق كلي شامل يقوم بدور الموروث القديم في تفسير العالم وإيجاد علاقة بين الله والطبيعة والإنسان. فنشأت العقلانية، ومنها المثالية النقدية، تعطي الأولوية للعقل وحقه في فهم الطبيعة. كما نشأت الحسية ومنها الوضعية؛ لتعطي الأولوية للحس وحقه في رؤية الطبيعة. وظل المذهبان يتصارعان مرة، ويتركبان في مذهب ثالث مرة أخرى؛ إما على نحو آلي خارجي ثابت (كانط) أو على نحو حيوي داخلي متحرك (هيجل). ثم أتت المذاهب الإنسانية الحيوية والإرادية والوجودية لتعطي الأولوية للإنسان على العقل والطبيعة، ولتحول العلوم الرياضية والطبيعية على السواء إلى علوم إنسانية، ففي سقراط الجديد يجتمع أفلاطون وأرسطو. وقد حكم تطور المذاهب قانون الفعل ورد الفعل، أو جدل الموضوع ونقيضه ومركبه، ثم طبع هذا الجدل الوعي الأوروبي في بنيته بقسمة ثلاثية ظاهرة؛ صورية، أو مادية، أو حيوية، وعادة ما يتم الخلط بين هذه المستويات دون تمييز بينها.
Неизвестная страница
للوعي الأوروبي إذن تطور وبناء. له بداية وتطور ونهاية، له ظروف تاريخية واجتماعية خاصة ممثلة في الرومانية القديمة، ومعطى ديني خاص هو المسيحية، ونظام ديني خاص هو الكنيسة، وبناء ذهني خاص يقوم على التقسيم، وأحادية الطرف والتعارض بين عوامل الظاهرة الواحدة. وإن الحديث عن عقليات بدائية، أفريقية أو آسيوية، هو في حقيقة الأمر إسقاط من العقلية الأوروبية على غيرها. فأين نحن من هذا كله؟ ديكارت محاولة لإثبات عقائد الدين بحجج العقل والبرهنة على صدق الايمان، وهو تقليد شائع في حضارتنا القديمة كلها عند المتكلمين والفلاسفة. والفلسفة النقدية كأول محاولة للتعرف على إمكانية المعرفة في مقابل الدجماطيقية. والشكية هو ما كان يفعله الفقهاء، من نقد نظريات الحكماء ولاأدرية الشكاك والمذاهب الحسية التي كانت تدافع عن المعارف الحسية، والمشاهدة والتجربة. دعامة العلم الجديد هو ما كان يفعله المتكلمون والأصوليون من اعتبار شهادة الحس ومجرى العادات مصدرا للعلم. والفلسفات الإنسانية والحيوية هي أشبه بمحاولات الصوفية عندنا من تركيز على التجارب البشرية والوجود الإنساني والانفعالات النفسية مثل المقامات والأحوال، وما الفرق بين كيركجارد الصوفي والوجودي؟ لا يعني ذلك أننا أسبق من غيرنا في شيء، أو أن لدينا ما لدى غيرنا، فنثق بالنفس، ونفخر بالأجداد، بل يعني أن المذاهب الفلسفية لا تزرع خارج بيئاتها الأولى، فإذا ما تشابهت المذاهب واختلفت البيئات فذلك لأن الأبنية الذهنية والنفسية والمواقف الحضارية والمراحل التاريخية قد تكون أيضا واحدة. وما دام المذهب الفلسفي قد اجتث من جذوره فلا يمكن فهمه أو الحكم عليه أو التعرف على نشأته. ومن ثم لا يتعلم الطالب أو يفهم شيئا باستثناء مجموعة من المعلومات المتراصة المتراكمة، يحفظها للامتحان وينساها بعده، لا تؤثر فيه ولا يؤثر هو فيها، فقد تم الفصل بين المذهب والموقف، بين العلم والنشأة، بين الفكرة والتكوين؛ ومن ثم لم ينشأ عندنا فكر تكويني يدل على موقف، بل أصبحت ثقافتنا أكواما متراصة من المعلومات، سرعان ما تتساقط جميعا في أول مواجهة لموقف ثقافي أو موضوع علمي. (3)
وقد تعثرت الفلسفة لدينا لأن البعد الثالث في موقفنا الحضاري، وهو الموقف من الواقع، أزيح جانبا وأسقط من الحساب. فتحولت الفلسفة لدينا إلى نقل؛ نقل عن القدماء، أو نقل عن المحدثين، وغاب التنظير المباشر للواقع. أصبحت الثقافة في جانب، والواقع في جانب آخر، ثقافة غريبة، وواقع غير مفهوم، مجرد وعي صوري بلا مادة. وقد يكون السبب في هذا الموقف هو وجود الغطاء النظري التقليدي للواقع، وهو الغطاء الذي يفسر كل شيء، وبالتالي لم تنشأ الحاجة إلى التساؤل عنه أو البحث عن نظرية له. هناك نوع من الوئام بين الأنا والنحن، وبين النحن والعالم بلا قطيعة أو شرخ، باستثناء الفقر كأزمة وضنك. وهما مفهومان في إطار التصور النظري القديم، ومقبولان في إطار الإيمان الشائع والعقائد الموروثة، أو في إطار عدم الالتزام بقضايا الواقع نظرا للتعايش أو القهر السياسي أو لعدم الوعي به والارتباط بقضايا العصر؛ فالفكر ليس بضاعة، والمفكر ليس موظفا. الفكر رسالة، والمفكر صاحب قضية.
3
وكادت صورة الأستاذ الذي يعيش من الفكر أن تصير صورة نمطية من خلال الإعارات أو الوظائف أو الكتب المقررة، وكادت تختفي صورة الأستاذ المفكر الذي يعيش بالفكر، صاحب القضية، والقادر على اتخاذ الموقف. إن عدم التعود على المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار أو نشأتها وتكوينها من الوضع الاجتماعي قد يجعل الباحثين يستسهلون عرض الأفكار، أو التحدث عن الظروف والبيئات في الفصول الأولى، وعن الأفكار والنظريات في الفصول التالية، دون أن يكون هناك رابط بين هذه وتلك. وربما يكون السبب نقصا في التكوين الذهني بالرغم من وجود كم من المعلومات ونقص في الممارسة؛ فالذهن لم يمارس العلم، ولم يتعود على المنهج، ولم يعرف كيف نشأ، فاقتطف الثمرة دون الجذور، وحصل على النتيجة دون المقدمة. وقد يكون غياب معاهد البحث العلمي والعمل الجماعي في إطار مشروع قومي لدراسة الثقافة والفكر والعلم والفلسفة؛ أحد العوامل في إسقاط الواقع من الحساب بعد أن اقتصرت مهام الأساتذة على تخريج مدرسين أو موظفين أو رجال إعلام. كما تحولت الرسائل العلمية الجامعية إلى دراسات للماضي - لشخصية أو مذهب أو عصر - يقل فيها عنصر الإبداع، أي بناء المشكلة الفلسفية ابتداء من الواقع، فلم يعد الطالب يبدع نصا فلسفيا، بل صار مجرد شارح للنصوص. هذا بالإضافة إلى الجو العام لإجهاض العقول، والخطط العامة المعدة لذلك سواء من الداخل أو من الخارج. فليس في صالح الأنظمة القائمة أو المصالح الكبرى أن يبدع العقل الذي هو بطبيعته تمسك بالحريات ودفاع عن المصالح العامة. وقد يتحول الإجهاض إلى إعدام إذا ما حاول أحد الأساتذة أو الطلاب الخروج على المألوف والتمسك بحقه الطبيعي في البحث الحر. فإذا لم يقبل شيئا على أنه حق إن لم يكن مؤيدا بالدليل اتهم بالإلحاد أو الشيوعية، ويصبح شريدا متهما مطاردا لا وطن له ، فلا يبقى له إلا الهجرة إلى الخارج ليتحول إلى مهني صرف، يضع همه في العلم والإبداع العلمي، أو ليواصل المعارضة في الخارج والدفاع عن حقوق الأوطان والشعوب، أو الهجرة إلى الداخل هما وكمدا حتى يصاب بالجنون، أو يعمل عن وعي تاريخي طويل، من خلال الحركات السرية التي سرعان ما يتم انكشافها فيصبح نزيل سجون. إن عدم الالتزام بالواقع له أسباب كثيرة، منها ما يكمن في التراث - أولوية النص - ومنها ما يكمن في النقل عن الغرب - اجتثاث المعرفة عن بيئتها - ومنها ما يكمن في ظرف العصر، وضرورة العيش في ظروف القهر.
إن حل أزمة الموقف الحضاري إنما يكون بإعادة النظر في هذه الأبعاد الثلاثة وأحكامها، وإعادة الاتزان إلى الوعي الحضاري القومي، وفرض الواقع نفسه، أي البعد الثالث، على البعدين الحضاريين الأولين. فالواقع يفرض - وبعد مائتي عام من نهضة حديثة سرعان ما كبت - أن يكون موقفنا من التراث القديم لا موقف المهاجم أو المدافع، بل موقف الناقد والمطور؛ النقد عن طريق وصف نشأة التراث في الظروف القديمة، والتطور طبقا لحاجات العصر والظروف الجديدة. والموقف من التراث الغربي ليس أيضا موقف المدافع أو المهاجم، بل موقف الناقد والراد لهذا التراث إلى حدوده الطبيعية: النقد؛ بوصف نشأته المحلية والقضاء على أسطورة عالميته، والرد؛ لتحجيم هذا التراث لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب. والموقف من الواقع ليس بالعزلة عنه أو بالتمرد عليه؛ فالعزلة إلى الداخل تتبدى في النفس إحباطا وفي الخلية السرية نشاطا، والعزلة إلى الخارج هجرة مهنية أو معارضة سياسية في العواصم الأوروبية أو تمردا عن طريق الانقلابات العسكرية، أو غضب الجماعات الدينية، أو تشكيل أحزاب تقدمية علمانية لأخذ السلطة. الموقف من الواقع هو فهمه أولا، ومعرفة متطلباته، وسبر مكوناته (الثقافة الوطنية، الجماهير الشعبية) حتى يمكن الالتحام به وتفجير طاقاته القادرة على الوقوف أمام الأبنية الاجتماعية والنظم السياسية التي تقوم على التصورات السلطوية الموروثة. حل أزمة الموقف الحضاري إذن في نقل الموقف من مستواه الخطابي إلى مستواه العلمي، وتحويل المواقف الإيمانية بالقديم أو الانبهارية بالغرب أو الخيالية بالنسبة إلى الواقع، إلى مواقف علمية حضارية تاريخية محكمة؛ حتى ينشأ الفكر في مواقف اجتماعية وحضارية وتاريخية محددة، تكون بالتالي أرضا للفلسفة وتربة للفيلسوف.
رابعا: الموقف من التراث القديم
التراث القديم كله استجابات ذهنية لأجيال سابقة إزاء أحداث عصر مضى، ويكشف عن صراع القوى. ولما كان الصراع يحسم لفريق دون فريق، فقد ساد تراث القوة الغالبة على تراث القوة المغلوبة. وتم تدوين كل شيء في التاريخ والأصول والعقائد، أي في «أيديولوجيات» الشعوب من وجهة نظر الغالب، وحيكت مؤامرات الصمت والتشويه حول تراث المعارضة، فتحول هذا التراث إلى تراث سري كما هو الحال عند الشيعة، أو تراث علني لفته مؤامرات الصمت حتى تهدد بالاندثار مثل تراث الخوارج (المعارضة العلنية من الخارج) وتراث المعتزلة (المعارضة العلنية من الداخل).
لذلك كانت الحلول التي اختارها تراث القدماء، وبقيت محفوظة ومدونة في الكتب القديمة هي حلول ومواقف السلطة من حلول المعارضة. وما نقرؤه في التراث، في حقيقة الأمر، هو نتيجة معركة تم حسمها لصالح الغالب ضد المغلوب.
فلو أخذنا مثلا علم العقائد، لوجدنا أن عقائد الفرقة الناجية قد انتصرت، وهي عقائد السلطة، على عقائد الفرق الهالكة وهي فرق المعارضة كما يعبر عن ذلك حديث الفرقة الناجية.
1
Неизвестная страница
فالله الواحد الذي ليس كمثله شيء والذي لا يرى ويرى كل شيء، ليس هو بالضرورة التصور الوحيد لله كما نعلم من تاريخ العقائد؛ هناك الله الحسي المجسم، محل الحوادث، عند الكرامية والمشبهة على اختلاف فرقهم. وليس بالضرورة أن يكون التصور الأول صحيحا والثاني باطلا؛ إذ يعكس التصوران صراع قوى؛ قوة السلطان الذي ليس كمثله شيء، وقوة المعارضة التي تجعل حركة التاريخ جزءا من الألوهية. أما الصفات التي تجعل الله يسمع ويرى ويبصر كل شيء فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسي خالص للسلطة التي هي بدورها ترى وتسمع وتبصر كل شيء. والقول بأن العقل الذي لا يستقل بنفسه في المعرفة بها يحتاج إلى النقل، إنما هو دعوى طرحت حتى يمكن عبرها تأويل النقل لصالح السلطة القائمة دون مقياس عقلي واحد شامل ومطرد. وتصوير الإنسان ككائن ليست لديه القدرة على الفعل، وتعليق مصيره بإرادة أخرى إنما هو من أجل نفي قدرته واستقلاله، وجعله باستمرار تابعا لغيره معتمدا عليه. وجعل النبي هو الوصي على العقل ليحال دون استقلال الشعور عقلا وإرادة، والقول بأن النبوة تثبت بالمعجزات، هو من أجل عدم الالتفات إلى بنية الوحي الداخلية كنظام للعلم، أو رؤية مبادئه الاجتماعية والسياسية التي تقوم على رعاية الصالح العام. كما أن القول بأن المعاد خارج العالم هو من أجل أن يؤسس الإنسان ملكوته خارج العالم، ويعد له بعد الموت. أما داخل العالم وقبل الموت فهو حق السلطة القائمة لا ينازعها فيه أحد. والقول بأن الفعل ليس شرطا للإيمان إذ يكفي القول بل والتمتمة بالشفتين، إنما طرح حتى لا يكون الفعل موجها ضد السلطة القائمة فتصفي المعارضة، وحتى لا يحاسب الحكام على أعمالهم ما داموا يتشهدون. والإمامة التي وإن كانت بالاختيار إلا أنها تظل محصورة في قريش إنما هي كذلك حتى يقتصر الحكم والسلطة على فئة معينة من الأشراف أو من الضباط، من الملوك أو الأمراء. علم العقائد إذن اختيارات سياسية محضة وليس علما مقدسا. وكل ظروف تفرض اختياراتها. وقد تتم تحت ظروفنا الحالية اختيارات أخرى. قد يكون من صالح الأمة الآن الدفاع عن الله وتصوره باعتباره أرضا درءا للاحتلال وتحريرا للأرض، بل وتأصيلا للوحي في «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض [الإسراء: 102]،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84]. كان الخطر قديما على التوحيد كتصور في عصر الفتوح، وأصبح الخطر الآن على الأرض في عصر الهزائم. دافع القدماء عن الواحد الحق ضد مخاطر الواحد الرياضي عند فيثاغورث، والواحد الميتافيزيقي عند بارمنيدس، والواحد الأنطولوجي الكوني عند أفلوطين، أما الآن فالواحد يتجلى في الدفاع عن وحدة الأمة ضد تجزئتها، ويتجلى في الوقت نفسه في إثبات التعددية ضد أحادية الطرف التي تعتمد على الواحد القديم دفاعا عن الحرية والديموقراطية وحق الاجتهاد. ربما يكون «الأصلح» الآن هو حرية الاختيار وخلق الأفعال عند المعتزلة وليس الكسب الأشعري، وإثبات استقلال العقل والإرادة، وليس تبعيتهما أو قصورهما. وربما يكون الأصلح اختيار الخوارج في أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان، وليس اختيار المرجئة أو اختيار الشيعة بل رأي أحمد بن حابط في أن النعيم والعذاب في هذه الدنيا وليس خارجها. أيهما أفضل؛ الصلاح والأصلح والغائية في الأفعال أم اللامعقول والعشوائية؟ ربما يكون اختيار المعتزلة والخوارج رفض القرشية أصلح لنا من اختيار الأشاعرة حتى لا تحتكر السلطة فئة معينة. إذا كان القدماء قد استعملوا حديث الفرقة الناجية ضد الخصوم السياسيين؛ فإن جيلنا ينقده - كما فعل ابن حزم من قبل - من أجل الانتقال من الفرقة المذهبية إلى الوحدة الوطنية، وللحفاظ على حق كل فرقة في الاجتهاد، وأن للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين، وأن الصواب متعدد في النظر، واحد في العمل كما قرر الأصوليون، أو في لغة عصرنا: السماح باختلاف الأطر النظرية والاتفاق على حد أدنى من برنامج موحد للعمل الوطني.
وإذا كانت علوم الحكمة القديمة قد تسرب إليها الإشراق الصوفي بحيث تركزت نظرية المعرفة والسعادة فيها على الاتصال بالعقل الفعال والقرب منه والاتحاد به، صارت الطبيعيات مقدمة للإلهيات أو هي «إلهيات مقلوبة»، والمنطق صوري لا حياة فيه ولا جدل ولا صراع ولا واقع ولا بشر، والفضائل النظرية فيها أفضل من الفضائل العملية، فقد تكون مهمة الحكيم اليوم التخلص من الإشراقيات القديمة دفاعا عن العقل، مع النظر إلى الطبيعة نظرة علمية خالصة، مميزا بين الفكر العلمي وبين الفكر الديني، واختيار منطق حسي طبيعي تجريبي مادي كاختيار الأصوليين، وإعطاء الأولوية للقيم العملية على القيم النظرية، وللشعوب والمؤسسات على خصال الرئيس وصفات الإمام.
لقد نشأت علوم التصوف عند القدماء كرد فعل على حياة البذخ والترف وتكالب الناس على الدنيا، وحرصهم على الثروة والجاه، وبعد اليأس من تغيير العالم عقب استشهاد الأئمة من آل البيت، وانتهاء المقاومة الخارجية. وهنا لم يتبق إلا النفس، فليعمل المرء على خلاص النفس إن صعب خلاص العالم، وعلى التغيير من الداخل إن استحال تغيير الخارج، وإنقاذ الفرد إن استعصى إنقاذ المجتمع، وإقامة ملكوت السموات خارج العالم إن استحالت إقامته في هذا العالم، وتصوره بالخيال إن استحال تحليل الواقع بالعقل. لقد تحول جدل الطبيعة والمجتمع والتاريخ إلى جدل عواطف وانفعالات كما هو واضح في حالات الصوفية؛ الصحو والسكر، والغيبة والحضور، الخوف والرجاء، الفقد والوجد. وظهرت القيم السلبية باعتبارها الطريق إلى الخلاص القريب كما هو واضح في مقامات الصوفية مثل الصبر، والورع، والرضا، والتوكل، والشكر، والقناعة والزهد.
والآن تغيرت الظروف، فلم يعد الأمر ميئوسا منه، ولم تنته المقاومة الفعلية من الداخل أو من الخارج، ولم يستشهد منا آلاف الأئمة دفاعا عن الشرعية. هناك إمكانية لتغيير العالم وإقامة ملكوت الله على الأرض، وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم. الجماهير حاضرة، والطلائع الجديدة متشوقة، والغضب والمداراة والحسرة، والإحساس بالظلم والهوان يعم الجميع.
وإذا كان علم أصول الفقه القديم هو الوحيد الذي استطاع أن يحكم استعمال العقل وأن يضع منطق اللغة وأن يقنن السلوك العملي وأن يلتزم بقضايا الناس والمصالح العامة، فإنه اليوم أقل العلوم تأثيرا في حياتنا، ولا يدرس في جامعاتنا باستثناء كليات الحقوق كفرع للشريعة بالرغم من تنبيه رواد الفلسفة الأول عليه.
2
ومع ذلك فقد أعطى القدماء الأولوية للنص على الواقع كما هو الحال في ترتيب الأدلة الشرعية الأربعة دفاعا عن النص الجديد في مجتمع قديم. وقد تكون مهمتنا اليوم إعطاء الأولوية للواقع على النص دفاعا عن الواقع في عصر لا يعتمد إلا على علوم الواقع ويعاني من النص.
3
Неизвестная страница
فإعطاء الأولوية للاجتهاد ولإجماع الأمة على المصدرين النصيين يعطي العلماء والباحثين جرأة على الواقع وقدرة على التشريع؛ رعاية لمصالح الناس مطورين لمفهوم «المقاصد» عند الشاطبي ومعتمدين عليه.
وقد تركت العلوم النقلية لمعاهدنا الدينية تدرسها كما تركها القدماء دون أن تساهم كليات الآداب والعلوم الإنسانية في تطويرها وتحويلها إلى علوم نقلية عقلية مثل العلوم الأربعة الأولى، أو تحويل الجميع إلى علوم عقلية خالصة مثل العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية. وتركت في أقسام اللغة العربية وآدابها وفي أقسام الدراسات الإسلامية كما هي، دون تحوير أو تبديل، تدعمها أنظمة الحكم، وتعممها القوى المحافظة على كل الأقسام - بما في ذلك أقسام اللغات الأجنبية - حماية للطالب من المذاهب الهدامة ومن الإيغال في الفكر، كما كانت الأنظمة الثورية تفرض الاشتراكية العربية والمقررات القومية من قبل. ومع أن هذه العلوم نشأت لغايات معينة حفاظا على نصوص الوحي بعد التدوين ونجحت في ذلك عن طريق النقد الخارجي للروايات، فإنها بالنسبة لجيلنا علوم في حاجة إلى تطوير عن طريق النقد الداخلي للمتون؛ إما بتحليل الأشكال الأدبية أو بتحليل المضمون.
4
وبالتالي يمكن تحديد غايات جديدة لها لتطويرها.
فعلوم القرآن قد وضعت موضوعات السور المكية والمدنية، أسباب النزول، الناسخ والمنسوخ ... إلى آخر ما هو معروف من أبواب علوم القرآن في «الإتقان» للسيوطي مثلا، ولكن هناك بعض المسائل التي فقدت دلالتها؛ مثل: هل البسملة جزء من السورة أم لا؟ هل الفاتحة أم الكتاب أم لا؟ هل
قل
جزء من الآية أم لا؟ وهي كلها مسائل مرتبطة بعصر التدوين قبل التقنين. وقد تم تقنين القرآن الآن قراءة وحفظا وكتابة وتلاوة. هذه إذن موضوعات أدت دورها وانتهت كمادة للعلم، ولن يكتشف الآن أحد قراءة جديدة منسية، أو آية أو سورة جديدة سقطت سهوا. وهناك مسائل أخرى كانت لها غاية في عصرها عند إثارتها مثل معرفة المكي والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وأصبح لها الآن بالنسبة لنا دلالات مغايرة وربما أعمق وأدل. فإذا كانت الغاية من التمييز بين المكي والمدني ترتيب السور فإن المكي بالنسبة لنا يحتوي على تصور للعالم، بينما يحتوي المدني على النظام، والتصور سابق على النظام، والنظام تال للتصور. وإذا كانت أسباب النزول عند القدماء تعني معرفة الأصل حتى يتم عليه قياس الفرع، فإنها تعني عندنا أولوية الواقع على الفكر.
5
وإذا كانت معرفة الناسخ والمنسوخ عند القدماء تهدف إلى معرفة الأحكام، فإنها تعني بالنسبة لنا التطور في الزمان، وإعادة صياغة أحكام الأفعال طبقا لقدرات الإنسان وطاقاته.
أما علوم التفسير فقد خضعت في حقيقة الأمر لباقي العلوم الأخرى؛ علوم اللغة أو التاريخ أو الحكمة أو الكلام أو التصوف أو الفقه. فخرجت تفسيرات لغوية وتاريخية وفلسفية وكلامية وفقهية. ولم يظهر التفسير الاجتماعي إلا مؤخرا في حركات الإصلاح. كما لم يظهر التفسير النفسي-الاجتماعي أيضا إلا مؤخرا، عندما دعت الحاجة إلى إعادة الوحي إلى قلوب الناس وشعور الأمة.
Неизвестная страница
6
لقد جمعت كل هذه التفسيرات معلومات تاريخية صرفة، فحولت التفسير إلى تاريخ، أو جعلت المعلومات موجهة نحو علم معين من العلوم العقلية أو النقلية، وغلب عليها جميعا التفسير الطولي، سورة بسورة، وآية بآية، فتتقطع الموضوعات وتتبعثر، ولا يكون لها إطار نظري واحد. إن مهمتنا اليوم هي استئناف التفسير النفسي الاجتماعي؛ النفسي من أجل التأثير على الناس وإحياء العقيدة في القلوب، والاجتماعي من أجل وضع مصالح الأمة في قلب النص وقراءة احتياجاتها فيه، وقد كانت من قبل أساس الوحي على ما هو معروف من مقاصد الشريعة عند القدماء. بل إن علينا إضافة التفسير السياسي للمساهمة في حل إشكال العصر وتمزقه بين المحافظة الدينية وبين التقدمية العلمانية، وبعد أن برز «الإسلام السياسي» كبديل مطروح - نظري وعملي - بعد الصحوة الإسلامية الحالية التي فجرتها الثورة الإسلامية في إيران.
7
أما علوم الحديث فقد كان الهدف منها عند القدماء ضبط الرواية من خلال السند والعلوم المخصصة والموضوعة لذلك؛ مثل علم ميزان الرجال أو علم الجرح والتعديل. وكان هذا طبيعيا في عصر العلم فيه رواية ونقل، والضبط فيه من خلال شعور الرواة. ولكن مهمتنا اليوم إعادة ضبط الرواية من خلال المتن والأشكال الأدبية للنص ومقارنته بالأمثال العربية القديمة، ومعرفة مقدار ما فيه من خصوص بالنسبة إلى عموم القرآن، وتطبيق شروط التواتر الأربعة، وفي مقدمتها الإخبار عن حس حتى يمكن تخليصه مما علق به من آثار شعبية ما زالت تؤثر في خيال العامة.
أما علوم السيرة فقد نشأت بدافع جمع المعلومات التاريخية عن الشخصيات وأولها بطبيعة الحال شخصية الرسول؛ اعتمادا على بعض الأحاديث الضعيفة خاصة فيما يتعلق بالفترة السابقة على حياته وما بعد موته، وربما تحت تأثير أنماط دينية سابقة تتعلق بحياة الأنبياء قبل البعثة وفي مرحلة الطفولة وبعد البعث والصعود إلى السماء. لقد درجت علوم السيرة على أن تقرأ الحاضر في الماضي، وتخلع على النبي ضروب البطولة ونسج الخيال. وأصبحت المعجزة عملا رئيسيا بعد أن كانت جزءا من تاريخ النبوة وإحدى وسائل الإقناع السابقة. تحولت الرسالة إلى شخص، وتركزت النبوة في شخص النبي مع أنه مجرد وسيلة لتبليغ الوحي. وقد يكون هذا أحد أسباب التشخيص في حياتنا القومية وأحد أسباب عبادة الأشخاص. إن مهمة دارس السيرة اليوم وكاتبها هي العودة من الرسول إلى الرسالة، ومن النبي إلى النبوة، ومن الشخص إلى المبدأ، فليس النظام هو الزعيم ولا الدولة هي رئيسها.
8
وإذا كان علم الفقه القديم قد ركز على العبادات دون المعاملات في عصر كانت العبادات فيه هي الجديد والمعاملات هي القديم، كما ركز على المسائل الافتراضية النظرية، وليس على المسائل الواقعية العملية وذلك تركا منه للعالم إلى السلطان، وتركا للعلاقات الاجتماعية للنظام، وإشغالا منه للناس بما لا يفيد، وبمسائل لا ينتج عنها عمل؛ تفريغا للطاقة، وإبعادا للنشاط؛ فإن مهمة الفقيه اليوم إعادة الاختيار من أجل تأسيس فقه المعاملات كما تأسس فقه العبادات من قبل، ومن أجل إعطاء الأولوية للمسائل العملية الواقعية على المسائل الافتراضية النظرية، ومن أجل تأسيس فقه الطبيعة والوجود الإنساني كما أسس القدماء فقه الأحكام.
أما العلوم العقلية الخالصة؛ سواء العلوم الرياضية (الحساب، الهندسة، الجبر، الموسيقى، الفلك)، أو العلوم الطبيعية (الطبيعة، الكيمياء، النبات، الحيوان، الطب، الصيدلة)، أو العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ)؛ فإنها لم تترسب في وجداننا القومي ترسب العلوم العقلية النقلية الأربعة، أو العلوم النقلية الخمسة؛ لذلك توقفت العلوم الإنسانية وحلت محلها العلوم الشرعية، وتوقفت العلوم الرياضية والطبيعية، وحل محلها النقل من الغرب. لم نعد نساهم في تاريخ العلم، وتحول العلم عند القدماء إلى موضوع جامعي «تاريخ العلوم عند العرب» كنوع من الاعتزاز بالماضي؛ تعويضا عن مآسي العصر في النقل عن الآخرين ، واستهلاكنا للمعرفة دون إبداع لها، ونقلنا للتقنية دون اكتشاف لها. وكررنا صورتنا في كتب الاستشراق كحلقة اتصال بين علم اليونان وبين علم الغرب الحديث، وكنقلة لا نحسن فهم ما ننقل، بل نخلط ما ننقل ونزيد عليه من موضوعات الإيمان. قد تكون مهمتنا اليوم هي البحث عن الصلة بين التوحيد وبين حساب اللامتناهي أو الفن العربي، والصلة بين واقعية الإسلام ونظرته الحسية المادية، وبين نشأة علوم الطب والكيمياء والصيدلة والحيوان والنبات، والصلة بين الإنسان سيدا للكون سخرت قوانين الطبيعة لصالحه وبين التقنيات الإسلامية واختراع الآلات.
وبالإضافة إلى هذا الوصف التفصيلي للعلوم ودورنا في إعادة بنائها وتطويرها من واقع المسئولية، فإن القدماء «هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم».
9
Неизвестная страница
رسالتنا هي التبليغ والتعبير وإيصال الحقيقة للناس، وتقديم التراث لهم يقرءون فيه حياتهم، ويجدون فيه هويتهم؛ لذلك يجد الباحث نفسه اليوم في مواجهة قضية اللغة والمصطلحات، ومستويات التحليل، والمحاور والبؤر الحضارية وإعادة الاختيار بين البدائل القديمة.
إن التحدي الذي يواجه الباحث اليوم هو القدرة على تجاوز اللغة القديمة ومحاولة إعادة بنائها، والتخلي عن أشكالها القديمة ووضع معانيها في ألفاظ جديدة أكثر إغراء للناس، وأكثر قبولا لدى الشباب والطلاب؛ فغالبا ما تستهوي المفكرين اليوم ألفاظ الحرية والعدالة، والمساواة والتقدم، والشعب والمجتمع والتاريخ، ولا تستهويهم الألفاظ القانونية القديمة التي توحي بالغرض؛ مثل الواجب، والحلال، والحرام، أو ألفاظ العبادات؛ مثل الصلاة، والصيام. وما أسهل التعبير عن المضمون القديم بلفظ جديد! فالصلاة تكشف عن الفعل في الزمان، عن الفتور والتراخي، وعن الحال والقضاء، والزكاة مشاركة في الأموال، والصيام إحساس بالآخر. الواجب هو الفعل الملتزم، والحرام هو الفعل الذي ينتج عنه ضرر وسلب، وعدم وفناء، والمندوب هو الفعل التطوعي، والمكروه هو الإرادي، والمباح هو الطبيعي. ليس الأمر مجرد تغيير لفظ بلفظ، بل تجديد الفكر وتطوير الحضارة، وهو ما مارسه القدماء من قبل خاصة الحكماء حين تمثلوا الغرباء، وأحالوا الثقافات القديمة روافد أصلية لحضارتهم. إن اللغة الجديدة وحدها هي القادرة على مخاطبة الناس وعقد حوار بينهم؛ فهي لغة التفاهم والخطاب المشترك.
إن مهمة الباحث حاليا هي إعادة النظر أيضا في مستويات التحليل. هل يريد الإبقاء على المستويات القانونية والإلهية والطبيعية، أو يريد تغيير هذه المستويات التي لم تعد قائمة في شعور الجماعة ليقوم بالتحليل على مستويات أخرى؛ مثل المستوى النفسي والاجتماعي. هذا إذا أردنا اكتشاف التراث كمخزون نفسي لدى الجماهير على المستويين؛ المستوى الحضاري والتاريخي، وإذا أردنا أن نعرف مع أي نمط حضاري نحن نتعامل، وفي أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؛ فبهذا يتم وضع التراث القديم في منظور تاريخي داخل الوعي الحضاري كمرحلة إبداع أولي (القرون السبعة الأولى)، تلتها مرحلة تدوين ثانية (القرون السبعة التالية)، وبالتالي فإننا على مشارف دورة ثالثة تتمثل في إعادة بناء القديم بضرب من التأويل والقراءة؛ من أجل إبداع جديد.
إن مهمة الباحث أيضا هي إعادة النظر في المحاور والبؤر الحضارية القديمة. كان الله محورا أساسيا عند القدماء، وكان الوحي بؤرة الحضارة، منه تخرج العلوم في دوائر متداخلة حوله. وكان ذلك طبيعيا وسط الحضارات والديانات القديمة التي كادت تفقد «التعالي» و«الوحي». ولكن هذا المحور وهذه البؤرة قد تم اكتسابهما الآن، بل أصبح حضورهما على حساب محاور وبؤر أخرى. ضاع الإنسان أمام حضور الله، وضاع التاريخ أمام حضور الوحي. قد تكون مهمة الباحث اليوم هي إعادة ترتيب المحاور والبؤر، واكتشاف الإنسان والتاريخ؛ إذ يضرب بنا المثل للمجتمعات اللاإنسانية التي لا تعرف الزمان. وترسل إلينا لجان الأمم المتحدة لدراسة أوضاعنا بالنسبة إلى حقوق الإنسان. كما أننا خارج التاريخ، ولا نعلم في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش، وليس لدينا تراكم تاريخي. يبدأ كل جيل وينتهي، ثم يبدأ الجيل الثاني كما بدأ الأول من الصفر. ولا يكاد يمر جيلان أو ثلاثة حتى يبدأ القرص في السقوط؛ نهبط بمجرد أن نعلو، لقد عمرت نهضتنا الأخيرة أربعة أجيال فحسب قبل أن نشاهد تعثر النهضة وكبوة الإصلاح.
10
ومهمة الباحث أيضا هي إعادة الاختيار بين البدائل. فقد تم اختيار البدائل القديمة لحسم الصراع لصالح السلطة. يستطيع الباحث اليوم أن يعيد الاختيار بينها لصالح الجماهير، فكلها على مستوى واحد من الاجتهاد والنظر، دون تكفير لأحدها وتصويب للآخر. وربما يمكنه أن يجد بدائل جديدة تماما لم يطرحها القدماء بدافع المسئولية التاريخية، وبروح الدقة العلمية، مع مزيد من الثقة بالنفس والوعي بالواقع والجرأة في التشريع.
11
بهذا الموقف من التراث القديم يمكن تحقيق عدة منافع؛ منها: (1)
وضع الأستاذ والطالب وسط أحداث العصر، فيتحول الفكر بالتالي إلى واقع، والتراث إلى حياة، والفلسفة إلى رسالة، والعلم إلى قضية، وتمحي الثنائية في الشخصية بين الباحث والمواطن، فلا يجد الطالب نفسه مضطرا إلى الاختيار بين أن يسمع أستاذا مكتسبا بالعلم يبيع الكتاب المقرر ويفرضه، فيقبل الطالب هذا الأمر من أجل لقمة العيش المتمثلة في حصوله على الشهادة، وبين قلبه وحسه وعقله المحاصر والمهموم بقضايا الوطن؛ سواء في الجماعة الدينية أو في الحزب السري، أو في الغضب والتمرد، فينتهي بهجرة إلى الخارج أو هجرة إلى الداخل، أو إجهاض نهائي يؤدي إلى الانهيار النفسي والانتحار الفعلي، كما هو الحال عند بعض المفكرين والأدباء. (2)
نزع سلاح التراث من أيدي الخصوم في الداخل وفي الخارج، ومن ثم القضاء على أهم معوقات التقدم، وذلك ببيان نشأة تراث السلطة، وإجهاض تراث المعارضة؛ أعني مؤامرة التشويه لتراث المعارضة والصمت عنه، فتدخل معارك التراث بالتالي المعارك من قميص الأشعري: الواحد الذي يسمع ويرى ويبصر ويفعل كل شيء، ومن جبة الغزالي: الواحد الذي منه يفيض كل شيء، ومن جلباب ابن سينا: الواحد الذي إليه يرجع كل شيء، ومتاهات أجهزة الإعلام ودورها في تزييف الوعي القومي كما هو الحال في متاهات الفقه الافتراضي، وتأويل النصوص. فما معارك التأويل في حقيقة الأمر إلا صراع اجتماعي مقنع بثقافة الجماهير، وبثقل التراث في وجدان العصر. (3)
Неизвестная страница