وما كادت العين أن تقع على العين حتى أحب جويرا بياتريس ومال قلب بياتريس إليه، وكان مباحا لرجال الدين الزواج في ذلك الزمن؛ حيث لم يكن أن انعقد مجمع ترنته الذي كتب عليهم الرهبنة، فاتفق جويرا مع آل سنسي أن يخطب بياتريس من أبيها عند عودته، وعلى هذا انصرف، ولبثت المرأتان تؤملان انصلاح الحال.
وغاب فرنشسكو نحو أربعة شهور لا يعلم أهله فيها بما تم له ثم عاد، فأراد من أول ليلة أن يختلي بابنته، فوجدها على غير ما تركها عليه؛ إذ رأى منها فتاة عرفت مقام العرض فهي تصونه، وقدرت قدر الشرف فهي لا تهينه، فرجا أبوها ووعد، وهدد وأوعد، وأرغى وأزبد، وهي لا تزال بعرضها عليه ضنينة، فسامها من العذاب ألوانا، وضربها الضرب المبرح، فلم تزد إلا إباء، فلما عجزت منها حيلته اتهم زوجته بإغرائها الفتاة، فأنزل عليها صواعق غضبه وضربها بعصاه ضربة وحشية تألمت لها المسكينة ولم تتأوه، بل أسرتها في قلبها لساعة الانتقام.
وبعد بضعة أيام تمثل جويرا لدى فرنشسكو خاطبا بياتريس، ومؤملا نجاح غرضه لدى أبيها؛ لما توفرت فيه من شروط الغنى والجاه والجمال والنسب، لكن رده الفاسق بالخيبة شر ردة فلم ييأس الراهب، وأعاد الطلب ثانية وثالثة مظهرا لفرنشسكو فوائد هذا القران ومزاياه، فلم يفلح في مسعاه، ومل الأب من إلحاح ذلك الخاطب المغرم، فانتهى بأن قال له: إن لديه سببا لا يسمح له بتزويج ابنته له ولا غيره، فسأله الراهب عن ذلك السبب فأجابه: «لأنها محظيتي.» فبهت الرجل لهذا القول، ولم يسعه تصديقه، لولا أن رأى مخاطبه يبتسم تبسمة لا تترك للريب مكانا، فاستعاذ بالله.
ولبث جويرا ثلاثة أيام لا يستطيع الوصول إلى بياتريس، ثم تمكن من الدخول إليها وهو يرجو أن تكذب بأقوالها ما يظنه افتراء من أبيها، لكنها اعترفت له بكل شيء، فرأى عظم الهاوية التي أصبحت تفصل بينهما، فكاد يقضى عليه من اليأس، وافترق العاشقان تسيل على خدهما الدموع، ولا يستطيع أحدهما أن يصرف قلبه عن حب أخيه.
ولبثت بياتريس وزوجة أبيها إلى هذا الحين لا يخطر ببالهما خاطر جنائي، وما كان ليخطر لولا أن دخل فرنشسكو ذات ليلة على ابنته، فنال منها بالإكراه ما لم ينله بالوعيد، فسجل هذا العمل عليه شقاءه، وعجل ساعة الانتقام منه.
وكانت بياتريس كما أسلفنا ذات عزيمة ماضية، ونفس قادرة على أن ترفعها إلى ملكوت السموات فتصير من الملائكة، أو تحط بها إلى الحضيض، فتكون من الأبالسة، فذهبت وأعلمت امرأة أبيها بما حدث لها، فذكرت لوكريزيا سوء معاملة زوجها لها، ورأت ساعة الانتقام قد حانت، فحرضت إحداهما الأخرى وتآمرا على فرنشسكو.
ودعت المرأتان جويرا لمشاركته في الرأي، فوجدتاه مملوءا بالغيظ مستعدا للانتقام، فتعهد بإبلاغ جاك سنسي ما أقروا عليه؛ لأن جاك كبير العائلة بعد أبيه، فاستصوب جاك فعلهم وانضم إليهم. وكان جاك حانقا على أبيه؛ لأن أباه قطع عنه المال لما تزوج، فتركه وزوجته وأولاده يعانون ألم الجوع والفاقة، واختار المتآمرون دار جويرا لتدبير المكيدة، وانتخب جاك لتنفيذها رجلا يدعى مارزيو، وجويرا آخر يدعى أولمبيو.
وكان مارزيو من أتباع جاك، وقد يسرت له خدمته عنده رؤية بياتريس مرارا، فأحبها الرجل حبا لا أمل وراءه، حبا يذهب بالمهج ولا تجسر الشفتان على النطق به، فلما علم الرجل أن الجريمة التي سيرتكبها تقربه من بياتريس وترضيها قبل بها منشرحا عن طيب خاطر.
أما أولمبيو فكان من أعداء فرنشسكو؛ لأن فرنشسكو سعى في طرده من خدمة الأمير كولونا، وتفصيل ذلك: أنه كان لكولونا قصر حربي في مملكة نابولي يقال لها: قصر روكابتريلا، فكان يذهب إليه فرنشسكو وآله لتغيير الهواء، فكان يكرمهم كولونا فيه كل الإكرام؛ لكثرة احتياجه للمال واقتراضه إياه من فرنشسكو وقت الحاجة، وغضب فرنشسكو يوما من أولمبيو - وكان حارس القصر - فسعى لدى كولونا في طرده، فأسرها أولمبيو في نفسه.
واتفق المؤتمرون على تدبير المكيدة الآتية لفرنشسكو، وكان قد اقترب اليوم الذي يذهب فيه فرنشسكو كعادته إلى قصر روكابتريلا، فقرروا أن يجتمع اثنا عشر شقيا من أشقياء نابولي تعهد بجمعهم أولمبيو، فيختفون في غابة على الطريق، حتى إذا علموا بالساعة التي يمر فيها عليهم فرنشسكو ينقضون عليه ويأسرونه هو وآله، ثم يساومونه على نفسه بمبلغ من المال، فيرسل بعض أولاده إلى روما لاستحضار الفدية، فيغيب الرسول، حتى إذا انقضى الأجل المحدود لعودته يقتلون فرنشسكو، وبذلك لا تقع الريبة على المؤتمرين، ولا توجه إليهم التهمة.
Неизвестная страница