الضحية الأولى
الضحية الثانية
الضحية الأولى
الضحية الثانية
ضحايا العفاف
ضحايا العفاف
تأليف
ألكسندر ديماس
ترجمة
صالح جودت
Неизвестная страница
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . (آية 90 سورة النحل، قرآن شريف)
الضحية الأولى
المركيزة ده جنج
تكهن ساحرة
في ليلة من ليالي شهر ديسمبر عام 1657، رست عربة خالية من الزخرف الذي امتازت به عربات الأشراف في ذلك العصر أمام منزل من منازل شارع هوتفوي بباريس، وكان أمام ذلك الباب عربتان أخريان راسيتين، فترجل - حال وصول العربة القادمة - خادمها، واقترب من باب العربة ليفتحه لراكبيها، ولكن أوقفه رخيم صادر من داخل العربة يقول: انتظر لأرى هل هذا هو البيت المقصود!
ثم أطلت من نافذة العربة سيدة مقنعة ومرتدية برداء من القطيفة السوداء قد سترها حتى رأسها، فرفعت عينيها تنظر إلى المنزل الذي وقفت أمامه العربة كأنها تبحث عن علامة عليه، ثم ما لبث أن التفتت لرفيقتها التي كانت معها في العربة، وقالت لها: قد وجدنا ما ننشده، فهذا هو المنزل، وتلك هي اللوحة.
وعلى ذلك أمرت ففتح باب العربة، وترجلت السيدتان، فسارتا قليلا ثم رفعتا عينيهما إلى حائط المنزل، فرأتا اللوحة المنشودة، وهي معلقة على ارتفاع ستة أو ثمانية أقدام من الطريق تحت نوافذ الطبقة الثانية من المنزل، ومكتوب عليها الكلمات الآتية:
مدام فوازين، قابلة.
وولجت السيدتان باب المنزل، إذ وجدتاه مفتوحا نصف فتحة، فإذا هما في دهليز طويل يكاد يكون مظلما لولا ضوء قنديل ينير لسالكه السبيل، فسارتا في الدهليز حتى بلغتا درج المنزل فرقيتاه، وكانت إحداهما تتقدم الأخرى. ولم تقصد الزائرتان الطبقة الثانية التي علقت على نوافذها اللوحة، بل صعدتا إلى الطبقة التي فوقها.
Неизвестная страница
ولما بلغتاها استوقفهما رجل من الأقزام أحدب غريب الزى قد كسي كسوة السخريين من أهل البندقية في القرن السادس عشر. وسألهما الأحدب عما تريدان، فقالت إحداهما، وهي ذات الصوت الرخيم: نريد أن نستشير الروح.
وكان في صوت المتكلمة بعض الاضطرابات، فقال لها الحارس ولصاحبتها: ادخلا وانتظرا.
ثم رفع بيده ستارا، وأدخل السيدتين في غرفة انتظار.
ولبثت السيدتان تنتظران، ومضت عليهما نصف ساعة لم تنظرا أو تسمعا فيها شيئا، وبينما هما على تلك الحال إذ أزيح ستار وفتح باب خفي، وسمعتا صوتا يقول: ادخلا.
فانتقلت السيدتان إلى غرفة كسيت جدرانها بالسواد، يضيئها مصباح ذو ثلاث فتائل، قد علق في وسط السقف.
وقفل الباب وراءهما ونظرا، فإذا هما في حضرة الساحرة.
وكانت الساحرة فتاة بين الخامسة والسادسة والعشرين، تميل بحركاتها وكلماتها إلى أن تظهر في سن أكبر من سنها الحقيقي - بعكس سائر بنات حوا - فكانت مرتدية لباسا أسود، مسترسلة الشعور ضفائر حول رأسها وعارية الجيد والأطراف، وكانت ممنطقة بمنطقة من الجلد ذات قفل محلى بحجر من العقيق.
وكانت الساحرة قائمة على منبر تنبعث منه روائح عطرية شديدة.
ولم تكن الساحرة بارعة في الجمال، بل كان جمالها عاديا، إنما كانت عيناها تظهران للناظرين أنهما واسعتان اتساعا غير عادي؛ لكحل كانت تكتحل به فتنبعث منهما بروق خلابة للأبصار، فكأنهما حجران من عقيق كالحجر الذي في منطقتها.
ولما دخلت الزائرتان وجدتا الساحرة ملقية برأسها على يدها وكأنها غارقة في لجة من الأفكار، فخشيتا أن تخرجاها مما هي فيه، فانتظرتا أن يروق لها أن تخاطبهما. ومضت عشر دقائق، ثم رفعت الساحرة رأسها ونظرت إلى القادمتين كأنها لم تتنبه لوجودهما إلا تلك اللحظة، وقالت تسألهما: ماذا تريدان مني؟ أفما قدر لي أن أستريح إلا في اللحد؟!
Неизвестная страница
فقالت ذات الصوت الرخيم: عفوا يا مولاتي! إنما أريد أن أعلم ...
فقاطعتها الساحرة بصوت حافل قائلة: صه! لا أريد أن أعلم ما تريدين، فخاطبي الروح؛ فإن الروح غيورة حريصة على الأسرار، تحظر على كل حي أن يشاركها في معرفتها، أما أنا فليس لي إلا أن أدعوها وأطيعها فيما تأمر.
1
ثم نزلت الساحرة عن منبرها، ودخلت غرفة أخرى، وما لبثت أن عادت منها باهتة شاحبة اللون، وبيمناها موقد مشتعل، وبالأخرى ورقة حمراء. وفي تلك اللحظة تضاءل الضوء المنبعث من فتائل المصباح حتى كاد ينطفئ المصباح ، ولم يبق في الغرفة إلا ضوء الموقد المنبعث من لهيب النار، فتغيرت ألوان الأشياء، واكتسبت صبغة تؤثر على الأنظار فتجعلها كأنها تنظر إلى خيالات لا حقائق، فاضطربت الزائرتان وودتا لو لم تأتيا هذا المكان.
ووضعت الساحرة الموقد وسط الغرفة، وقدمت الورقة للسيدة التي كانت تخاطبها وقالت لها: اكتبي ما تريدين أن تعلميه.
فتناولت السيدة الورقة بيد ثابتة - على خلاف ما كانت تنتظر منها الساحرة - وكتبت عليها الأسئلة الآتية:
هل أنا فتاة؟ وهل أنا جميلة؟ أعذراء أنا أم ذات زوج أم أرملة؟ تلك أسئلتي عن ماضي.
هل قدر لي أن أتزوج؟ أم أترمل ثم أتزوج؟ وهل حياتي طويلة أم قدر لي أن أموت في سن الشباب؟ تلك أسئلتي عن مستقبلي.
ثم قالت السيدة للساحرة: ماذا علي أن أصنع الآن؟
قالت لها: اطوي الورقة حول هذه الكرة.
Неизвестная страница
وقدمت لها كرة من الشمع واستمرت قائلة: ستلتهم النار الكتاب والكرة بحضرتك، وقد علمت الروح أسرار سريرتك، وسيصلك الجواب قبل انقضاء ثلاثة أيام.
فقذفت الطالبة بالكرة والكتاب في موقد النار، فقالت الساحرة: تم المراد.
ثم نادت: يا كوموس.
فدخل الأحدب فقالت له: رافق هذه السيدة حتى عربتها.
فخرجت الزائرة تتبع الأحدب بعد أن تركت على مائدة الساحرة كيسا مملوءا بالدراهم.
وسار الأحدب بالسيدة ورفيقتها، وما كانت رفيقتها إلا وصيفتها وأمينتها، فنزل بهما من درج غير الذي كانتا رقيتاه معد لخروج الطالبين وموصل للمنزل من طريق غير الذي أتيتا منه. وكان سائق العربة قد نبه إلى انتظارهما عند هذا الباب، فوجدتاه في الانتظار.
وصعدت السيدتان إلى العربة، وسارت بهما نحو شارع دوفين. •••
وفي اليوم الثالث من زيارة السيدة ذات الصوت الرخيم للساحرة، استيقظت السيدة فوجدت على المائدة التي في غرفتها خطابا بخط مجهول، ومعنونا بتلك الكلمات:
إلى البروفنسية الحسناء.
ففضت السيدة الخطاب؛ فوجدت فيه هذه الكلمات:
Неизвестная страница
أنت فتاة وجميلة وأرملة، هذا عن ماضيك.
وستتزوجين بعد ترملك، ثم تموتين في شبابك مقتولة، هذا عن مستقبلك.
الروح
وكان الورق المسطر عليه الجواب من جنس الورقة التي كتب عليها السؤال.
فاضطربت السيدة، وانبعث من صدرها صوت ضعيف دل على رعبها، ورأت أن الإجابة عن ماضيها سديدة صادقة، فخشيت أن يصدق كذلك تكهن الساحرة عن مستقبلها.
البروفنسية الحسناء
إن السيدة التي قصدت الساحرة لتعلم ما خبئ لها في المقدور، كانت أجمل نساء عصرها وأشهرهن في الجمال، وإليك قصتها:
كانت السيدة تدعى ماري ده روسان، وكانت قبل زواجها تدعى مادموازيل شاتو بلان، باسم إحدى المزارع التي كانت لجدها - أبي أمها - يوانيس ده نوشير بمقاطعة بروفنسة، وكانت ثروة جدها تربو على خمسمائة ألف دينار، ولما بلغت ماري الثالثة عشر (عام 1649) تزوجت بالمركيز ده قسطلان، من كبار أشراف عصره، وسليل حنا ملك قسطلة ابن بطرس القاسبي من محظيته حنه ده كسترو.
وكان المركيز ضابطا في المدرعات الملوكية، فبادر بتقديم عروسه إلى حاشية الملك لويس الرابع عشر، فاحتفى بها الملك، وأدهشه جمالها الرائع، وكان الملك إذ ذاك في العشرين من عمره، وبلغ احتفاؤه بعروس تابعه أن رقص معها مرتين في ليلة واحدة، حتى بلغت غيرة السيدات منها مبلغا عظيما.
واتفق أن كانت كريستين ملكة أسوج ضيفة في بلاط لويس الرابع عشر إذ ذاك، فلما شاهدت ماري قالت: إنه لم تقع عيناها في جميع الممالك التي زارتها على امرأة يقاس جمالها بجمال هذه «البروفنسية الحسناء»، فأيد مديح الملكة مديح الناس، وتمت به شهرة المركيزة ده قسطلان، فلم تعد تعرف بين الناس إلا باسم «البروفنسية الحسناء».
Неизвестная страница
واشتهر جمال المركيزة، وتحدث به الناس، فقصدها الرسام مينار أشهر مصوري زمانه، وطلب منها أن تسمح له بأن يصورها فسمحت، ولا تزال الصورة باقية ممثلة لهذا الجمال بعد أن فني هيكله.
وحيث إن هذه الصورة ليست حاضرة أمام عيون القراء، فسنجتهد في استحضارها لذهنهم بنقل أوصاف المركيزة كما جاءت في رسالة طبعت في روان عام 1667، وعنها نقل المؤلف أغلب الحوادث التي رواها في هذه القصة، قال الواصف:
كانت المركيزة ذات بياض ناصع مشرب بحمرة، وقد امتزج اللونان على بشرتها امتزاجا لا يتمكن أمهر مصور أن يؤديه على جماله الطبيعي، وكان بياض محياها يزيده بهاء ونورا سواد شعورها، وقد كللت جبينا كأنه اللجين. أما عيناها فكانتا نجلاوين وكأنهما شقتا في مرمر، وكانتا في لون شعورها، وينبعث منهما بريق لطيف يخترق القلوب؛ فلا يتمكن الناظر أن يطيل فيهما النظر. وقد أبى الله أن يخلق لفمها مثيلا؛ إذ دق الفم فكان كالخاتم، وارتسم الحسن بكل معانيه على شفتيها، فإذا ابتسمت انجلت الشفتان عن عقدين من اللؤلؤ. وكان أنفها جميلا، وقد صوره الباري فصور فيه معاني الرفعة والعظمة والشمم. وكان وجهها مستديرا كأنه البدر في ليلة تمامه، وقد تمثلت فيه الحياة والصحة والشباب بأجمل تمثيل، وأراد الله أن يكملها بالحسن، فجعل في كل حركة من حركاتها ونظرة من نظراتها ما يستميل أنفر القلوب وأبعدها عن التصديق بآية الحب. وكانت قامتها متممة بجمالها لجمال محياها. أما يداها وساعداها ووقفتها ومشيتها فما كانت إلا لتزيد جمالها جمالا، فلا يلبث رائيها أن يقر بقدرة الباري عز وجل؛ لإبداعه في شخص هذه المركيزة، أجمل مخلوقة في أكمل صفات الجمال.
ولا يخفى أن امرأة حباها الله من الحسن ما حبا هذه المركيزة، لا تسلم من ألسنة الوشاة وأقوال الحساد في حاشية أحزابها تدبرها النساء، وللنساء فيها الكلمة الكبرى والقول المسموع، ولكن لم يبلغ الوشاة في المركيزة غرضا؛ لأنها كانت في جميع أحوالها، وخصوصا عند غياب بعلها عنها، حريصة على شرفها، أمينة على عرضها، محتشمة في أقوالها وأفعالها رغما عن رقة ألفاظها ولطيف نكاتها أو رشاقة حركاتها، ولما عجز الوشاة عن إصابتها في عرضها تعرضوا لصفاتها، فقالوا: إن جمالها غير جذاب، فكأنها صنم من الأصنام؛ وجه من مرمر، وقلب من رخام.
ولكن أبى الله إلا أن تخسر الوشاة، وتسود وجوههم؛ إذا أقبلت المركيزة على مجلس هم فيه، فتراهم سكنوا في حضرتها، وكذبت أقوالها وأفكارها مفترياتهم في وجوههم، فيقبل عليها الحضور يمتعون العين بجمال مرآها، والأذن برقة حديثها ورخامة صوتها، والقلب بعذوبة ألفاظها ودقة معانيها؛ فتستهوي القلوب وتجتذب الأفئدة، فيعترف كل من لم يكن رآها قبل ذلك أنه لم ير مخلوقا قربه الله من الكمال في كل شيء مثلها.
ولبثت المركيزة في قومها محبوبة محترمة الجانب، لا تصل إليها ألسنة الواشين، ولا يبلغ فيها كيد الكائدين، حتى بلغ القوم خبر غرق المدرعات الملوكية في مياه صقلية، وموت المركيز ده قسطلان أميرها وقائدها.
وما أثر هذا المصاب على ما امتازت به المركيزة من صفات التقوى؛ فظهرت في الناس صبورة على أحكام الدهر، راضخة لما قدر الله. وكان قد مضى على زواجها بالمركيز سبع سنين لم يتمتع بقربها فيها إلا قليلا، فلم يتعلق قلبها به تعلقا يورثها اليأس من بعده أو يفقدها الرشد لفقده، إلا أنها اعتزلت المحافل والمآدب عقب هذا المصاب، كما تقضي به الآداب، وآوت إلى زوجة أبيها مدام دمبوس، فأقامت لديها.
وأقامت المركيزة عند مدام دمبوس ستة شهور؛ فأرسل لها جدها المسيو يوانيس يستقدمها إليه بأفينيون لتمضي لديه أيام حدادها. وكان للجد منزلة ومحبة ثابتة في قلب حفيدته؛ لأنه رباها صغيرة وعني بأمرها كبيرة، فلهذا أسرعت في تلبية دعوته، وتجهزت للرحيل إلى بلدته.
وكانت ظهرت في تلك الأثناء فوازين الساحرة وشاع أمرها؛ فتحدث الناس بعلمها، وذهبت سيدات من صاحبات المركيزة إلى تلك الساحرة لتكشف لهن خفايا المقدور، فتكهنت لبعضهن تكهنا أظهرت الأيام صدقه، ولا ندري أخدمتها الصدف وساعدتها المقادير في صحة تكهنها، أم تمكنت بفراستها ومهارتها من تبين الغيب من صفات قاصديها لاستشارتها.
ودفع المركيزة حب الاطلاع إلى زيارة هذه الساحرة؛ لما سمعته عن علمها وقدرتها، فقصدتها كما رأينا في الفصل السالف، وكان ذلك قبل سفرها إلى أفينيون بأيام قلائل، وقد علمنا الإجابة التي أرسلتها لها الساحرة طي الخطاب.
Неизвестная страница
ولم تكن المركيزة ممن يعتقدن بالكهانة، إلا أن تكهن الساحرة ترك في قلبها أثرا سيئا، وارتسم في ذاكرتها ارتساما ثابتا لم تتمكن من محوه رؤيا وطنها العزيز وقد عادت إليه، ولا ملاطفة جدها وحنوه وقد رجعت إلى أحضانه، ولم تتمكن من إزالة تلك الوساوس الملاهي والألعاب أو المقام الذي نالته المركيزة بآدابها وجمالها بين الناس. ولما عجزت عن صرف هذا الشاغل طلبت من جدها أن يأذن لها بالدخول إلى دير لتقضي فيه ما بقي لها من شهور الحداد.
آل جنج
ولبثت المركيزة بالدير أياما، سمعت في خلالها باسم رجل له من الشهرة بالجمال بين الرجال ما لها بين النساء، وهو السيد لونيد مركيز ده جنج بارون لنجدوك وحاكم سنت أندريه بأبرشية أوزيس، وكانت رفيقات المركيزة من الراهبات يقلن لها عندما يحدثنها عن هذا السيد: كأن الله خلقكما يا مولاتي ليكون أحدكما للآخر.
فما لبثت المركيزة أن اشتاقت لرؤيا ذلك الرجل، وودت لو تجمعها الظروف به.
وبلغ المركيز ده جنج عن مدام قسطلان ما بلغها عنه؛ فتاقت نفسه إلى رؤياها، فتحايل حتى حمله جدها رسالة إليها، فتوجه للدير الذي آوت إليه، وطلب أن يقابلها بقاعة الاستقبال، فحضرت إليه ولم تكن نبئت عن اسمه، إلا أنها عرفته عندما وقع نظرها عليه؛ لأنها لم تنظر في حياتها رجلا أجمل من زائرها ذاتا، فحدثها قلبها أنه هو الذي طالما حدثوها عنه، وأطنبوا في مديحه، ولم يبالغوا.
وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه، والمقدور لا بد من نفاذه، فما نظرت المركيزة المركيز حتى تبادل قلباهما الغرام.
وكانا في مقتبل الشباب، وللمركيز من جاهه وكرم أصله، وللمركيزة من مالها وجمالها ما جعل كلا منهما كفؤا لصاحبه، وجديرا بأن يصبح زوجه وأليفه، إنما روعيت لعقد القران واجبات الحداد؛ فأجل إلى انقضاء أيامه.
ثم احتفل بزواجهما في أوائل عام 1558، وكان سن المركيزة إذ ذاك لا يزيد عن العشرين، وعمر المركيز أكبر من ذلك بسنتين.
وكانت السنين الأولى لهذا القران سعيدة مباركة؛ فشعرت المركيزة بحبها لزوجها حبا لم تكن تشعر به نحو زوجها الأول. وأراد الله أن يتمم أسباب هنائها؛ فرزقها ولدا وبنتا طابت بهما نفسها وقرت عينها.
ونسيت المركيزة تكهن الساحرة، وكانت كلما خطرت ببالها تعجب لنفسها؛ كيف ساغ لها أن تصدقها أو تجزع لها.
Неизвестная страница
وكأني بك أيتها المركيزة وقد جهلت أن هذه الدار شقاء، وأن ليس لسعادة فيها بقاء:
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
فيا ليتك لم تستعذبي طعم الهناء؛ حتى لم تستعظمي مرارة الشقاء، بل ليتك لم تخطبي ود هذه الدار؛ فطبعها غدار، ويا ليتك قنعت بالعزلة في الديور، فما وراء معاشرة الناس إلا الويل والثبور، ولكن قدر الله فكان، وما لمخلوق أن يعاند ما قدره الرحمن.
ومل المركيز من سعادة تأتيه في المساء بما تأتيه في الصباح، وفطر الإنسان على حب التنقل حتى في السعادات، ألا قتل الإنسان ما أكفره! فأسف المركيز على لهو الشباب والتقلب في اللذات بين الأصحاب؛ فعاد إلى هواه القديم، ونسي أن بجانب زوجه النعيم المقيم.
ولا تلومن فتاة تركها زوجها إن تركته، أو أهمل شأنها إن أهملته؛ فإن المركيزة لما تولى حب زوجها الغير هجرته وقصدت المحافل والمآدب حيث يقدرها الناس قدرها ولا يهمل المعجبون بها أمرها؛ فثارت لذلك غيرة المركيز، ولكنه خشي أن يصبح أمثولة في الناس أن تعرض لزوجها في ائتلافها بهم؛ لأن مجالس النساء الأديبات كانت في ذلك الحين مجتمع أهل الفضل والآداب من العلماء والكتاب. فكتم المركيز أمره، ولكن لم يطق صدره أن يحمل سره، فصار كلما خلا إلى زوجته يوجعها بقارص الكلام ويذيقها من معاملته أشد الآلام، فحل الكدر محل الصفاء، وعقبه الهجر بعد الوفاق؛ فأصبحت المركيزة لا ترى زوجها إلا في ساعات معدودات لا مندوحة لهما فيها عن اللقاء. ثم ما لبث المركيز أن أصبح يحتج بأسفار تضطره للغياب، ثم صار يغيب دون أن تبدو لغيابه أسباب، وهكذا مضت على المركيزة تسعة شهور لم تر لبعلها فيها وجها أو تعلم له ميعاد أوبة.
وقد أجمع الكتاب على أن المركيزة صبرت على هجر زوجها وسوء عشرته صبر أولي العزم؛ فلم يبد عليها ملل أو انكسار، وقلما أجمع الجمهور على الشهادة بمثل ذلك على إحدى بنات حواء.
وكان المركيز لما مل من معاشرة زوجته دعا لمنزله شقيقين له أحدهما فارس والآخر راهب، وكان له أخ ثالث أميرالاي في فرقة لنجدوك، إلا أننا أهملنا ذكره في هذه القصة؛ لأنه لم يتداخل في حوادثها ، ولم يشترك في مكائدها.
ولم يكن الراهب في الحقيقة من رجال الكهنوت؛ إنما اتخذ هذا اللقب ليتمتع بما له من المزايا بين الناس، وكان به لمحة من الجمال، وقطرة من الذكاء، وله اشتغال في أوقات الفراغ بنظم الشعر وتسجيع الكلام، وكان إذا غضب انبعثت من عيونه بروق تدل على قساوة في الطبع وغلظ في القلب، وكان مع ذلك ميالا للذات مستعبدا للشهوات، لا يخشى منكرا ولا ينفر عن معصية، كأنه حقيقة من رجال الدين في ذلك الحين.
أما الفارس فكان له نصيب أيضا من هذا الجمال الذي اختصت به عائلته، إلا أنه كان عديم الإرادة خمول الذكر، من أولئك الناس الذين يفعلون ما يؤمرون، ولا يدرون أخيرا أم شرا يفعلون؟ وهكذا كان الفارس آلة في يد أخيه الراهب؛ يأتمر بأمره ويسمع لمشورته، ولا يستطيع أن يصرف نفسه عن اتباع أوامره، بل يعجز لضيق فكره أن يدرك مغزاها أو مرماها، فكان ينفذها كالآلة الصماء؛ ولذا كان ضرره أشد مما لو كان يدرك ويعقل.
Неизвестная страница
وكان لإرادة الراهب سلطان على المركيز كما لها على أخيه، وكان الراهب صعلوكا لا مال له؛ لأنه ليس أكبر أولاد أبيه، وكان الميراث للأكبر في الأولاد شريعة ذاك الزمن، فرأى أخاه المركيز قد استولى على ثروة أبيهما، وضاعفتها ثروة زوجته، وعن قريب تضم إليهما ثروة جدها نوشير؛ إذ هي وريثته بعد موته. فطمع القس في ذلك المال واحتال للوصول إليه، فأفهم أخاه أنه لا بد له من معين في إدارة شئون بيته وأمواله، وقدم له نفسه مستعدا لهذه الخدمة، فتقبل المركيز هذا الاقتراح بالارتياح؛ خصوصا لملله الإقامة مع زوجته، وليس لديه في القصر رفيق.
وهكذا تمت للراهب أولى أمانيه؛ فحضر للقصر يرافقه أخوه الفارس مرافقة الظل أينما تسير يتبعك وأنت لا تهتم به ولا تفكر فيه.
وطالما أسرت المركيزة لصاحباتها أنه داخلها شيء من الفزع عند رؤية أخوي المركيز، ولو أن ظاهرهما يؤخذ منه ما يجعل لسوء الظن بهما سبيلا، إلا أنه عادت لها ذكرى تكهن الساحرة بعد أن كانت تناستها، وأبت أن تنصرف عنها.
أما أخوا المركيز فاندهشا لأول وهلة من جمال امرأة أخيهما؛ فوقف أمامها الفارس مبهوتا لحسنها معجبا به كرجل يعجب بتمثال من رخام لا يستطيع تحويل نظرة عنه؛ لإتقان صنعه، ولم يتعد إعجابه بها هذا الحد، بحيث لو تمهد له السبيل إليها لما زاد عن هذا الإعجاب شيئا، ولم يخف الفارس عن امرأة أخيه ما شعر به منها، فهنأها على ما أوتيت من اللطف والجمال.
أما الفارس فما كاد يقع نظره على امرأة أخيه حتى اشتهاها، وتمكنت منه هذه العاطفة الحيوانية، فعقد عليها نيته، لكنه أخفى - لخبثه ولؤمه - ما خالج فؤاده، وكان كتوما لعواطفه بقدر ما كان أخوه الفارس بائحا بها، فلم يلفظ في حضرة المركيزة إلا كلمات أوحى إليه بهن الرياء والدهاء، فلا فضح أمره ولا كشف سره، ولا جعل لامرأة أخيه سبيلا إلى الارتياب فيه، وخرج من حضرتها - لعنه الله - موطد العزم على اغتيال أقدس ما منحها الله: وهو شرف العرض.
أما المركيزة فقد علمنا ما خالج قلبها من الوسواس عند رؤية سلفيها، إلا أن مجاملات الراهب وجهل الفارس طمئناها نوعا؛ فأمنت جانبهما. وكانت المركيزة من أولئك الذين لا يتصورون ابن آدم قادرا على الشر لطيب قلبها، ويغترون بالظواهر فيظنون النفاق إخلاصا، ويترقبون ولو كلمة لتردهم إلى حسن الظن إذا شاب قلبهم الريب أو داخله الشك ممن يظنون فيه الصلاح، ولو كان من المجرمين.
مناصبة العداء
وعاد للدار البشر عند مقدم الأخوين؛ فابتسمت فيها الثغور، وأشرقت الوجوه، وعجبت المركيزة لما طرأ من التغير حتى في أحوال زوجها؛ فإنه عاد إليها مقبلا عليها كأنه نادم على ما فرط منه، وحسنت ألفاظه في محادثتها بعد أن كان يغلظ لها في القول، فطابت عشرته، وفرحت زوجته، ولم يكن قلبها في تلك الفترة تغير عليه، بل ما فتئت المركيزة مخلصة له الود، باقية على العهد؛ فقابلت هجره بالجلد والصبر، وقابلت إقباله عليها بالفرح والشكر، ومضى عليهما مؤتلفين ثلاثة شهور ذكرتهما بشهور القران السعيدة الأولى، بعد أن كادت تمحو الحوادث أثر ذكراها من قلب المركيزة الكليم.
وإذا ابتسم الدهر لامرئ في مقتبل العمر تعلق بالدنيا وأحب الحياة؛ فتراه فرحا طروبا يطلب المزيد من السرور، ولا يهمه في الحياة إلا أن يكون سعيدا. وكانت تلك حال المركيزة؛ فإنها رأت أن نجمها أشرق بعد الأفول، وأقبلت عليها السعادة، وصادفها القبول، فلم تهتم بالبحث عن الأسباب التي صفا بها عيشها وانصلح أمرها.
ودعيت المركيزة ذات يوم لتقضي بضعة أيام عند جارة لها ذات ضيعة، ودعي معها زوجها وسلفاها، فرافقوها إلى مكان الدعوة. وكانت صاحبة الضيعة قد جهزت معدات القنص إكراما لمدعويها، فما أقبل المدعوون حتى أخذوا يستعدون لما يقتضيه الصيد من أعمال.
Неизвестная страница
وكان الراهب - لدهائه - قد تمكن من اجتذاب القلوب إليه، فصار في مقدمة المدعوين إلى كل حفلة أو مأدبة، فلما دعي إلى هذا القنص ووزعت الأعمال على المدعوين، طلب أن يكون رفيق المركيزة. ومن عادات الغربيين أن يلازم كل رجل منهم في الصيد سيدة؛ حتى لا تضل السبيل أو تعرض بنفسها إلى خطر إذا تفرق القوم عند مطاردة الصيد، فلما قدم الراهب نفسه لهذا الغرض لم يسع المركيزة - للطفها المعهود - إلا أن تقبله زميلا لها مبتسمة شاكرة، واختار كل من المدعوين زميلة له، ثم انطلق القوم إلى حيث تواعدوا على الملتقى. والصيد عند وجهاء الغربيين من ضروب اللهو التي تقام إكراما للزائرين، وقد يدعى إليه من لا يستطيع أن يصيد عصفورا أو أرنبا؛ فيحضر الصيد ولا يصطاد، بل تطلق الكلاب وراء الفريسة إذا لاحت، ويتبعها بعض غواة الصيد من الحضور، ويتفرق وراءهم القوم، فيقضون اليوم في مطاردة الوحوش والتجول في الفلوات أو الغابات.
وهكذا تم في الصيد الذي دعي له آل جنج، فأرسلت الكلاب، وتفرق الحضور في كل وجهة وطريق.
أما الراهب فلم يفارق المركيزة لحظة؛ لأنها زميلته، واحتال بدهائه حتى انفرد بها عن الناس، وكان ذلك ما يسعى وراءه منذ شهر ولا تيسر له المركيزة أسبابه. ولما أدركت المركيزة أن انفرادها مع الراهب كان حيلة منه، أرادت أن تفسد تدبيره بأن تطلق لجوادها العنان في طريق غير التي ساقها إليها الراهب؛ فأدرك قصدها، وأمسك بلجام الجواد.
ولم ترد المركيزة أن تقابل سلفها بالعداء، فصبرت وسكتت منتظرة أن يفاتحها الكلام، وتظاهرت أمامه بالكبرياء والشمم؛ لتظهر له بوقفتها احتقارها له، وتفهمه أنها ليست ممن تذل إلى مثله أو ممن تعالى إليها المطامع.
وساد بينهما السكوت لحظة، فقطع حبله الراهب قائلا: مولاتي، أسألك العفو إذا اتخذت هذه الوسيلة لأحدثك على انفراد، ولقد كنت أود بصفتي أخا لزوجك أن تيسري لي ذلك السبيل إذا طلبته، إنما وجدتك تتقينه وتقيمين دونه الحوائل، فرأيت أن خير واسطة لنيل هذا الغرض أن أسعى لتدبيره بنفسي، حيث لا تستطيعين أن ترفضيه إذ ذاك ...
فأجابته المركيزة قائلة: يلوح لي يا سيدي أنك ما ترددت في مفاتحتي على انفراد بالحديث الذي تريده، ولا عمدت إلى كل هذه الوسائل لتجبرني على سماعه إلا لأنك عالم أنه حديث لا يليق بي سماعه؛ ولهذا أرجوك أن تطيل التفكر والتأمل فيه قبل أن تفاتحني به. واعلم أنني حافظة حقي في إسكاتك، سواء كنا هنا أو في أي مقام، حينما أشعر أنك خرجت في حديثك عن حد الاحتشام.
فقال الراهب: أظن يا مولاتي أني حر أقول ما أريد، وأيا كان حديثي فستسمعينه لنهايته، ومع ذلك فليس حديثي مما يدعوك إلى هذا التحفظ والاحتراس؛ فالموضوع بسيط، وكل ما أريد معرفته منك هو: هل لاحظت تغيرا في سلوك زوجك نحوك؟
قالت: نعم، ولا يمضي يوم إلا أشكر فيه عناية الله على هذا التوفيق الذي عاد بيننا.
فتبسم الراهب ابتسام الجاحد، وقال - لعنه الله: لقد أخطأت يا مولاتي؛ فليس لله يد في هذا الأمر، فلك أن تشكريه على أنه حباك صفات الجمال وكملك في معاني الحسن؛ فكنت من أبدع ما خلق وصور، إنما لا تبخسيني حقي وتشكريه على فضل كان مني.
فأجابته المركيزة ببرود قائلة: إني لا أفهم ما تعنيه.
Неизвестная страница
قال: إذن فسأفصح لك يا مولاتي العزيزة، فاعلمي أني أنا الذي تمت على يدي المعجزة التي تشكرين الله عليها اليوم، فاشكريني واعترفي بفضلك، أما الله فله منن كثيرة، فهو ليس في احتياج إلى مشاركة بعض خلقه فيما يعود لهم من الفضل والشكر.
فأجابته: أصبت يا صاح، فإذا كان هذا التوفيق قد تم على يديك - كما تقول - وكنت لا أعلم لمن يرجع هذا الفضل فأقدم لك واجب الشكر أولا، ثم أشكر الرحمن؛ إذ وفقك إلى هذا المسعى المشكور.
قال: نعم، إنما إذا كان الله وفقني إلى هذا المسعى المشكور ولا يمتعني بالثمرة التي أترقبها، فهو قادر على أن يوفقني إلى سعي غير مشكور.
فسألته المركيزة قائلة: وما معنى ما تقول؟
فأجابها: معناه أنه لم يجعل الله في أسرتي إرادة فوق إرادتي، ولا قدرة فوق قدرتي، وإن قلب أخوي في يدي أصرفه كيف أشاء، وإن امرأ قدر على النار أن يزكيها لقادر على أن يطفئها.
قالت: ما زدتني إلا غموضا فأفصح عما تريد.
قال: حيث سمحت يا مولاتي العزيزة بطلب البيان، فسأكون أبلغ في التعبير، وأفصح في اللسان، فاعلمي أن أخي إنما كان ابتعاده عنك وهجره إياك لشدة غيرته عليك، فأردت أن آتيك برهانا من سلطاني عليه، فرددته من أقصى الهجر إلى أدنى الحب، وأفهمته أن لا محل لغيرته عليك وسوء ظنه بك، فأنا قادر على أن أقصيه بعد الدنو، وما ذلك علي بعزيز، فأبدي له أنني إنما كنت مخطئا في اعتقادي بطهارتك وحكمي ببراءتك، ولست في حاجة يا مولاتي على إثبات ما أقول؛ فأنت تعلمين أني صادق الوعد والوعيد.
فسألته: وما همك من هذه المساعي؟
قال: أن أثبت لك أني قادر على أن أجعلك مسرورة أو حزينة، محبوبة أو مكروهة، سعيدة أو شقية. والآن فاعلمي أني أهواك.
فاحمر وجه المركيزة من الغضب وقالت لمحدثها: إنك لتهينني ...
Неизвестная страница
ثم حاولت أن تستخلص من يديه عنان الجواد، فأمسك به الراهب وقال: لا تظني أن كلماتك تثنيني، فاعلمي أني امرؤ لا يهتم بالأقوال، وما عهدنا رجلا سب امرأة؛ إذ قال لها إنه يهواها، وقد يقدر الرجل على ألف حيلة يضطر بها المرأة إلى الإذعان لحبه، وما عليه من عار أن يعمد إلى حيلة منها مهما كبرت، إنما من العار أن يخيب أو يفشل فيها.
فسألته المركيزة وهي تبسم تبسمة احتقار وازدراء: وهل لي أن أعلم إلى أية حيلة عمدت؟
قال: إن الوسيلة الوحيدة التي يمكن نجاحها مع امرأة ساكنة رزينة قوية الإرادة مثلك هو إقناعها بأن من مصلحتها الإذعان لهذا الحب.
فأجابته المركيزة وهي تحاول عبثا تخليص العنان من يد هذا اللئيم: حيث إنك تزعم معرفة صفاتي وخلالي التي ذكرتها، فسأزيدك علما بنفسي، وأريك كيف تعامل امرأة مثلي رجلا يفاتحها بمثل هذا الكلام، أما الآن فسأتركك لتسائل نفسك عما كان من الواجب علي أن أقابلك به من الألفاظ ردا على ألفاظك، وعما يجب علي أن أبلغه لزوجي.
فتبسم الراهب وقال: أنت حرة فيما تقولين يا سيدتي، فبلغي زوجك ما تريدين، بل أعيدي على مسمعه حديثنا كلمة كلمة، وبالغي ما شئت أن تبالغي، بل وزيدي في حديثك ما توحيه إليه ذاكرتك إن صدقا وإن كذبا، تجسيما لجريمتي في عينيه، ثم إذا أنت غيرت قلبه علي، وأبلغته مني، ووثقت أنه صدق حديثك وسينتقم لك، فسألقي عليه كلمتين تكذبان ما تقولينه وتهدمان ما تبنينه.
والآن قد تم حديثي، فلا أضطرك إلى البقاء؛ فتدبري فيما قلت، ولك مني إما حبيب مخلص وإما عدو لدود.
ثم ترك الراهب عنان الجواد، فوخزته المركيزة، وسارت به غير مسرعة؛ حتى لا يظنها الرجل هاربة منه أو خائفة، ثم تبعها الراهب، ووافيا القوم حيث يصيدون.
عدو جديد
صدق الراهب، وما كان قوله لغوا؛ أما المركيزة فطالما شاهدت ما لهذا الرجل من السلطة على زوجها، وقد رأت برهان ذلك مرارا، فسكتت ولم تبلغ زوجها شيئا مما دار بينها وبين أخيه، وظنت أخاه إنما كان يهددها فقط، وأنه لا تطاوعه مكارمه أن يفعل ما يقول، كأن لمثل هذا اللئيم مكارم أو فيه مروءة.
أما الراهب فأراد بعد افتراقه من المركيزة أن يعلم هل رفضت حبه لكراهة شخصية فيه أم لعفة صادقة فيها ، وكان أخوه الفارس جميلا كما أسلفنا القول، وله معرفة بآداب اجتماعية تعودها من معاشرة علية القوم، فنابت عنده مناب الذكاء، والجهول أقرب الناس للادعاء بالعلم، وأدناهم إلى التصديق بما يصفه به المنافقون من الفضائل التي ليست فيه، فعزم الراهب أن يقنعه بأنه - أي الفارس - يحب المركيزة، وأن حبه لها دليل على حسن ذوقه وإصابة اختياره، ولم يتعسر على الراهب إقناعه بذلك؛ فقد علمنا شدة التأثير الذي وقع على الفارس عند رؤيته المركيزة لأول مرة. وكان الفارس ملاحظا تمسك المركيزة بواجباتها لكرامة نفسها؛ فلم يتجاسر على أن يتقرب منها تقرب عاشق، بل أثر فيه جمالها وكمالها، فجعله لها من أخلص الخدم. ولاحظت المركيزة إخلاصه فقربته منها تقريب صديق، ونزعت من بينها وبينه التكليف إلى الحد الذي تسمح به درجة قرابته لها.
Неизвестная страница
واختلى الراهب بأخيه الفارس على انفراد، وقال له: أخي، لقد قدر علينا - ونحن أخوان - أن نتعلق بهوى امرأة واحدة، وهذه المرأة هي زوجة أخينا، وإني أخشى أن يكون حبنا لها مجلبة للعداء بيننا، فأما أنا فقوي على نفسي قادر على كبح جماح شهواتي؛ فلذا تراني مستعدا أن أخلي لك المكان، وأتنازل لأجلك عن هذا الحب، خصوصا لعلمي أنك المفضل فينا عند فاتنتنا، والمقرب لديها؛ فاعمل إذن على مكانتك، وتعهد هذا الحب وارعه حتى يدوم لك، فإذا تم لك ما تشتهي أنجلي أنا إذ ذاك عن هذا الميدان. أما إن خفق مسعاك فأخل لي المكان لأعمل على خطب هذا الود المستعصي على الخاطبين، وأصيد هذا القلب النفور من الطالبين، وأتيقن هل هذا القلب من الجافين، أم أحيط - كما يقولون - بسياج العفاف الحصين.
وما خطر على قلب الفارس قبل حديث أخيه إمكان التطاول إلى المركيزة، ولكن لما حدثه الراهب عنها وقرب إلى ذهنه منالها، أوحى إليه فكره القاصر أنه قد يكون محبوبا لديها، وظن نفسه جديرا بأن يحب ويهوى؛ فحل في قلبه الزهو والطمع، وضاعف في عنايته بشئون المركيزة واهتمامه بها. ورأت المركيزة من زيادة اهتمامه دليلا جديدا على إخلاصه، ولم يخامرها من جهته ارتياب؛ فعظمت منزلته لديها بقدر ما صغرت في عينيها منزلة أخيه الراهب. فظن الفارس أن تقريبها له لشغفها به، فطرق الباب الذي طرقه أخوه من قبل؛ فاندهشت المركيزة وأوجست خيفة، ولكن تركته يفصح لها عن كل ما يضمره قلبه حتى تجلت لها مقاصده وعلمت غايته، فأوقفته عند حده كما أوقفت أخاه، وقرعته بكلمات من تلك الكلمات التي يوحي بهن للمرأة احتقارها للرجل، وبفصلها له، قبل أن يوحي بهن واجب الانتقام لعرضها وشرفها.
ولما أخفق الفارس فيما قصد، وكان ضعيف الهمة، تولاه اليأس؛ ففقد كل آماله، وعاد إلى أخيه يندب سوء حظه، وخيبة مسعاه، وضياع أتعابه، وشقاءه في هواه، وكان الراهب مترقبا لهذه النتيجة؛ ليتعزى بها أولا على ما ناله من الطرد والحرمان، وثانيا ليتخذها سبيلا لتنفيذ ما عزم عليه من المكائد، فما زال بالفارس يؤنبه على إخفاق مسعاه، ويستثير غضبه على المركيزة، حتى أوغر صدره عليها، وجعل منه عدوا لها ليكون له عونا عند الحاجة. ثم شرع الراهب في تنفيذ ما صمم عليه، فكان أول ما ظهر من نتيجة مكائده أن تغيرت أحوال المركيز على زوجته، وانصرف عنها قلبه، وكان السبب الظاهر في ذلك أن المركيزة كانت تحادث فتى في مأدبة وتصغي لحديثه؛ لذكائه واتساع مداركه، فاتخذ المركيز ذلك سببا للخصام، وآلم زوجته بقارص الكلام. ولكن فطنت المركيزة لليد المدبرة لهذا الشر، وعلمت أنها يد الراهب الفاجر، فلم يقربها هذا الإنذار منه، بل زادها ابتعادا عنه، وصارت لا تهمل فرصة تبدي له فيها شدة احتقارها له وازدرائها به.
ودامت هذه الحال بضعة شهور والمركيزة تشاهد زوجها يزداد كل يوم نفورا منها وهجرا لها، ورأت أن العيون مبثوثة عليها في كل مكان تستطلع حتى الخفي من شئونها الخصوصية.
أما الفارس والراهب فلبثا كما كانا، ولم يغيرا معاملتهما للمركيزة كما شاهدها أهل القصر منذ قدومهما، فأخفى الراهب ما أضمره وراء ستار من النفاق، وكمد الفارس غيظه لقلة حيلته وضعف إرادته.
ومات في هذه الأثناء المسيو يوانيس ده نوشير جد المركيزة ، مخلفا لها ثروة تنوف عن ستمائة ألف دينار، ضمتها إلى ثروتها الواسعة.
وكان من الأصول المرعية في الشريعة الرومانية المعمول بها في ذلك الحين بتلك البلاد أن مثل هذا الميراث يكون ملكا خاصا للمرأة؛ لأنه حادث بعد الزواج، فلا ينضم إلى المهر الذي آتته المرأة زوجها عند العقد، فللمرأة إذن حق التصرف المطلق في هذا المال، فلها أن تهبه أو توصي به لمن تشاء، ولها حق الانتفاع به، وليس لزوجها حق في ذلك، بل وليس له أن يدير شئون هذا المال إلا بتوكيل صادر له منها.
وعلم المركيز وأخواه أن المركيزة دعت لديها أحد الموثقين - والموثق موظف عمومي مختص بإجراء العقود الرسمية - فعلم زوجها أنها عازمة على أن تقرر بأن ما ورثته عن جدها خارج عن الأموال المشتركة بينها وبين زوجها، ورأى المركيز أن لا سبب يدعوها إلى هذا الإقرار إلا معاملته لها تلك المعاملة، التي طالما أنبأه ضميره أنه معتد عليها وظالم لها فيها.
الوصية
وذات يوم أعد المركيز وليمة، فكان مما قدم للمدعوين نوع من المأكول يعرف لدى الغربيين بالكريمة، وهو مصنوع من البيض واللبن والسكر، فانحرفت صحة كل من أكل من هذا النوع خصوصا المركيزة؛ فإنها كانت تناولت منه دفعتين. أما المركيز وأخواه فإنهما لم يصابا بشيء؛ لأنهما امتنعا عن هذا المأكول.
Неизвестная страница
واشتبه الآكلون في الكريمة؛ فاحتفظوا على ما تبقى منها وأرسلوه للتحليل، فقرر الكيماويون اشتماله على جوهر سمي هو الزرنيخ، إلا أنه لاختلاطه باللبن وهو ضده قد فقد جزءا من مفعوله، ولم يحدث إلا نصف التأثير المنتظر منه.
ولم يعقب هذه الحادثة ضرر لأحد؛ فألقوا المسئولية فيها على خادم اتهموه بأنه خلط بين السكر والزرنيخ، ونسي القوم الحادثة أو تظاهروا بنسيانها.
وعاد المركيز عقب هذه الحادثة إلى الإقبال على زوجته والتودد إليها، ولكنها لم تغتر بهذه الظواهر الودية، وعلمت أن للراهب يدا فيها، وقد أصابت الظن، فإن هذا اللئيم أقنع أخاه بوجوب مداراته للمركيزة؛ ليكتسب رضاها طمعا في ميراث جدها الذي آل لها. فأخذ المركيز يتقرب لها متظاهرا بالحب؛ كيلا يخطر ببالها أن تحرر وصية تحرمه فيها من هذا المال.
وقد رأى أهل القصر عند حلول الخريف أن يذهبوا إلى بلدهم جنج؛ ليقضوا فيها هذا الفصل وتاليه، وجنج مدينة صغيرة في إقليم لنجدوك السفلي تابعة لأبرشية مونبلييه، وعلى مسيرة سبعة فراسخ من مدينة مونبلييه، وتسعة عشر فرسخا من مدينة أفينيون.
وكان المركيز بحق الوراثة سيدا لهذه المدينة، وله فيها قصر مشيد؛ فلا غرابة إذا ارتأى أهل القصر أن يقصدوا زيارتها أو الإقامة فيها، إلا أن المركيزة اعتراها انقباض عندما أنبئت بهذا العزم، وحضرت لديها حالا ذكرى تكهن الساحرة، ثم تذكرت شروعهم في سمها حديثا وكيف خاب قصدهم، وتفهت معاذيرهم؛ فازداد بالطبع خوفها وقوي رعبها.
ولم تتهم المركيزة سلفيها مباشرة بهذه الجريمة الأخيرة، إنما كانت واثقة بأن لها منهما عدوين زنيمين، ورأت أن رحيلها لتلك المدينة القصية، وإقامتها في قصر منقطع وسط قوم لا تعرفهم من قبل أمر لا يطمئن له الخاطر، ولا ينشرح له الصدر، لكنها رأت أن امتناعها عن السفر بلا عذر واضح موجب للتهكم عليها والاستخفاف بها، وإذا امتنعت فأي عذر تبديه دون أن تتهم زوجها وسلفيها فيه.
ولما حارت المركيزة في أمرها كتمت سرها في صدرها وسلمت أمرها لله، إلا أنها لم تشأ أن تترك أفينيون قبل أن تحرر الوصية التي طالما فكرت فيها عقب موت جدها، فدعت إليها سرا أحد الموثقين، وأملت عليه أنها توصي لوالدتها مدام ده روسان بمالها من بعدها، وعلى أمها أن توصي به بعدها لمن تختاره من ولدي المركيزة وتفضله على أخيه. وكان للمركيزة إذ ذاك ولدان من زوجها: غلام في السادسة من عمره، وابنة في الخامسة.
ولم تكتف المركيزة بما فعلت لما رسخ في مخيلتها من أن سفرها لن يكون إلا شؤما عليها؛ فدعت سرا في الليل قضاة أفينيون وجمعا من وجهائها، وقررت أمامهم بصوت جهوري أنها حررت بالأمس وصية، وطلبت منهم أن يعتبروا هذه الوصية آخر وصاياها، حيث حررتها وهي بكامل الصفات المطلوبة شرعا، بحيث إذا ماتت وقدمت لهم وصية أخرى بخطها أو ممضاة منها فلا يعتبروها صحيحة، وأكدت لهم أن كل ما يدعى بصدوره منها بعدها يكون إما مزورا أو تكون هي مرغمة عليه.
ثم تناولت المركيزة قلما وقررت كتابة ما قررته أمام الحاضرين شفهيا، وأمضت الإقرار وسلمته للحاضرين، واستودعتهم إياه وديعة لدى ذي شرف شهيد.
وحدا هذا الإقرار وكل هذا الاحتياط بالحاضرين إلى استطلاع سر الأمر، فطرحوا على المركيزة جملة أسئلة فلم تجاوبهم عليها بما يفيدهم أو يزيدهم علما بالأمر، وغاية ما أبلغتهم أن لديها أسبابا خصوصية لا تستطيع إبداءها تدعوها إلى فعل ما فعلت.
Неизвестная страница
وبقي سر هذا الاجتماع مكتوما بعد أن تعهد كل من حاضريه للمركيزة أن لا يبوح بما سمعه منه أو رآه.
وفي الصباح، وهو اليوم السابق على يوم السفر إلى جنج، زارت المركيزة جمعيات أفينيون الخيرية وأماكنها الدينية، ووزعت فيها الصدقات الواسعة، طالبة من أهلها أن يقيموا الصلاة لأجلها ويستمطروا رحمة الله وبركاته عليها، حتى إذا ما ماتت تموت شهيدة مأجورة.
وفي المساء زارت جميع أصدقائها ومحبيها، وودعتهم والدموع تسيل على وجناتها وداع من لا يعود.
وقامت المركيزة ليلتها تصلي، ولما دخلت عليها وصيفتها لتوقظها عند الصباح وجدتها راكعة في المكان الذي تركتها فيه بالعشي.
وسافر آل جنج إلى مدينتهم دون أن يحدث حادث لهم في الطريق، ولما وصلت المركيزة إلى القصر وجدت فيه حماتها، فرأت منها سيدة كاملة نقية؛ فائتنست بوجودها، وهدأ لها روعها، ولم تعلم أنها لن تلبث في صحبتها إلا قليلا.
وأعد القوم للمركيزة أجمل غرفة في القصر، وكانت الغرفة في الطبقة الأولى منه، ومطلة على حوش لا منفذ له محاط من الخارج بإصطبلات القصر.
وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها في الغرفة عند الرقاد حتى عاد إليها روعها، فقامت تسبر جدران الغرفة وتبحث وراء أستارها وتحت فرشها بكل دقة وانتباه، فلم تدع مكانا للريب إلا فحصته.
ولم تمض بضعة أيام حتى بارحت القصر أم المركيز عائدة إلى مونبلييه. وفي اليوم الثالث لسفرها احتج المركيز بأعمال هامة تدعوه للسفر إلى أفينيون، فبارح القصر أيضا، وبقيت المركيزة في صحبة سلفيها وخوري يدعى بيريت، وهو رجل مضى عليه في خدمة آل جنج نيف وخمس وعشرون سنة، ولم يكن في القصر عدا من ذكرناهم سوى الخدم.
واهتمت المركيزة عند حلولها في المدينة بالتعرف بأهلها واستخلاص نخبتهم أصدقاء لها، وهان عليها الأمر؛ حيث كان لها من مركزها وآدابها ما يدعو كل إنسان إلى التقرب لها والتشرف بمعرفتها، فائتنست بأصدقائها الجدد، وزال عنها بعض الضجر من عزلتها في القصر.
وقد أحسنت المركيزة باتخاذها الأخدان؛ حيث تسلت بهم في وحدتها وساعدوها على قضاء أوقاتها، خصوصا بعد أن كتب لها زوجها بوجوب بقائها في جنج فصل الشتاء أيضا.
Неизвестная страница
أما الراهب والفارس، فتظاهرا بنسيان ما مضى، وعاملا المركيزة باللطف والأدب؛ فاطمأنت من وجهتمها، وكان أخوهما لم يزل غائبا. ورغما عن كل الحوادث التي انتابت المركيزة لم يزل في قلبها بقية حب وحنان لزوجها، فمع اطمئنانها من جهة أخويه ما فتئ قلبها يذكره ويتألم لبعده.
ودخل الراهب بغتة ذات يوم على المركيزة، ففاجأها وهي تبكي قبل أن تتمكن من مسح دموعها، فعرف سرها، وهان عليه حملها على الاعتراف له بما يبكيها، فقالت له: إنها لن يزول همها وينكشف غمها ما دام زوجها يعاملها هذه المعاملة الدالة على البغض والعداء. فحاول الراهب أن يعزيها ويصبرها، وقال لها في كلامه: إنها الجانية على نفسها بنفسها؛ فإنها نفرت قلب زوجها من نحوها وأثرت في صداقته لها بعمل الوصية التي حررتها على يد موثق، فجاء إشهارها بهذه الكيفية مشهرا بزوجها، ثم أبلغها أن لا تنتظر لزوجها عودة ما دامت هذه الوصية باقية.
ودخل الراهب بعد بضعة أيام لدى المركيزة حاملا كتابا يدعي أنه أتاه من أخيه، وأن به أشياء يسرها إليه، فتناولت المركيزة الكتاب وقرأته، وإذا به شكوى من زوجها لسوء معاملتها له، وأسف لفقد ثقتها منه، وكان الكتاب مشحونا بعبارات تشف عن حبه الخالص لها وكدره لضياع حظه عندها؛ مما تؤثر على كل ذي إحساس قراءته.
وقد تأثرت المركيزة فعلا من قراءة هذا الكتاب، ورق قلبها، ولكنها عادت فرأت أنه مضى من يوم محادثتها للراهب المحادثة الأخيرة وبين تاريخ هذا الكتاب زمن يكفي لإعلام المركيز بنتيجة هذا الحديث، ولهذا أخفت المركيزة ما خطر لها فعله ريثما تتضح لها حقيقة الأمر بأجلى برهان، فترى هل العواطف التي تضمنها الجواب صادقة أم موعز بها توصلا إلى غاية يرجونها.
وأخذ الراهب يسعى لدى المركيزة محتجا بأنه يعمل على التوفيق بينها وبين زوجها، فيعطف في حديثه على ذكر الوصية، ويلح على المركيزة بإبطالها، وطال إلحاحه حتى ارتابت المركيزة من أمره، وعادت إليها مخاوفها القديمة، وزاد ضغطه عليها حتى إنها اضطرت أن تجيبه إلى طلبه؛ فتستريح من جهته وتأمن جانبه، ورأت أن الإشهاد الذي احتاطت ففعلته أمام رجال أفينيون قبل مبارحتها لها يبطل ما تقرره فيما بعد.
وعندما حضر إليها الراهب أعاد ذكر الوصية، فأجابته أنها مستعدة لإبطالها؛ إكراما لخاطر زوجها، وليكون هذا العمل دليلا جديدا على صدق حبها له، وسببا في تقريبه منها. ثم أرسلت فأحضرت أحد الموثقين وأملت عليه إقرارا في حضرة سلفيها توصي فيه بجميع مالها لزوجها من بعدها، وكان صدور هذا الإقرار بتاريخ 5 مايو سنة 1667؛ فأبدى سلفا المركيزة لها جزيل فرحهما بزوال سبب الشقاق الذي كان مستحكما بينها وبين أخيهما، وأكدا لها أن سيعود زوجها إلى أحسن مما كان عليه، ومضت على ذلك بضعة أيام والمركيزة تساورها الآمال وتتوسم تحسين الحال، ثم أتى خطاب من المركيز يبشرها بالصفاء، ويعدها بقرب العودة واللقاء.
الغدر والوقيعة
أثرت الحوادث في نفس المركيزة فاعتلت صحتها، ولم تشأ أن تتناول دواء يساعدها على الشفاء علها تنتهي من حياة كلها شقاء. ولكن لما طال عليها الحال - والنفس عزيزة على كل حال - عزمت على المداواة تخفيفا لما هي فيه، فأوصت الصيدلي أن يجهز لها من الأدوية ما لا يمجه الفم ولا تأنف منه الأنف، وأن يرسل لها ما يجهزه في الصباح، فأطاع الصيدلي الإشارة، وما كادت تشرق الغزالة حتى وافاها بالشراب المطلوب، إلا أنها نظرت إليه فرأته شرابا قد اسود لونه وغلظ قوامه، تأباه العين قبل الفم، وتعافه النفس قبل اللسان؛ فكتمت ما رأته، ورفعت الشراب فاستودعته خزانتها، وتناولت بعض حبوب سهلة التناول قد اعتادت عليها من قبل.
وما كادت تمر الساعة التي يجب على المركيزة أن تتناول فيها الشراب حتى أرسل الراهب والفارس يستفسران على صحتها، فأجابتهما أنها بخير، ودعتهما إلى وليمة خفيفة أعدتها عصرا لبعض صاحباتها، ومضت ساعة فأرسل الرجلان يسألان أيضا عن صحتها، فأبلغتهما أنها على أحسن ما ترجو، ولم تفطن إلى سبب اهتمامهما بها لهذا الحد، فظنته مجاملة ولطفا.
ولبثت المركيزة في فراشها تستقبل المدعوين ببشرها المعهود، ورأت في نفسها نشاطا وخفة لم تعهدهما من قبل، ودخل الراهب والفارس فانضما إلى الحضور، وصفت الموائد إلا أنهما لم يمدا لها يدا، بل أخذ الراهب مكانه من المائدة دون أن يذوق من ألوانها شيئا، واستند الفارس إلى قوائم السرير المضطجعة عليه امرأة أخيه، وكانت علائم الانشغال بادية على محيا الراهب، وكأن فكرة تساوره وهو يهتم في إبعادها عنه، إلا أنها ملكت ناصيته فأطرق طويلا مشغولا عن الحاضرين كأنه في حلم، حتى اندهش الحاضرون لحالته وما عهدوه في مثل هذه المحافل إلا ضحوكا طروبا.
Неизвестная страница
أما الفارس فكانت عيناه لا تنصرفان عن وجه المركيزة، فلم يستلفت إليه - كأخيه - الأنظار، ولا بدع فقد كانت المركيزة ذاك المساء تستهوي بجمالها القلوب وتستوقف الأبصار. ولما تمت الدعوة أخذ الحاضرون في الانصراف فشيع الراهب السيدات إلى باب القصر، ولبث الفارس لدى المركيزة. ولكن ما كاد يختفي الراهب حتى حانت التفاتة من المركيزة نحو الفارس، فوجدته باهت اللون شاحبه لا يتمالك نفسه من الوقوف، وقد سقط على مقعد عند مؤخر السرير، فوجلت المركيزة عليه، وسألته عما به، وقبل أن يتمكن من الإجابة تحولت عنه أنظار المركيزة إذ استلفتها منظر مريع: رأت الراهب داخلا غرفتها شاحب اللون كأخيه بيده كأس وغدارة، فأغلق وراءه الباب بالقفل مرتين، فاستوت المركيزة على ركبتيها فوق السرير وقد ارتبط لسانها فلم يبد منها صوت، ولم تخرج من بين شفتيها كلمة، فاقترب منها الراهب وشفتاه ترتجفان وشعوره قائمة وعيناه يكاد يخرج منهما الشرر، فقدم لها الكأس والغدارة قائلا بعد سكوت رهيب: مولاتي، تخيري بين السم والنار.
ثم قال مشيرا لأخيه إذ سحب سيفه: وحد الحسام!
وبرق للمركيزة بارق أمل إذ رأت الفارس يستل حسامه فظنته يدفع عنها، ولكنها ما لبثت أن خاب ظنها فرأت نفسها بين عدوين، ضعيفة بين قويين، فهبطت من فوق السرير جاثية تخاطبهما: رباه! ماذا صنعت لكما؟ وبماذا أذنبت نحوكما حتى تحكما بإعدامي وقد كنتما حكمي، فكيف أصبحتما من أخصامي، ولا أرى لي ذنبا أتيته إلا صيانتي لواجباتي نحو زوجي، وهو أخوكما وشقيقكما.
ورأت المركيزة الراهب مغضبا عن كلامها، ووقفته وحركاته وأنظاره تدل على عزم ثابت ونية راسخة، فحولت أنظارها نحو أخيه قائلة: وأنت أيضا يا أخي، يالله! يالله وأنت أيضا، ألا فأشفق علي لوجه الله.
فضرب الفارس الأرض بقدمه، ووضع سن حسامه على صدر المركيزة قائلا: كفى أيتها السيدة كفى، فأسرعي باختيار ما تستهونين من أنواع المنون، وإلا فلنا الخيار ...
فالتفتت المركيزة نحو أخيه مرة أخرى فصادف فم الغدارة جبينها الطاهر، فعلمت أنها ميتة لا محالة، فاختارت أخف أسباب الموت حملا، وقالت لقاتليها: أعطياني كأس السم، وليغفر الله لكما قتلتي.
ثم تناولت الكأس ولكن لم تجسر على شربه؛ إذ وجدت فيه شرابا أسود غليظ القوام فمجته نفسها. وطمعت في استرحام عدويها؛ فحاولت أن تستلين قلبهما القاسي، فصاح بها الراهب صيحة وعيد، وأشار لها الفارس إشارة تهديد نزعا منها كل أمل في البقاء، فرفعت الكأس إلى شفتيها، وتمتمت قائلة: رباه يا مولاي ارحمني!
ثم تجرعت ما في الكأس وسقط أثناء انسكابه في فمها بعض نقط على صدرها العاري فحرقت بشرتها كأنها جمرة نار، وكأن ما تجرعته مزيجا من الزرنيخ والسليماني الأكال ممددا في ماء النار.
وظنت المسكينة أن ذلك كل ما يرجوه عدواها منها، فألقت الكأس من يدها، ولكن أسرع الراهب فالتقط الكأس، ونظر فيه فإذا به راسب ما زال لاصقا بقاعه، فتناوله على رأس سكين من الفضة وضمه إلى ما لصق بجدران الكأس فتكونت منه كرة صغيرة في حجم البندقة، فقدمها للمركيزة قائلا: هيا يا سيدتي وابتلعي مرشة الماء المقدس.
2
Неизвестная страница
فصبرت المركيزة على أحكام القدر وفتحت فمها فتناولت الراسب من رأس السكين، ولكن لم تبتلعه، بل أخفته في فمها، واستلقت على السرير صارخة تعض بأسنانها في الفراش من شدة الألم، واغتنمت هذه الفرصة فألقت بما في فمها بين الوسائد على غفلة من قاتليها، ثم التفتت لهما قائلة ويداها مضمومتان إلى صدرها: ناشدتكما الله حيث عزمتما على إهلاك جسمي في الدنيا أن لا تفقداني أمل نجاة روحي في الأخرى، فأرسلوا إلي بقسيس معرف.
وكان الراهب والفارس قد سئما النظر إلى ضحيتهما وعوامل الموت والحياة تتنازع في صدرها، ورأيا أن مهمتهما قد تمت بتجرع المركيزة كأس السم وأنه لم يعد لها في الوجود إلا نفس معدود، فخرجا عند سماع رجائها الأخير وأغلقا وراءهما الباب.
وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها حتى تهيأ لها إمكان الهروب من هذا القصر المشئوم، فأسرعت نحو النافذة فوجدتها تعلو عن سطح الأرض اثنين وعشرين قدما، ورأت تحتها كوما من الأحجار والأنقاض، وكانت ملابسها قد انحلت فأصبحت بالقميص، فارتدت تنورة فوقه، وما كادت تنتهي من ربطها على خصرها حتى أحست بأقدام آتية نحو غرفتها، فظنت أن قاتليها عائدان إليها فأسرعت نحو النافذة كمجنونة، وعندما لمست قدماها حافتها فتح الباب فألقت المسكينة برأسها من النافذة دون أن تحسب لسقطتها حسابا، وكان الداخل خوري القصر، فلما رآها على حافة النافذة أسرع فتمكن من إمساكها من تنورتها عندما ألقت بنفسها، ولكن كان قماش التنورة خفيفا فتمزق في يدي الكاهن، وسقطت المركيزة، إنما تغير لهذه المقاومة وضع جسمها عند السقوط، فبدلا عن أن تنزل على قمة رأسها سقطت على قدميها فوق الأنقاض فأصيبت فيهما ببعض رضوض ليس إلا. ورغما عن دهشتها من السقطة ألهمت أن تنتقل من المكان الذي وقعت فيه، وكأنها شعرت بأن شيئا ألقي وراءها من النافذة، فقفزت قفزة من مكانها وإذا بالساقط جرة عظيمة مملوءة ماء ألقاها الخوري اللئيم وراءها ليسحق رأسها لما رآها قد فرت من يديه، ولكن قدر الله أن تسقط الجرة عند قدمي المركيزة فتتهشم دون أن تصيبها بسوء.
ورأى الخوري خيبة مرماه فقفل راجعا نحو الراهب والفارس ليعلمهما بهروب المركيزة من القصر.
أما المركيزة فما نالت قدماها الأرض حتى خطر لها خاطر أوحى إليها به ذكاؤها الحاضر، فأدخلت خصلة من شعرها إلى حلقها لتتقايأ ما تجرعته، وسهل عليها الأمر لأنها شربت السم بعد الأكل، ومنع الأكل السم أن يؤثر في جدران المعدة؛ لعدم مباشرته لها. وكان حلوفا منزليا على مقربة منها، فأسرع بابتلاع ما تقايأته فسقط في الحال يضطرب ويتقلص وما لبث أن نفق لوقته.
وقد ذكرنا في وصف القصر أن غرفة المركيزة مطلة على حوش مقفول الجهات، فلما ألقت المركيزة بنفسها من النافذة إلى ذلك الحوش ورأته بلا منفذ ظنت أنها إنما انتقلت من سجن إلى سجن، ولكنها ما لبثت أن رأت نورا يضيء من إحدى طاقات الإصطبلات المحيطة من الخارج بهذا الحوش، فأسرعت نحوها ونظرت فوجدت سائسا للخيل يهيئ مضجعه لينام فخاطبته قائلة: بربك يا صاح نجني، إنهم سموني ويريدون قتلي؛ فأرجوك أن لا تتركني وأشفق علي وارحمني، وافتح لي هذا الإصطبل لأخرج منه وأنجو بنفسي.
فلم يفقه السائس قصة محدثته إنما رأى أمامه امرأة تستنجده وهي محلولة الشعر ممزقة الثياب تكاد تكون عريانة، فرفعها بين يديه واخترق بها الإصطبلات ثم فتح لها بابا، فإذا هي في الطريق، وكانت امرأتان مارتين فدفعها إليهما السائس دون أن ينبئهما بخبرها؛ لعدم علمه به، ولم تجد المركيزة ما تحدثهما به غير قولها: بربكما خلصاني، إني مسمومة فنجياني.
ثم تركتهما فجأة، وأخذت تعدو في الطريق كالمجنونة، فرأت على بعد خطا منها باب القصر الذي خرجت منه، ورأت قاتليها ففرت من وجهيهما؛ فاندفعا وراءها وهي تصيح أنها مسمومة، وهما يصيحان أنها مجنونة، والناس في طريقهم لا يفهمون الخبر فيفسحون لهم السبيل.
وأكسب الخوف والجزع المركيزة قوة فوق قوتها، فصارت تعدو حافية تدمي قدميها الأحجار والصخور بعد أن كان ملبسها الخز والديباج، وصارت تستغيث بالناس، وما من مغيث؛ لأن كل من كان يراها وهي على هذا الحال محلولة الشعور ممزقة الثياب حافية الأقدام تجري في الطرقات لا يظن إلا أنها مجنونة كما يقول سلفاها.
وتوصل الفارس أخيرا إلى اللحاق بها، فجرها وهي تصيح إلى أقرب منزل منه، فأغلق وراءها الباب، ووقف الراهب حارسا عليه وبيده غدارة يهدد بها كل من يحاول الدخول أو الاقتراب.
Неизвестная страница
وكان المنزل الذي جر إليه الفارس المركيزة لرجل يدعى ديبرا، وكان الرجل غائبا في ذلك الحين ولدى زوجته زائرات مجتمعات، فدخل الفارس والمركيزة يتقاتلان حتى وصلا إلى حيث اجتمع النساء، وكان من بينهن كثير من صاحبات المركيزة، فقمن لهذا المشهد مندهشات غاية الاندهاش يردن أن يخلصنها من يد هذا الوحش الضاري، فردهن الفارس قائلا: إنها أصيبت بالجنون، وكان من منظر المركيزة ما يحمل على تصديق هذا الافتراء، أما هي فأظهرت للقوم صدرها المحروق وشفتيها المسودتين من السم الذي تجرعته، وأخذت تصيح مكذبة دعواه وتعض ساعديها من الألم، وتقول: إنها مسمومة وإنها ستموت، وتلح عليهم بطلب لبن أو ماء ليطفئ اللهيب المتأجج في صدرها، فتقدمت إحدى الحاضرات وهي مدام برونيل زوجة أحد القسوس البروتستنت، فاقتربت من المركيزة ودست في يدها علبة بها لعوق، فتناولت منها المركيزة بعض قطع، وابتلعتها تلو بعضها بينما كان الفارس يلتفت وراءه، وقامت سيدة غيرها فقدمت لها قدحا من الماء، فالتفت الفارس عندما رفعت المركيزة القدح إلى فمها فكسره بين أسنانها، وقطعت إحدى شظايا الزجاج شفتيها؛ فأهاج هذا الفعل النسوة الحاضرات فقمن يردن الانقضاض على الفارس، لكن خشيت المركيزة أن يزدنه جراءة وأملت أن تضع من حدته فطلبت من الحاضرات أن يتركنها معه فتركنها بعد إلحاح ودخلن غرفة مجاورة للتي كن فيها، وكان هذا قصد الفارس.
وما كادت تختلي المركيزة بالفارس حتى ضمت يديها إلى صدرها وجثت أمامه على ركبتيها وقالت بصوت لين تسترحمه: أيها الفارس، بل أيها الأخ العزيز، أما بقي في قلبك ذرة من الشفقة علي، أنا التي كنت أخلص لك الود ولا أزال إلى هذه اللحظة أقدم دمي لآخر قطرة منه لخدمتك، أنت تعلم أني صادقة، فلماذا تعاملني بهذا العداء، وماذا يقول الناس عنك، أخي ما أشقاني إذ عاملتني بهذه القسوة، ومع ذلك فإذا أشفقت علي ووهبتني الحياة فأقسم لك أني أنسى ما مضى ولا أنسى فضلك، بل أعتبرك إلى الأبد مخلصي وصديقي الحميم.
ثم استوت المركيزة فجأة على قدميها صارخة ورفعت يدها إلى صدرها؛ ذلك لأن الفارس اللئيم اغتنم فرصة انشغالها باسترحامه فسل حسامه على غفلة منها وكان الحسام قصيرا كالخنجر فما كادت تتم حديثها حتى طعنها به في صدرها ثم أتبع الطعنة بأخرى في كتفها فمنعتها الترقوة أن تنفذ إلى داخل الجسم فحملت الطعنتين وأخذت تعدو نحو الغرفة التي انسحب إليها النساء صارخة: أغثنني، أغثنني، فقد قتلني.
وفيما هي تجري تمكن الفارس من طعنها بحسامه خمس طعنات في ظهرها، وأراد أن يزيد لولا أن انكسر السلاح في الطعنة الخامسة لشدة الضربة، وبقي طرفه غائرا في كتف المركيزة، فوقعت المركيزة على وجهها فوق الأرض مضرجة بدمائها، اندفعت ودماؤها تسيل من كل صوب حتى غمرت أرض الغرفة.
وظن الفارس أنه قضى عليها، ورأى النساء آتيات لنجدتها فترك الغرفة، ووافى أخاه بباب الدار فوجده مكانه والغدارة بيده، فجره من ساعده، فتوقف الراهب عن المسير، فقال له أخوه: هيا بنا فقد قضي الأمر.
فسار الراهب مع أخيه بضع خطوات، ولكن فتحت نافذة من المنزل، وأطلت منها النسوة يصرخن ويستنجدن؛ إذ نظرن المركيزة تحتضر، فوقف الراهب وأمسك بذراع أخيه قائلا: كيف تقول قضي الأمر أيها الفارس؛ فاستنجاد النسوة دليل على أنها لم تزل حية.
فأجابه الفارس: اذهب وتحقق الأمر بعينيك إن شئت، أما أنا فقد انقضى دوري، قال: صدقت وعلى هذا عزمت.
ثم عاد مسرعا للمنزل ورقي الدرج وهجم على الغرفة التي فيها النسوة، فوجدهن يتعاون على رفع المركيزة إلى الفراش، وهي لضعفها وكثرة ما فقدت من الدماء لا تستطيع القيام، فدفعهن الراهب وتقدم نحو المركيزة، ووضع فم الغدارة على صدرها، ولكن أسرعت مدام برونيل - التي مر بنا ذكرها - فرفعت ماسورة الغدارة عندما أطلق القاتل، فصعد العيار إلى السقف بدل أن يصيب المركيزة، فاغتاظ الراهب وأمسك الغدارة من ماسورتها وضرب بها مدام برونيل على رأسها ضربة كادت تفقدها الرشد فتسقط على الأرض، وأراد أن يثني لولا أن تكاثرت عليه النسوة، ودفعنه خارج المنزل تشيعه اللعنات والشتائم، ثم أغلقن وراءه الباب.
واغتنم القاتلان فرصة الليل فبارحا المدينة سرا، ووصلا إلى أوبيناس على مسير فرسخ من جنج نحو الساعة العاشرة مساء.
وفي أثناء ذلك كانت النسوة مهتمات بالمركيزة، فرفعنها إلى الفراش، وأردن أن يرقدنها، فحال دون ذلك نصل الحسام الغائر في كتفها، وحاولن أن يستخرجنه فلم يفلحن؛ لأنه كان ساكنا في العظم متمكنا فيه؛ فأرشدت المركيزة - على عظم ما بها - مدام برونيل إلى ما يجب عليها عمله، فجلست هذه السيدة فوق السرير وعاون النساء المركيزة على الوقوف بجواره، ثم أمسكت مدام برونيل بقطعة النصل بكلتا يديها واتكأت بركبتيها على ظهر المركيزة ثم جذبت النصل ورفعت المركيزة بقوة؛ فنجحت العملية وتمكنت المسكينة أخيرا من الاضطجاع فوق السرير، وكانت الساعة التاسعة مساء؛ أي مضت عليه ثلاث ساعات، فكانت في عذاب لم يعذبه أحد، من أمر ما مر على مخلوق.
Неизвестная страница